معاوية بن أبي سفيان
معاوية بن أبي سفيان
اصناف
لعلنا نستطيع أن نقول: إن هؤلاء الدهاة ومن جرى مجراهم قد خدعوه وسخروه لقضاء مأربهم، كما نستطيع أن نقول: إنه هو قد خدعهم وسخرهم لقضاء مآربه ... فإنهم جميعا قد أخذوا ناجزا مضمونا حيث يأخذ منهم العوض مقدرا غير مضمون، وأيا ما كان القول فليس دهاء معاوية هنا دهاء القدرة العقلية الفائقة التي أوقعت في روع أعوانه زعما تخفى عليهم حقيقته، وينقادون به إليه وهم لا يفقهون، وإنما أخذ منهم وأخذوا منه على حد سواء، وإنما أعطاهم المصلحة التي يريدونها ولا ينتظرون قضاءها عند غيره، ولم يتمكن من إعطائهم تلك المصلحة؛ إلا لأنه سبقهم إلى ولاية الشام عشرين سنة، ووضع أيديه على المرافق التي لم يكن في وسع واحد منهم أن يضع عليها يدا من أيديه.
إن رواة التاريخ العربي يحدثوننا كعادتهم في التوصيف والتقسيم، عن دهاتهم في صدر الإسلام، فيقولون: إنهم أربعة: عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومعاوية بن أبي سفيان، ويقولون: إن ابن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل كبيرة وصغيرة، ومعاوية للروية.
وهذا تقسيم صحيح في جملته على الإيجاز، وقد يعرض له بعض التعديل عند الإسهاب والتفصيل، ولكن الرأي الذي لا شك فيه أنهم جميعا من الدهاة على اختلاف نوع الدهاء، وأن دهاء الثلاثة الأولين هو الذي قادهم إلى معاوية، ولم يكن دهاء معاوية هو الذي قادهم إليه، فقد عرفوا مطالبهم وعرفوا أنهم يجدونها عند معاوية حيث لا يجدونها عند غيره، ولو أنهم استطاعوا أن ينازعوه الخلافة لما سلموها له طوعا، ولما قنعوا منه بالنصيب الذي ارتضوه في خلافته، ولكن الخلافة كانت مطلبا بعيدا عليهم، فلم يضيعوا فيه جهودهم، ونظروا إلى غاية المطالب دونه فبلغوها بجهد يسير.
لم تكن لأحد منهم ولاية تمتد فتشمل سائر الولايات، وتنتهي بذلك إلى الخلافة إلا زياد بن أبيه، فإنه كان واليا على أقاليم من فارس يخشى بأسه لما عنده من المال والجند، ولكنه مغمور النسب يدعونه بابن أبيه قبل أن ينسبه معاوية إلى أبي سفيان، ولن يسلس زمام الخلافة لرجل مثله إلى جانب طالب من طلابها، كمعاوية أو من دون معاوية في النسب والمكانة ...
أما ابن العاص والمغيرة بن شعبة، فقد كانا من آحاد الرعية يوم نشب النزاع على الخلافة بين عميد بني هاشم علي بن أبي طالب وعميد بني أمية معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن لأحدهما جند ولا مال ولا عصبة تنافس العصبة الهاشمية أو العصبة الأموية، فهما خليقان أن ينظرا إلى المطلب الميسور حيث تيسر، وقد نظرا إليه فلم يعرفا له طريقا أقرب من طريق معاوية، وبخاصة بعد مقتل علي رضوان الله عليه.
وقصة كل رجل من هؤلاء الدهاة الثلاثة لا تدع محلا للظن بأنهم سيقوا إلى نصرة معاوية مخدوعين، أو منقادين بحيلة من حيل الدهاء، بل هي حرية أن تنبئنا بغلبتهم على معاوية في المبادلة، وأنهم أخذوا منه فوق ما أعطوه، وأنه هو قد أعطاهم شيئا في اليد حين كان عطاؤهم كله شيئا في التقدير، إما من قبيل الأمل المنظور أو من قبيل الخوف المحذور ...
دعا عمرو بن العاص ولديه عبد الله ومحمدا، فقال لهما: إني قد رأيت رأيا ولستما باللذين ترداني عن رأيي، ولكن تشيران علي ... إني رأيت العرب صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة، ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟
قال عبد الله، وهو من أهل التقوى: إن كنت لا بد فاعلا فإلى علي ...
قال عمرو: إني إن أتيت عليا يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره، وكان محمد ابنه الآخر على هذا الرأي، فقال لهما عمرو: أما أنت يا عبد الله فقد اخترت لآخرتي، وأما أنت يا محمد فقد اخترت لدنياي.
ويروى أنه لما استشارهما، قال له عبد الله: إن النبي - عليه السلام - قد توفي والشيخان بعده وهم راضون عنك، فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس، وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب، فكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت؟ فأجابهما بما تقدم وأتى معاوية، فوجدهم يطلبون دم عثمان فمضى معهم يقول: اطلبوا دم الخليفة المقتول.
نامعلوم صفحہ