1 - امرؤ القيس
2 - طرفة بن العبد
3 - زهير بن أبي سلمى
4 - لبيد بن ربيعة
5 - عمرو بن كلثوم
6 - عنترة بن شداد
7 - الحارث بن حلزة
8 - الأعشى ميمون
9 - ترجمة النابغة الذبياني
10 - عبيد بن الأبرص
11 - المعلقات أو القصائد العشر الطوال
1 - امرؤ القيس
2 - طرفة بن العبد
3 - زهير بن أبي سلمى
4 - لبيد بن ربيعة
5 - عمرو بن كلثوم
6 - عنترة بن شداد
7 - الحارث بن حلزة
8 - الأعشى ميمون
9 - ترجمة النابغة الذبياني
10 - عبيد بن الأبرص
11 - المعلقات أو القصائد العشر الطوال
المعلقات العشر وأخبار شعرائها
المعلقات العشر وأخبار شعرائها
تأليف
أحمد بن الأمين الشنقيطي
الفصل الأول
امرؤ القيس
مات سنة 80 قبل الهجرة و565 للميلاد
نسبه وكنيته
هو امرؤ القيس بن حجر (بضم الحاء والجيم، وليس بهذا الضبط غيره) بن الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع. هكذا نسبه الأصمعي، وزاد الحارث بن معاوية: «وثور.» وقال إن ثورا هو كندة، وهكذا ساق نسبه ابن حبيب، وزاد يعرب بين الحارث بن معاوية، وثور بن مرتع بن معاوية بن كندة. وقال بعض الرواة: هو امرؤ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور وهو كندة. وقال ابن الأعرابي: ثور هو كندة بن عفير بن الحارث بن مرة بن عدي بن أدد بن زيد بن عمرو بن مسمع بن عريب ابن زيد بن كهلان بن سبأ.
ويكنى امرؤ القيس أبا وهب، وكان يقال له: الملك الضليل. وقيل له ذو القروح؛ لقوله:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
لعل منايانا تحولن أبؤسا
قلت: واختلف في آكل المرار، فنقل العلامة عبد القادر البغدادي عن الشريف الجواني أن في آكل المرار خلافا، هل هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، أو هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية؟ وإنما سمي الحارث بآكل المرار؛ لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم - وكان الحارث غائبا - فغنم وسبى، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني امرأة الحارث، فقالت لعمرو بن الهبولة في مسيره: لكأني برجل أدلم أسود كأن مشافره مشافر بعير آكل المرار، قد أخذ برقبتك. تعني الحارث فسمي آكل المرار (المرار: كغراب شجر إذا أكلته الإبل تقلصت مشافرها)، ثم تبعه الحارث في بكر بن وائل، فلحقه وقتله، واستنقذ امرأته وما كان أصاب. وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: آكل المرار هو جد امرئ القيس الشاعر ابن حجر. وقال الميداني عند شرحه للمثل «لا غزو إلا التعقيب»: أول من قال ذلك حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار. وساق حديثه مع ابن الهبولة، وقتله إياه، وذكر في آخره أنه قتل هند الهنود لما استنقذها منه.
طبقته في الشعراء
امرؤ القيس فحل من فحول أهل الجاهلية، وهو رأس الطبقة الأولى، وقرن بن ابن سلام زهيرا والنابغة وأعشى قيس، والأكثر على تقديم امرئ القيس. قال يونس بن حبيب: إن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس بن حجر، وإن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرا والنابغة. وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القرح. يعني امرأ القيس، وسئل لبيد: من أشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل. قيل: ثم من؟ قال: ابن العشرين. يعني طرفة، قيل له: ثم من؟ أبو عقيل. يعني نفسه.
وليس مراد من قدم امرأ القيس أنه قال ما لم تقله العرب، ولكنه سبقهم إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب، واتبعه فيها الشعراء، منها: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبيض، والخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد. ويدل على تقدمه في الشعر ما روي أنه وفد قوم من اليمن على النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: يا رسول الله، أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر. قال: وكيف ذلك؟ قالوا: أقبلنا نريدك فضللنا الطريق فبقينا ثلاثا بغير ماء، فاستظللنا بالطلح والسمر، فأقبل راكب ملتثم بعمامة، وتمثل رجل ببيتين وهما:
ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر. قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم. قال: فجثونا على الركب إلى ماء كما ذكروا عليه العرمض يفيء عليه الطلح، فشربنا رينا وحملنا ما يكفينا، ويبلغنا الطريق. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة ومعه لواء الشعراء إلى النار. وروي: يتدهدى بهم في النار. فيروى أن كلا من لبيد وحسان بن ثابت قال: ليت هذا المقال في، وأنا المدهدى في النار.
ونقل السيوطي عن ابن عساكر عن ابن الكلبي قال: أتى قوم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فسألوه عن أشعر الناس، فقال: ائتوا حسان. فقال: ذو القروح - يعني امرأ القيس - إلا أنه لم يعقب ولدا ذكرا بل إناثا. فرجعوا فأخبروا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدق؛ رفيع في الدنيا، خامل في الآخرة، شريف في الدنيا، وضيع في الآخرة، هو قائد الشعراء إلى النار. ولا قول لأحد مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فسقطت التفاصيل الواردة عن العلماء بالشعر. ولا يحتج بقوله تعالى:
وما علمناه الشعر
لأن المراد ما علمناه قوله، وإلا فإن معرفة معاني كلام العرب مقصورة عليه
صلى الله عليه وسلم .
هاجسه ورقيه من الجن
وهاجس
1
امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. حدث رجل من أهل الشام أنه خرج في طلب لقاح له فحل كأنه فدن يسبق الريح حتى دفعه إلى خييمة وبفنائها شيخ كبير، قال: فسلمت فلم يرد علي، فقال: من أين؟ وإلى أين؟ قال: فاستحمقته إذ بخل برد السلام وأسرع إلى السؤال، فقلت: من ها هنا - وأشرت إلى خلفي - وإلى ها هنا - وأشرت إلى أمامي. فقال: أما من ها هنا فنعم، وأما إلى ها هنا فوالله ما أراك تبهج بذلك إلا أن يسهل عليك مداراة من ترد عليه. قلت: وكيف ذلك أيها الشيخ؟ قال: لأن الشكل غير شكلك، والزي غير زيك. فضرب قلبي أنه من الجن. وقلت: أتروي من أشعار العرب شيئا؟ قال: نعم وأقول. قلت: فأنشدني. كالمستهزئ به، فأنشدني قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فلما فرغ، قلت: لو أن امرأ القيس ينشر لردعك عن هذا الكلام. فقال: ماذا تقول؟ قلت: هذا لامرئ القيس. قال: لست أول من كفر نعمة أسداها. قلت: ألا تستحي أيها الشيخ؟! ألمثل امرئ القيس يقال هذا؟! قال: أنا والله منحته ما أعجبك منه. قلت: فما اسمك؟ قال: لافظ بن لاحظ. فقلت: اسمان منكران. قال: أجل. فاستحمقت نفسي له بعدما استحمقته لها، وقد عرفت أنه من الجن.
حال امرئ القيس وأوليته
ولما نشأ امرؤ القيس طرده أبوه، واختلف في سبب ذلك، فقيل إنه لما ترعرع علق النساء، وأكثر الذكر لهن والميل إليهن، فكره ذلك أبوه حجر، فقال: كيف أصنع به؟ فقالوا: اجعله في رعاء إبلك، حتى يكون في أتعب عمل. فأرسله في الإبل، فخرج بها يرعاها يومه، ثم آواها مع الليل، وجعل ينيخها ويقول: يا حبذا طويلة الأقراب، غزيرة الحلاب، كريمة الصحاب، يا حبذا شداد الأوراك، عراض الأحناك، طوال الأسماك. ثم بات ليلته يدور إلى متحدثه حيث كان يتحدث. فقال أبوه: ما شغلته بشيء. قيل له: فأرسله في الخيل. فأرسله في خيله فمكث فيها يومه، حتى آواها مع الليل، فدنا أبوه حجر يسمع، فإذا هو يقول: يا حبذا إناثها نساء، وذكورها ظباء، عدة ونساء، نعم الصحاب راجلا وراكبا، تدرك طالبا، وتفوت هاربا. قال أبوه: والله ما صنعت شيئا. فبات ليلته يدور حواليها، قيل له: اجعله في الضأن. فمكث يومه فيها، حتى إذا أمسى أراحها، فجاءت أمامه وجاء خلفها، فلما بلغت المراح، ودنا أبوه يسمع قال: أخزاها الله لا تهتدي طريقا، ولا تعرف صديقا، أخزاها الله لا تطيع راعيا، ولا تسمع داعيا. ثم سقط ليلته لا يتحرك، فلما أصبح قال أبوه: اخرج بها. فمضى حتى بعد من الحي، وأشرف على الوادي، فحثا في وجهها التراب فارتدت، وجعل يقول: حجر في حجر، حجر لا مدر، هبهاب لحم وإهاب، للطير والذئاب. فلما رأى أبوه ذلك منه، وكان يرغب به عن النساء والشعر، وأبى أن يدع ذلك، فأخرجه عنه، فخرج مراغما لأبيه.
فكان يسير في العرب يطلب الصيد والغزل حتى قتل أبوه، وقيل: إن سبب طرد أبيه إياه أنه كان يتعشق امرأته هرا، وهذا غير معروف من أخلاق العرب، وغاية ما في ذلك أن الأب بعد موته كانت امرأته يكون أكبر أولاده من غيرها وليها، فإن شاء تزوجها، وإن شاء منعها حتى تموت، وإن شاء زوجها من غيره.
خبره بعد مقتل أبيه
قيل إن حجرا والد امرئ القيس لما قتله بنو أسد في قصة طويلة - وكان طعنه أحدهم ولم يجهز عليه - أوصى، ودفع كتابه إلى رجل، وقال له: انطلق إلى ابني نافع - وكان أكبر ولده - فإن بكى وجزع فاله عنه، واستقرهم واحدا واحدا، حتى تأتي امرأ القيس - وكان أصغرهم - فأيهم لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله، وكيف كان خبره، فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه، ثم استقراهم واحدا واحدا، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس، فوجده مع نديم له يشرب الخمر، ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر. فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه فقال له امرؤ القيس: اضرب. فضرب، حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه فأخبره فقال: الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة، وأجز نواصي مائة. وقيل: إنه لما خرج مراغما له كان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذهم من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا عنه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل معه إلى غيره، فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون أتاه به رجل من بني عجل يقال له: عامر الأعور، فلما أتاه بذلك قال:
تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون
ثم قال: ضيعني صغيرا، وحملني ثأره كبيرا. لأصحو اليوم، ولأسكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر. فذهبت مثلا؛ أي يشغلنا اليوم خمر، وغدا يشغلنا أمر يعني أمر الحرب، وهذا المثل يضرب للدول الجالبة للمحبوب والمكروه، ثم شرب سبعة أيام ثم قال:
أتاني وأصحابي على رأس صيلع
حديث أطار النوم عني وأنعما
وقلت لعجلي بعيد مآبه
تبين وبين لي الحديث المعجما
فقال أبيت اللعن عمرو وكاهل
أباحوا حمى حجر فأصبح مسلما
وله في ذلك أشعار كثيرة منها:
والله لا يذهب شيخي باطلا
حتى أبير مالكا وكاهلا
القاتلين الملك الحلاحلا
خير معد حسبا ونائلا
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا
نحن جلبنا القرح القوافلا
يحملنا والأسل النواهلا
مستفرمات بالحصى جوافلا
خبره مع بني أسد
ثم أخذ امرؤ القيس يستعد لبني أسد، فبلغهم ذلك، فأوفدوا إليه رجالا من ساداتهم فأكرم منزلهم، واحتجب عنهم ثلاثة أيام، ثم خرج عليهم في قباء وخف وعمامة سوداء إشعارا بأنه طالب بثأر أبيه، فلما لقيهم بدروه بالثناء عليه وعلى أبيه، وقالوا له: إن الواجب عليك أن ترضى منا بإحدى خلال نسميها لك: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتا فقدناه إليك بنسعه فتذبحه، أو ترضى منا بفداء بالغ ما بلغ، فأديناه إليك من نعمنا، فترد القضب إلى أجفانها، وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل، وتتأهب للحرب. فبكى امرؤ القيس ساعة، ثم رفع رأسه، وقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر، وأني لن أعتاض به جملا أو ناقة فأكتسب بذلك مسبة. وكانت العرب تتذمم من ذلك، قال شاعرهم يخاطب امرأته:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
ثم قال لهم: وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك. ثم ارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكرا وتغلب عليهم أخواه شرحبيل وسلمة ، فاستنصرهما على بني أسد فنصراه، فنذر بنو أسد بما جمع لهم فرحلوا فأوقع امرؤ القيس ببني كنانة وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم، وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام! فخرجت إليه عجوز من بني كنانة، فقالت: أبيت اللعن لسنا لك بثأر، نحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم؛ فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه فقال:
ألا يا لهف هند إثر قوم
هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم
وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضا
ولو أدركنه صفر الوطاب
ثم إنه اتبع بني أسد حتى لحقهم وقد استراحوا ونزلوا على الماء وهو ومن معه في غاية التعب والعطش، فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى والجرحى، وحجز بينهم الليل، فهربت بنو أسد، فلما أسفر الصبح أراد أن يتبعهم، فامتنعت بكر وتغلب، وقالوا له: قد أصبت ثأرك. فقال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل أحدا، وكان قد قال:
والله لا يذهب شيخي باطلا
حتى أبير مالكا وكاهلا
فلما امتنعوا من المسير معه استنصر مرثد الخير وهو من أقيال حمير، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس، فأنفذ له ذلك قرمل الذي جلس في مكان مرثد، واستأجر كثيرا من صعاليك العرب، فسار إلى بني أسد، ومر على ذي الخلصة، وهو صنم كانت العرب تعظمه فاستقسم عنده بقداحه وهي ثلاثة الآمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي ثلاث مرات، وكلما أجالها يخرج الناهي. فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم، وقال: لو كان المقتول أباك ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد.
مطاردة المنذر له وخبر موته
ثم إن المنذر حارب امرأ القيس، وألب العرب عليه، وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة، فسرحهم في طلبه، فانفضت جموعه فنجا مع عصبة من بني آكل المرار، حتى نزل بالحارث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة ومعه أدرعه الخمس، وهي الفضفاضة والضيافة والمحصنة والخريق وأم الذيول، وكانت هذه الأدرع يتوارثها بنو آكل المرار ملكا عن ملك، فلما بلغ المنذر أن امرأ القيس استقر عند الحارث المذكور، بعث إليه يتهدده إن لم يسلم إليه بني آكل المرار فسلمهم إليه، ونجا امرؤ القيس بما قدر على أخذه معه من المال والسلاح والأدرع المذكورة، فلجأ إلى السموأل بن عادياء الغساني ثم اليهودي مذهبا، وكان معه فزاري يدعى الربيع، فقال له: امدح السموأل فإن الشعر يعجبه. فنزل به وأنشده مديحه فيه، فأكرم مثواه، وترك عنده ابنته هند، وكتب له كتابا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأمره أن يوصله إلى قيصر ففعل، ولما وصل إلى قيصر قبله وأكرمه وأمده بجيش كثيف، وفيهم جماعة من أبناء الملوك، وكان رجل يقال له الطماح من بني أسد واجدا على امرئ القيس؛ لأنه قتل أخاه فيمن قتل، فاندس إلى قيصر وقال له: إن امرأ القيس عاهر، وإنه لما انصرف عنك ذكر أن ابنتك عشقته، وأنه كان يواصلها، وهو قائل في ذلك شعرا يشهرها به في العرب ويفضحها. فبعث إليه حينئذ بحلة منسوجة بالذهب، وأودعها سما قاتلا، وكتب إليه: «إني أرسلت إليك حلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل منزل.» فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده؛ فلذلك سمي «ذا القروح»، وعلم أن الطماح هو سبب ذلك، فقال سينيته التي منها:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه
ليلبسني من دائه ما تلبسا
ومنها:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
لعل منايانا تحولن أبؤسا
فلما وصل إلى بلدة من بلاد الروم يقال لها أنقرة، احتضر بها وقال: «رب طعنة مثعنجره، وخطبة مسحنفره، تبقى غدا بأنقره.» ويروى في هذه الكلمات غير ذلك. وقال ابن الكلبي: هذا آخر شيء تكلم به ثم مات، قيل: رأى قبر امرأة ماتت هناك وهي غريبة، فدفنت في سفح جبل يقال له: عسيب، فسأل عنها وأخبر بقصتها فقال:
أجارتنا إن المزار قريب
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب نسيب
ثم مات ودفن إلى جنب المرأة فقبره هناك. كذا قال أبو الفرج الأصبهاني وهو غلط محض؛ لأن عسيبا جبل بعالية نجد، وأنقرة من بلاد الروم، ولا يدل ضربه المثل بإقامة عسيب على أنه دفن به.
شيء من سيرته
وروي أن امرأ القيس آلى أن لا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين، فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر، فبينا هو يسير في جوف الليل إذ هو برجل يحمل له ابنة صغيرة كأنها البدر في ليلة تمامه، فأعجبته فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوجه إياها، وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائه بها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك على أن يسوق إليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس، ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبدا له إلى المرأة، وأهدى إليها نحيا من سمن، ونحيا من عسل، وحلة من عصب، فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها، فتعلقت بشعرة، فانشقت وفتح النحيين فأطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع إليها هديتها، فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكما نضبا. فقدم الغلام على مولاه فأخبره فقال: أما قولها: «إن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا.» فإن أباها ذهب يحالف قوما على قومه، وأما قولها: «ذهبت أمي تشق النفس نفسين.» فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء، وأما قولها: «إن أخي يراعي الشمس.» فإن أخاها في سرح له.
وكان امرؤ القيس مفركا لا تحبه النساء، ولا تكاد امرأة تصبر معه، فتزوج امرأة من طيئ فابتنى بها فأبغضته من ليلتها، وكرهت مكانها معه، فجعلت تقول: يا خير الفتيان أصبحت. فيرفع رأسه، فينظر فإذا الليل كما هو، فتقول: أصبح ليل. قال لها: قد علمت ما صنعت الليلة، وقد علمت أن ما صنعت من كراهية مكاني في نفسك، فما الذي كرهت مني؟ فقالت: ما كرهتك. فلم يزل بها حتى قالت: كرهت منك أنك خفيف العزلة ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. وذهب قولها: «أصبح ليل.» مثلا يضرب في الليلة الشديدة التي يطول فيها الشر. حكى هذه القصة الميداني. وروي من غير هذا الوجه أنه لما جاور في طيئ نزل به علقمة الفحل التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك فتحاكما إليها، فأنشد امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:
خليلي مرا بي على أم جندب
نقض لبانات الفؤاد المعذب
حتى مر بقوله:
فللسوط ألهوب وللساق درة
وللزجر منه وقع أهوج منعب
وأنشد علقمة قوله:
ذهبت من الهجران في غير مذهب
ولم يك حقا كل هذا التجنب
حتى انتهى إلى قوله:
فأدركهن ثانيا من عنانه
يمر كغيث رائح متحلب
فقالت له: علقمة أشعر منك. فقال: وكيف؟ فقالت: لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك، وضربته بسوطك، وإنه أدرك الصيد ثانيا من عنان فرسه. فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته، فطلقها فتزوجها علقمة، وبهذا لقب علقمة الفحل.
مماتنته الشعراء
وكان امرؤ القيس ينازع من يدعي الشعر، فنازع الحارث بن التوءم اليشكري، فقال: إن كنت شاعرا فأجز أنصاف ما أقول. فقال الحارث: قل ما شئت.
فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقا هب وهنا
فقال الحارث:
كنار مجوس تستعر استعارا
فقال امرؤ القيس:
أرقت له ونام أبو شريح
فقال الحارث:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
فقال امرؤ القيس:
كأن هزيزه بوراء غيب
فقال الحارث:
عشار واله لاقت عشارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أن دنا لقفا أضاخ
فقال الحارث:
وهت أعجاز ريقه فحارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يترك بذات السر ظبيا
فقال الحارث:
ولم يترك بجلتها حمارا
قال أبو حيان في شرح التسهيل: هذه القصة رد على من شرط في الكلام صدوره من شخص واحد، يعني أن النحاة يقولون: إذا قال شخص: زيد، وقال آخر: قائم، لا يسمى هذا كلاما عندهم. وما قاله أبو حيان واضح في بعض هذا الرجز.
ولقي عبيد بن الأبرص الأسدي امرأ القيس يوما فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال له: ألق ما شئت، فقال عبيد:
ما حية ميتة أحيت بميتتها
درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
وروي: ما حية ميتة قامت ... فقال امرؤ القيس:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها
فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
في عدة أبيات، إلى أن قال عبيد:
ما القاطعات لأرض الجو في طلق
قبل الصباح وما يسرين قرطاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني تتركن الفتى ملكا
دون السماء ولم ترفع به راسا
فقال عبيد:
ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر
ولا لسان فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمن أنزلها
رب البرية بين الناس مقياسا
وهذه الحكاية رواها علي بن ظافر في كتاب «بدائع البدائه» وفي النفس منها شيء؛ لأن امرأ القيس يبعد تصديقه بالموازين، أما حكاية ابن التوءم فقد نقلها الأعلم وغيره صحيحة.
الفصل الثاني
طرفة بن العبد
مات سنة 70 قبل الهجرة و550 أو 552 للميلاد
نسبه ومكانه في الشعراء
هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. وطرفة - بالتحريك - في الأصل واحدة الطرفاء وهو الأثل، وبها لقب طرفة، واسمه عمرو. وهو أشعر الشعراء بعد امرئ القيس ومرتبته ثاني مرتبة؛ ولهذا ثني بمعلقته. قال عبد القادر البغدادي: ولا يعارض هذا ما تقدم في ترجمة امرئ القيس من الخلاف في الأربعة: امرئ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى؛ لأن المراد معلقته فقط إذ ليس له فيما عداها ما يوازن حوليات زهير.
قال ابن قتيبة: هو أجود الشعراء قصيدة، وله بعد المعلقة شعر حسن، وليس عند الرواة من شعره وشعر عبيد إلا القليل، وهذا الكلام وقفت عليه في بعض كتب الجاحظ، قال: وإلا لكانت منزلتهما دون ما يقال، وهذا يستقيم في عبيد؛ لأنه عمر كثيرا، أما طرفة فإنه قتل وهو ابن ست وعشرين سنة كما قالت أخته:
عددنا له ستا وعشرين حجة
فلما توافاها استوى سيدا ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه
على خير حال لا وليدا ولا قحما
وقول عبد القادر البغدادي إنه في الرتبة الثانية من الشعر مخالف لقول ابن سلام فيه؛ فإنه عده في الطبقة الرابعة وقرنه بعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل التميمي، وعدي بن زيد العبادي. قال: فأما طرفة فأشعرهم واحدة وهي قوله:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
ويليها أخرى مثلها وهي:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر
ومن الحب جنون مستعر
ثم من بعد له قصائد حسان جياد، قال محمد بن خطاب: قال الذين قدموا طرفة هو أشعرهم إذ بلغ بحداثة سنه ما بلغ القوم في طول أعمارهم، وإنما بلغ نيفا وعشرين سنة، وقيل: بل عشرين سنة، فخب وركض معهم.
ذكاؤه وشيء من خبره
وكان طرفة في صغره ذكيا حديد الذهن، حضر يوما مجلس عمرو بن هند، فأنشد المسيب بن علس قصيدته التي يقول فيها:
وقد تلاقى الهم عند احتضاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة: استنوق الجمل. وذلك أن الصيعرية من سمات النوق دون الفحول، فغضب المسيب، وقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: طرفة بن العبد. فقال: ليقتلنه لسانه. فكان كما تفرس فيه.
ومات أبو طرفة وهو صغير، فأبى أعمامه أن يقسموا ماله، وكانت أم طرفة من بني تغلب واسمها وردة فقال:
ما تنظرون بحق وردة فيكم
صغر البنون ورهط وردة غيب
قد يبعث الأمر العظيم صغيره
حتى تظل له الدماء تصبب
والظلم فرق بين حيي وائل
بكر تساقيها المنايا تغلب
في أبيات. ويقال: إن أول شعر قاله أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخا فلما أراد الرحيل قال:
يا لك من قبرة بمعمر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
قد رفع الفخ فماذا تحذري
لا بد يوما أن تصادي فاحذري
والأشطار الثلاثة الأولى مذكورة في قصة كليب، وهو أقدم من طرفة. ويروى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
تمثل بقوله: «بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد.» ولعل المراد أنه تمثل به مقلوبا أو نحو ذلك؛ لأن الله ما علمه الشعر وما ينبغي له.
خبر مقتله
وسبب قتله أنه هجا عمرو بن هند وقابوس أخاه بقصيدته التي منها:
فليت لنا مكان الملك عمرو
رغوثا حول قبتنا تخور
ومنها:
لعمرك أن قابوس بن هند
ليخلط ملكه نوك كبير
فلم تبلغ عمرا لأنه كان لا يجسر أحد أن يخبره لشدة بأسه، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة؛ لشدة بأسه. فاتفق أن عمرو بن هند هذا خرج يوما للصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفر من أصحابه، حتى أصاب طريدته، فنزل وقال لأصحابه: اجمعوا حطبا. وفيهم عبد عمرو بن مرثد أحد أقارب طرفة، فقال لهم عمرو: أوقدوا. فأوقدوا وشووا، فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم إليه إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقا، فأبصر كشحه، وكان من أحسن أهل زمانه جسما، وقد كان بينه وبين طرفة أمر وقع بينهما منه شر، فهجاه طرفة بقصيدته التي يقول فيها:
ولا خير فيه غير أن له غنى
وأن له كشحا إذا قام أهضما
فقال له عمرو بن هند: يا عبد عمرو لقد أبصر طرفة كشحك حيث يقول: «ولا خير فيه غير أن له غنى ...» البيت، فغضب عبد عمرو وقال: لقد قال في الملك أقبح من هذا. فقال عمرو بن هند: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو على الذي سبق منه وأبى أن يسمعه ما قال، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن. فأسمعه القصيدة، فسكت عمرو على ما وقر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لمكان قومه، فلما طالت المدة ظن طرفة أنه قد رضي عنه، وكان المتلمس - وهو جرير بن عبد المسيح - هجا عمرو بن هند أيضا، فقدما إليه فجعل يريهما المحبة ليأنسا به، فلما طال مقامهما عنده قال لهما: لعلكما اشتقتما إلى أهلكما. قالا: نعم. فكتب لهما إلى عامله بالبحرين وهجر واسمه ربيعة بن الحارث العبدي - وقيل: اسمه المعكبر - فلما هبط النجف - وقيل: أرضا قريبة من الحيرة - إذا هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقتل القمل، فقال له المتلمس: بالله ما رأيت شيخا أحمق منك، ولا أقل عقلا. فقال له الشيخ: وما الذي أنكرت علي؟ فقال: تتبرز وتأكل وتقتل القمل! قال: إني أخرج خبيثا، وأدخل طيبا، وأقتل عدوا، ولكن أحمق مني من يجعل حتفه بيمينه وهو لا يدري. فتنبه المتلمس، فإذا هو بغلام من أهل الحيرة، فقال له: يا غلام أتقرأ؟ قال: نعم. ففتح كتابه ودفعه إليه، فلما نظر إليه، قال: ثكلت المتلمس أمه. وإذا في الكتاب: «إذا أتاك المتلمس، فاقطع يديه ورجليه، وادفنه حيا.» فرمى المتلمس صحيفته في نهر يقال له: كافر، وفي ذلك يقول:
وألقينها بالثنى من بطن كافر
كذلك أقنو كل قط مضلل
وضرب بصحيفته المثل، ثم تبع طرفة ليرده فلم يدركه، وقيل بل أدركه، وقال له: تعلم أن ما كتب فيك إلا بمثل ما كتب في، فقال طرفة: إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي. فهرب المتلمس إلى الشام، وانطلق طرفة إلى العامل المذكور، حتى قدم عليه بالبحرين وهو بهجر، فدفع إليه كتاب عمرو بن هند فقرأه، فقال: تعلم ما أمرت به فيك؟ قال: نعم أمرت أن تجيزني وتحسن إلي. فقال له العامل: إن بيني وبينك خئولة أنا لها راع، فاهرب من ليلتك هذه، فإني قد أمرت بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال له طرفة: اشتدت عليك جائزتي، وأحببت أن أهرب، وأجعل لعمرو بن هند علي سبيلا، كأني أذنبت ذنبا، والله لا أفعل ذلك أبدا، فلما أصبح أمر بحبسه، وجاءت بكر بن وائل فقالت: قدم طرفة فدعا به صاحب البحرين، فقرأ عليهم كتاب الملك، ثم أمر بطرفة فحبس وتكرم عن قتله، وكتب إلى عمرو بن هند أن ابعث إلى عملك فإني غير قاتل الرجل. فبعث إليه عمرو بن هند رجلا من بني تغلب يقال له عبد هند، واستعمله على البحرين، وكان رجلا شجاعا، وأمره بقتل طرفة وقتل ربيعة بن الحارث العبدي فقدمها عبد هند، فقرأ عهده على أهل البحرين، ولبث أياما، واجتمعت بكر بن وائل فهمت به، وكان طرفة يحضهم وانتدب له رجل من عبد القيس، ثم من الحواثر يقال له أبو ريشة فقتله، فقبره معروف بهجر بأرض منها لقيس بن ثعلبة. ويزعمون أن الحواثر ردته إلى أبيه وقومه لما كان من قتل صاحبهم إياه كذا قال ابن السكيت: ويعارضه ما تقدم من أن أباه مات وهو صغير. ولما حبسه العبدي المتقدم بعث إليه بجارية اسمها خولة فلم يقبلها، وفي ذلك يقول:
ألا اعتزليني اليوم يا خول أو غضي
فقد نزلت حدباء محكمة العض
ومنها البيت المشهور يخاطب به عمرو بن هند:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
الفصل الثالث
زهير بن أبي سلمى
مات سنة 14 قبل الهجرة و608 للميلاد
نسبته وكنيته
هو زهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني، من مزينة بن أدبن طابخة بن إلياس بن مضر، وكانت محلتهم في بلاد غطفان: «وسلمى بضيم السين، وليس في العرب سلمى بضم السين غيره، ورياح بكسر الراء، وبعدها مثناة تحتية.»
طبقته في الشعراء
وزهير أحد الشعراء الثلاثة المتقدمين على الشعراء بالاتفاق، وإنما اختلفوا في تعيين أيهم أشعر على الآخر، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني. كذا قال عبد القادر البغدادي، وتقدم في ترجمة امرئ القيس أن الأعشى داخل في ذلك الخلاف، وأهل الكوفة يقدمونه. وفي الجمهرة لابن خطاب باب ذكر طبقة من سمينا منهم، قال أبو عبيدة: أشعر الناس أهل الوبر خاصة وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة. ولم يذكر صاحب الأغاني الأعشى مع هؤلاء. وقال عمر بن الخطاب لابن عباس رضي الله عنهم: هل تروي لشاعر الشعراء؟ قال: ومن هو؟ قال: الذي يقول:
ولو أن حمدا يخلد الناس خلدوا
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
قال ابن عباس: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قال ابن عباس: وبم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدا إلا بما فيه . وفي رواية أنه قال له: أنشدني له. قال ابن عباس: فأنشدته حتى برق الفجر، فقال: حسبك الآن، اقرأ. قال: قلت: فما أقرأ؟ قال: اقرأ الواقعة. قال: فقرأتها فنزل فأذن وصلى.
وسمر بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري وهو والي البصرة ليلة، فقال لأهل سمره: أخبروني بالسابق والمصلي. فقالوا: أخبرنا أنت أيها الأمير. وكان أعلم العرب بالشعر، فقال: السابق الذي سبق بالمدح فقال:
وما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وأما المصلي - يعني النابغة - فهو الذي يقول:
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
وسأل عكرمة بن جرير أباه: من أشعر الناس؟ قال: أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ قال: قلت: ما أردت إلا الإسلام، فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها. قال: زهير أشعر أهلها. قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبغة الشعر. قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك، ويصيب وصف الخمر. قلت: فما تركت لنفسك؟ قال: نحرت الشعر نحرا.
وسأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، فقال: زهير. قال: وكيف ذاك؟ قال: كف عن المادحين فضول الكلام. قال: بماذا؟ قال: بقوله: «وما يك من خير أتوه ...» البيت المتقدم.
اختصاص زهير بهرم بن سنان
وعن الأصمعي، قال: قال عمر - رضي الله عنه - لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني مدح زهير أباك. فأنشده فقال عمر: إن كان ليحسن القول فيكم، فقال: ونحن - والله - إن كنا لنحسن له العطاء. فقال: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم. قال: وبلغني أن هرم بن سنان كان قد حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدا أو وليدة أو فرسا، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: انعموا صباحا غير هرم وخيركم استثنيت. وعطايا هرم لزهير مشهورة، قال محمد البوصيري - رحمه الله - يخاطب رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
ولم أرد زهرة الدنيا التي اقتطفت
يدا زهير بما أثنى على هرم
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض ولد زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لا يبليها الدهر. وروي أن عائشة - رضي الله عنها - خاطبت إحدى بنات زهير بهذه المقالة.
إجادته في الشعر وحولياته
وكان زهيرا حكيما في شعره، ويكفي من ذلك ما في معلقته قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وشبه امرأة بثلاثة أوصاف في بيت واحد فقال:
تنازعها المها شبها ودر ال
بحور وشاكهت فيها الظباء
وروي «النحور» موضع «البحور»، و«شابهت» موضع «شاكهت». ثم قال ففسر:
فأما ما فويق العقد منها
فمن أدماء مرتعها الخلاء
وأما المقلتان فمن مهاة
وللدر الملاحة والصفاء
وروي أن زهيرا كان ينظم القصيدة في شهر، وينقحها ويهذبها في سنة، ثم يعرضها على خواصه، ثم يذيعها بعد ذلك، وكانت تسمى قصائده الحوليات، قالوا: وهي أربع:
قف بالديار التي لم يعفها القدم
بلى وغيرها الأرواح والديم •••
إن الخليط أجد البين فانفرقا
وعلق القلب من أسماء ما علقا •••
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا
وزودوك اشتياقا أية سلكوا •••
لمن طل بريمة لا يريم
عفا وخلاله حقب قديم
عقيدته
قال ابن قتيبة: وكان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ويدل على إيمانه بالبعث قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وروي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نظر إلى زهير وله مائة سنة، فقال: «اللهم أعذني من شيطانه.» فما لاك بعد ذلك بيتا حتى مات. وكان زهير رأى في منامه في آخر عمره أن آتيا أتاه فحمله إلى السماء، حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتضر قص رؤياه على ولده كعب، ثم قال: إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه. ثم مات قبل المبعث بسنة، وقصة ابنه بجير لما أسلم، وتخويفه لأخيه كعب من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إن لم يؤمن ويجئ طائعا، ومجيء كعب وإنشاده بردته بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
معلومة.
الفصل الرابع
لبيد بن ربيعة
مات سنة 40 للهجرة و660 للميلاد
نسبه
هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر. وكان يقال لأبيه: ربيعة المقترين لجوده. ومات أبوه وهو صغير في حرب كانت بين بني عامر وبني لبيد، وأم لبيد عبسية اسمها تامرة بنت زنباع.
طبقته في الشعراء
ولبيد معدود من الشعراء المجيدين والفرسان المشهورين ومن المعمرين، وعده ابن سلام في الطبقة الثالثة، وقرنه بنابغة بني جعدة وأبي ذؤيب الهذلي والشماخ. قال ابن سلام: فأما الشماخ فكان شديد متون الشعر أشد أسر كلام من لبيد، وفيه كزازة، ولبيد أسهل منه منطقا. وسئل هو: من أشعر العرب؟ فقال: الملك الضليل. يعني امرأ القيس، فقال له السائل: ثم من؟ فقال: الغلام القتيل. يعني طرفة، فقال له السائل: ثم من؟ فقال: الشيخ أبو عقيل. يعني نفسه، وروي أن النابغة استنشده وهو شاب عند باب النعمان بن المنذر، فأنشده قصيدته التي أولها:
ألم تلمم على الدمن الخوالي
لسلمى بالمذانب فالقفال
فقال له النابغة: أنت أشعر بني عامر، زدني. فأنشده:
طلل لخولة بالرسيس قديم
بمعاقل فالأنعمين وشوم
فقال له: أنت أشعر هوازن، زدني. فأنشده قوله:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها
المعلقة. فقال له النابغة: اذهب فأنت أشعر العرب. وروي أن الفرزدق مر بمسجد بني أقيصر بالكوفة، وعليه رجل ينشد قول لبيد:
وجلا السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متونها أقلامها
فسجد فقيل له: ولم يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر.
وبالجملة فمحل لبيد في الشعر مشهور، وقال من قدمه على غيره: إنه أقل الشعراء لغوا في شعره، وحكمه في شعر كثيرة، ولم يصح أنه قال بعد إسلامه إلا قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه
والمرء يصلحه القرين الصالح
خبره مع الربيع بن زياد
وكان لبيد في صغره تلوح عليه مخايل النجابة، ومات أبوه وهو صغير، وكانت بين بني عبس وبني عامر عداوة، فوفد بنو زياد المشهورون، وهم: عمارة وأنس وقيس والربيع العبسيون على النعمان بن المنذر، ووفد عليه العامريون بنو أم البنين، وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة، وكان العامريون ثلاثين رجلا، وفيهم لبيد بن ربيعة وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان، وكان النعمان يقدمه على من سواه، وكان يدعى الكامل سمته أمه بذلك لقصة مشهورة استشارت فيها إخوته فلم يشيروا عليها بالصواب، فأشار هو به، وكان أصغرهم.
فضرب النعمان قبة على أبي براء، وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، وكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فتفاخر يوما العبسيون والعامريون عند النعمان، فكاد العبسيون يغلبون العامريين، وكان الربيع إذا خلا بالنعمان يطعن فيهم، ويذكر معايبهم، ففعل ذلك مرارا، فنزع النعمان القبة التي كان ضربها على أبي براء وقومه، وقطع النزل، ودخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء، وقد كان قبل ذلك يكرمهم ويقدم مجلسهم فخرجوا من عنده غضابا، وهموا بالانصراف، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم ويرعاها، فإذا أمسى انصرف بها فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم: ما لكم تتناجون؟ فكتموه، وقالوا له: إليك عنا. فقال لهم: أخبروني فلعل لكم عندي فرجا. فزجروه، فقال: لا والله لا أحفظ لكم، ولا أسرح لكم بعيرا أو تخبروني.
وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع، فقالوا له: إن خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه، فقال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدا حين يقعد الملك، فأرجز به رجزا ممضا مؤلما لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ فقالوا له: وهل عندك ذلك؟ قال: نعم. قالوا: إنا نبلوك بشتم هذه البقلة. وقدامهم بقلة دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض تدعى التربة، فاقتلعها من الأرض وأخذ بيده، وقال: هذه التربة التفلة الرذلة التي لا تذكي نارا ولا تسر جارا عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعا، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعا، فحربا لجارها وجدعا. القوا بي أخا عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس. فقالوا له: نصبح ونرى فيك رأينا.
فقال لهم عامر: انظروا إلى غلامكم هذا فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء إنما تكلم بما جرى على لسانه، وإن رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم. فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلا يكدم واسطته حتى أصبح، فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبه. فحلقوا رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع، وليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفود، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترضهم الربيع في كلامهم، فقام لبيد وقد دهن إحدى شقي رأسه، وأرخى مئزره، وانتعل نعلا واحدة، وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء فمثل بين يديه، ثم قال:
يا رب هيجا هي خير من دعه
إذ لا تزال هامتي مقزعه
نحن بني أم البنين الأربعه
ونحن خير عامر بن صعصعه
المطعمون الجفنة المدعدعه
والضاربون الهام تحت الخيضعه
مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمعه
وإنه يدخل فيها إصبعه
يدخله حتى يواري أشجعه
كأنما يطلب شيئا أودعه
فلما فرغ لبيد التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزرا، وقال: كذلك أنت يا ربيع! فقال: كذب - والله - ابن الحمق اللئيم. فقال النعمان: أف لهذا الغلام لقد خبث علي طعامي! فقال الربيع: أبيت اللعن أما إني قد فعلت بأمه. لا يكنى، وكانت في حجره، فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أما إنها من نسوة غير فعل، وأنت المرء. قال هذا في يتيمته، وروي أنه قال له: أما إنها من نسوة غير فعل. وإنما قال له ذلك تبكيتا له وتنديدا على قومه؛ لأنها عبسية فنسبها إلى القبيح، وصدقه عليه تهجينا له ولقومه، فأمر الملك بهم جميعا، فأخرجوا، وأعاد على أبي براء القبة، وقضى حوائج الجعفريين من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحا حتى تبعث إلي من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعا باتقائك مما قال لبيد شيئا، ولا قادرا على ما زلت به الألسن، فالحق بأهلك. فلحق بأهله، وأرسل إلى النعمان بأبيات، فأجابه بأبيات من بحرها ورويها منها:
قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا
فما اعتذارك من قول إذا قيلا
وقطعه من ذلك الوقت.
شيء من سيرته
وكان لبيد من فرسان هوازن، وكان الحارث الغساني - وهو الأعرج - وجه إلى المنذر بن ماء السماء مائة فارس، وأمر عليهم لبيدا، فساروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنهم أتوه داخلين عليه في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه، وركبوا خيلهم، فقتل أكثرهم، ونجا لبيد، فأتى ملك غسان، فأخبره فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم، فكان ذلك يوم حليمة الذي يقول فيه الشاعر:
تخيرن من أزمان يوم حليمة
إلى اليوم قد جربن كل التجارب
وحليمة هي بنت ملك غسان، وكان أربد بن قيس المشهور أخا لبيد من أمه، وكان يحبه، وأربد هذا خرج مع عامر بن الطفيل ليغدرا برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليهما في قصة مشهورة، فمات عامر قبل أن يصل إلى أهله، ومات أربد بعد وصوله بقليل بسبب صاعقة أنزلها الله عليه، ورثاه لبيد بقصائد مشهورة تركناها خوف الإطالة، ومنها بيته المشهور:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
حدث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تنشد بيت لبيد هذا، وتقول: رحم الله لبيدا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ فقال عروة: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت من نحن بين ظهرانيهم؟ وقال هشام بن عروة: رحم الله أبي، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ وقال أبو السائب: رحم الله وكيعا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ وقال أبو جعفر: رحم الله أبا السائب، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ قال أبو الفرج الأصبهاني: ونحن نقول: الله المستعان، فالقصة أعظم من أن توصف.
ومر لبيد بمكة في أول ظهور الإسلام بها، وكان عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، فرده عليه قبل ذلك، فاتفق أنه مر بنادي قريش ومعهم لبيد ينشدهم شعره، فلما أنشدهم قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان: صدقت، فلما قال:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال: كذبت. فلم يدر القوم ما عنى به عثمان، فأشار بعضهم إلى لبيد أن يعيد، فأعاد فصدقه في النصف الأول، وكذبه في النصف الآخر؛ لأن نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش ما كان مثل هذا يكون في مجالسكم، فقام أبي بن خلف أو ابنه فلطم عين عثمان في قصة مشهورة.
حاله في الإسلام
وأسلم لبيد - رضي الله عنه - وحسن إسلامه، وكان من المؤلفة قلوبهم هو وعلقمة بن علاثة، قال ابن عبد البر: وروى صاحب الأغاني بسنده إلى ابن الكلبي والأصمعي أنه قدم في وفد بني جعفر بن كلاب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد موت أخيه أربد، فأسلم وحسن إسلامه وهاجر، وهذا يقتضي أن إسلامه قبل الفتح، ونزل الكوفة في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وروي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام، فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي، فقال له أنشدني فقال:
أرجزا تريد أم قصيدا
لقد طلبت هينا موجودا
ثم أرسل إلى لبيد، فقال: أنشدني. فقال: إن شئت ما عفي عنه. يعني شعره في الجاهلية، فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها، وقال: أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر، فكتب بذلك المغيرة إلى عمر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة، وجعلها في عطاء لبيد، فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة، فكتب الأغلب إلى عمر يا أمير المؤمنين: أتنقص عطائي إن أطعتك؟ فرد عليه خمسمائة، ولما صار الأمر إلى معاوية أراد أن ينقص عطاءه، فقال: هذان الفودان - يعني الألفين - فما بال العلاوة - يعني الخمسمائة. يريد أنه ترك عطاءه ألفين فقط، فقال لبيد: إنما أنا هامة اليوم أو غد، فأعدني اسمها فلعلي لا أقبضها. فرق له معاوية، فترك عطاءه على حاله، فمات لبيد ولم يقبضه.
جوده وكرمه
وكان لبيد من الأجواد المشهورين نذر في الجاهلية أن لا تهب الصبا إلا أطعم، وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم، فهبت الصبا يوما والوليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر، فخطب الناس، ثم قال: إن أخاكم لبيدا قد نذر في الجاهلية أن لا تهب الصبا إلا أطعم، وهذا اليوم من أيامه، وقد هبت الصبا فأعينوه، وأنا أول من فعل. ثم نزل عن المنبر، فأرسل إليه مائة بكرة وكتب إليه بأبيات قالها وهي:
أرى الجزار يشحذ شفرتيه
إذا هبضت رياح أبي عقيل
أشم الأنف أصيد عامري
طويل الباع كالسيف الصقيل
وفي ابن الجعفري بحلفتيه
على العلات والمال القليل
بنحر الكوم إذ سحبت عليه
ذيول صبا تجاوب بالأصيل
فلما أتاه الشعر وكان ترك قول الشعر قال لابنة له خماسية: أجيبيه فلقد رأيتني وما أعيى بجواب شاعر. فقالت:
إذا هبت رياح أبي عقيل
ذكرنا عند هبتها الوليدا
أشم الأنف أصيد عبشميا
أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا
عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا
نحرناها فأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد
وظني بابن أروى أن يعودا
فقال لها لبيد: أحسنت لولا أنك استزدتيه. فقالت: والله ما استزدته إلا أنه ملك، ولو كان سوقة لم أفعل.
مدة عمره ووفاته
وروي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكان لبيد من المعمرين، روي أن الشعبي قال لعبد الملك بن مروان: تعيش يا أمير المؤمنين ما عاش لبيد بن ربيعة. وذلك أنه لما بلغ سبعا وسبعين سنة أنشأ يقول:
باتت تشكي إلي النفس مجهشة
وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا
وفي الثلاث وفاء للثمانينا
ثم عاش حتى بلغ تسعين سنة فأنشأ يقول:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة
خلعت بها عن منكبي ردائيا
ثم عاش حتى بلغ مائة حجة وعشرا، فأنشأ يقول:
أليس في مائة قد عاشها رجل
وفي تكامل عشر بعدها عمر
ثم عاش حتى بلغ مائة وعشرين سنة فأنشأ يقول:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وقال الإمام مالك بن أنس: بلغني أن لبيدا مات وهو ابن مائة وأربعين سنة، وقيل: إنه مات وهو ابن سبع وخمسين سنة ومائة في أول خلافة معاوية، وقال ابن عفير: مات لبيد سنة إحدى وأربعين من الهجرة يوم دخل معاوية الكوفة، ونزل بالنخيلة، وروي أن عائشة قالت: رويت للبيد اثني عشر ألف بيت.
وصيته
وروي أنه لما حضرته الوفاة قال مخاطبا لابنتيه:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
إذا حان يوما أن يموت أبوكما
فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي ليس جاره
مضاعا ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
روي أنهما كانتا تذهبان إلى قبره كل يوم، ويترحمان عليه، ويبكيان من غير صياح ولا لطم، ثم يمران بنادي بني كلاب يذكران مآثره وينصرفان إلى أن تم الحول.
وقال لابن أخيه لما حضره الموت: إذا قبض أبوك فأقبله القبلة، وسجه بثوبه ولا تصرخن عليه صارخة، وانظر جفنتي اللتين كنت أصنعهما فاصنعهما، ثم احملهما إلى المسجد، فإذا سلم الإمام فقدمهما لهم، فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم. ففعل ذلك.
الفصل الخامس
عمرو بن كلثوم
توفي سنة 52 قبل الهجرة و570 للميلاد
نسبه وخبر ولادته
هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم من تغلب بن وائل. وكان عمرو بن كلثوم شاعرا فارسا، وهو أحد فتاك العرب، وهو الذي فتك بعمرو بن هند كما يأتي، وكنيته أبو الأسود، وأخوه مرة هو الذي قتل المنذر بن النعمان، وأمه أسماء بنت مهلهل بن ربيعة أخي كليب الذي يضرب به المثل في العز. ولما تزوج مهلهل هند بن عتيبة ولدت له جارية، فقال لأمها: اقتليها وغيبيها، فلما نام هتف به هاتف يقول:
كم من فتى مؤمل
وسيد شمردل
وعدد لا يجهل
في بطن بنت مهلهل
فاستيقظ، فقال: أين بنتي؟ فقال: قتلتها. فقال: لا وإله ربيعة. وكان أول من حلف بها، ثم رباها، وسماها أسماء - وقيل ليلى - وتزوجها كلثوم بن مالك، فلما حملت بعمرو أتاها آت في المنام، فقال:
يا لك ليلى من ولد
يقدم إقدام الأسد
من جشم فيه العدد
أقول قولا لا فند
فلما ولدت عمرا أتاها ذلك الآتي فقال:
أنا زعيم لك أم عمرو
بما جد الجد كريم النجر
أشجع من ذي لبد هزبر
وقاص أقران شديد الأسر
يسودهم في خمسة وعشر
وكان كما قال سادهم وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمسين سنة.
شجاعته وفتكه
وكان شجاعا مظفرا مقداما، وبه يضرب المثل في الفتك، فيقال: أفتك من عمرو بن كلثوم لفتكه بعمرو بن هند؛ وذلك أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ فقالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم. قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب وابنها عمرو وهو سيد قومه. فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويسأله أن يزير أمه، فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت أمه في ظعن من بني تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه، فضرب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا، فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق، وكانت هند عمة امرئ القيس بن حجر، وكانت أم بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أم امرئ القيس، وبينهما هذا النسب، وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف، وتستخدم ليلى [فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطرف. فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق. فقالت ليلى]: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فأعادت عليها وألحت، فصاحت ليلى: وا ذلاه! يا لتغلب! فسمعها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، فنظر إليه عمرو بن هند فعرف الشر في وجهه فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره، فضرب رأس عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، فانتهبوا ما في الرواق، وساقوا نجائبه، وساروا نحو الجزيرة. وزادت شهرته بعد قتل عمرو بن هند، ودخله زهو عظيم إلى أن تناضل هو ويزيد بن عمرو السحيمي، فصرعه السحيمي عن فرسه وأسره، فشده في القيد، وقال له أنت الذي تقول:
متى نعقد قرينتنا بحبل
نجد الحبل أو نقص القرينا
أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه، فأطردكما جميعا. فنادى عمرو بن كلثوم: يا لربيعة أمثلة! فاجتمعت بنو لجيم، فنهوا يزيد، ولم يكن يريد ذلك به، إنما كان يبكته، فسار به حتى أتى قصرا بحجر من قصورهم، فضرب عليه قبة، ونحر له، وكساه، وحمله على نجيبة.
السبب في قول معلقته
ولما فتك عمرو بن هند قال معلقته، وخطب بها في سوق عكاظ وفي موسم مكة وبنو تغلب يعظمونها جدا، ويرويها صغارهم وكبارهم، حتى هجاهم بذلك بعض بني بكر بن وائل، فقال:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدا مذ كان أولهم
يا للرجال لشعر غير مشئوم
خبر موته
وعمرو بن كلثوم معدود في المعمرين، روي أنه عاش مائة وخمسين سنة، ولما حضره الموت جمع بنيه، وقال: يا بني قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت، وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله إن كان حقا فحقا، وإن كان باطلا فباطلا، من سب سب، فكفوا عن الشتم إنه أسلم لكم، وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم، وامنعوا من ضيم الغريب، فرب رجل خير من ألف، ورد خير من خلف، وإذا حدثتم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا؛ فإن مع الإكثار يكون الإهذار، وأشجع القوم العطوف بعد الكرة، كما أن أكرم المنايا القتل، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا إذا عوتب لم يعتب، ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكؤه خر من دره، وعقوقه خير من بره، ولا تتزوجوا في حيكم، فإنه يؤدي إلى قبيح البغض.
الفصل السادس
عنترة بن شداد
توفي سنة 22 قبل الهجرة و600 للميلاد
نسبه ولقبه
هو عنترة بن شداد، وقيل: ابن عمرو بن شداد، وقيل: عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد، وقال عبد القادر البغدادي: ابن قرادة بن مخزوم ربيعة، وقيل: مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. ويلقب بعنترة الفلحاء «ذهبوا به إلى تأنيث الشفة، مأخوذ من الفلح، وهو انشقاق الشفة السفلى كما أن الأعلم مأخوذ من العلمة، وهي انشقاق الشفة العليا».
مكانته وشهرته
وهو أحد فرسان العرب المشهورين وأجوادهم المعروفين وأحد الأغربة الجاهليين. قال صاحب الأغاني: وهم عنترة وأمه زبيبة، وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة، والسليك بن عمير السعدي وأمه السلكة، وإليهن ينسبون. وكذا اقتصر عبد القادر البغدادي على هؤلاء الثلاثة، وفي القاموس: وأغربة العرب سودانهم، والأغربة في الجاهلية عنترة وخفاف بن ندبة وعمير بن الحباب وسليك بن السلكة وهشام بن عقبة بن أبي معيط إلا أنه مخضرم قد ولد في الإسلام، ومن الإسلاميين عبد الله بن خازم وعمير بن أبي عمير وهمام بن مطرف ومنتشر بن وهب ومطر بن أوفى وتأبط شرا والشنفرى وحاجز غير منسوب. وكذا عدهم صاحب اللسان.
وكان أبوه نفاه واستعبده على عادة العرب مع أبناء الإماء؛ فإنهم يستعبدونهم إلا إذا ظهرت عليهم النجابة، وكان إخوته من أمه عبيدا، وكانت امرأة أبيه واسمها سمية - وقيل: سمينة، وقيل: سهية - حرشت عليه أباه، وادعت أنه راودها عن نفسها، فغضب أبوه وضربه ضربا شديدا، فوقعت عليه سمية المذكورة، وكان أبوه يريد أن يقتله، فقال فائيته التي أولها:
أمن سمية دمع العين مذروف
لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
القصيدة.
أول ما ظهر من أمره
وسبب اعتراف أبيه به أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس، فأصابوا منهم، واستاقوا إبلا لهم، فلحقوا بهم، فقاتلوهم عما معهم، وعنترة يومئذ فيهم، فقال أبوه: كر يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وهو يقول:
أنا الهجين عنتره
كل امرئ يحمي حره
أسوده وأحمره
والواردات مسفره
فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه، وقيل إن السبب في استلحاقه إياه أن عبسا أغاروا على طيئ أصابوه نعما، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا تقسم لك نصيبا مثل أنصبائنا لأنك عبد. فلما طال الخطب بينهم كرت عليهم طيئ، فاعتزلهم عنترة، وقال: دونكم القول فإنكم عددهم. واستنقذت طيئ الإبل، فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال: أويحسن العبد الكر؟ فقال له أبوه: العبد غيرك. فاعترف به فكر، واستنقذ الإبل من طيئ، وجعل يرتجز بالرجز المتقدم.
شجاعته
وشجاعة عنترة أشهر من نار على علم، وروي أن عمرو بن معدي كرب - وكان معاصرا له - قال: لو سرت بظعينة وحدي على مياه معد كلها ما خفت أن أغلب عليها ما لم يلقني حراها أو عبداها، فأما الحران فعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأما العبدان فأسود بني عبس - يعني عنترة - والسليك بن السلكة، وكلهم قد لقيت، فأما عامر بن الطفيل فسريع الطعن على الصوت، وأما عتيبة فأول الخيل إذا أغارت وآخرها إذا آبت، وأما عنترة فقليل الكبوة، شديد الجلب، وأما السليك فبعيد الغارة كالليث الضاري.
وقيل لعنترة: أنت أشعر العرب وأشدها. قال: لا. قيل له: فبم شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الأحجام حزما، ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: كان فينا قيس بن زهير، وكان حازما، فكنا لا نعصيه، وكان فارسنا عنترة، فكنا نحمل إذا حمل، ونحجم إذا حجم، وكان فينا الربيع بن زياد، وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه، وكان فينا عروة بن الورد، فكنا نأتم بشعره، فكنا كما وصفت لك. فقال عمر: صدقت، وروي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «ما وصف لي أعرابي فأحببت أن أراه إلا عنترة.»
سبب موته
واختلف في سبب موته، فقيل إنه أغار على بني نبهان من طيئ، فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير، فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول:
آثار ظلمان بقاع مجدب
وكان وزر بن جابر النبهاني في فتوته، فرماه، وقال: خذها وأنا ابن سلمي فقطع معطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله، فقال وهو مجروح:
وإن ابن سلمى عنده فاعلموا دمي
وهيهات لا يرجى ابن سلمي ولا دمي
إذا ما تمشى بين أجبال طيئ
مكان الثريا ليس بالمتهضم
رماني ولم يدهش بأزرق لهذم
عشية حلوا بين نعف ومخرم
وقيل: إنه في غزوته إلى طيئ هذه كان مع قومه فانهزموا عنه فخر عن فرسه، ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلا وأبصره ربيئة طيئ فنزل إليه، وهاب أن يأخذه أسيرا، فرماه فقتله، وقيل: إنه كان قد أسن وافتقر وعجز عن الغارات، وكان له على رجل من غطفان بكر، فخرج يتقاضاه فهاجت عليه ريح شديدة في يوم صائف بين شرج وناظرة فقتلته.
وكان العرب تسمي معلقته المذهبة لحسنها، ومواقفه في حرب عبس وذبيان مشهورة في أيام العرب، أما الذي في سيرته فلا يلتفت إليه؛ لأن أكثره موضوع لا يخفى على الصبيان.
الفصل السابع
الحارث بن حلزة
مات سنة 52 قبل الهجرة و570 للميلاد
نسبه وخبر ولادته
هو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبيد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وحلزة بكسر الحاء المهملة وكسر اللام المشددة، وهو في اللغة اسم دويبة، واسم البومة، والذكر بدون هاء، ويقال: امرأة حلزة للقصيرة والبخيلة والحلز السيئ الخلق، وقال قطرب: حكي لنا أن الحلزة ضرب من النبات ولم نسمع فيه غير ذلك.
طبقته في الشعراء وحديثه مع عمرو بن هند
قال أبو عبيدة: أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد. وزعم الأصمعي أن الحارث قال قصيدته هذه وهو ابن مائة وخمس وثلاثين سنة. وكان من حديثه أن عمرو بن هند لما ملك الحيرة، وكان جبارا جمع بكرا وتغلب فأصلح بينهم، وأخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض، وكان أولئك الرهن يسيرون ويغزون مع الملك، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون، فقالت تغلب لبكر بن وائل: أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لازم لكم فأنت بكر، فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم، فقال عمرو بن كلثوم: بمن ترون بكرا تغصب أمرها اليوم؟ قالوا: بمن عسى إلا برجل من بني ثعلبة. قال عمرو: أرى الأمر والله سينجلي عن أحمر أصلع أصم من بني يشكر، فجاءت بكر بالنعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر، وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم، فلما اجتمعوا عند الملك، قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصم، جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم، وقد يفخرون عليك! فقال النعمان: وعلى من أظلت السماء يفخرون. قال عمرو بن كلثوم: والله إني لو لطمتك لطمة ما أخذوا بها. قال: والله إن لو فعلت ما أفلت بها قيس أير أبيك. فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا، وكان يؤثر بني تغلب على بكر، فقال: يا حارثة أعطه لحنا بلسان أنثى أي شبيه بلسانك. فقال: أيها الملك أعط ذلك لأحب أهلك إليك. فقال: يا نعمان أيسرك أني أبوك؟ قال: لا، ولكن وددت أنك أمي، فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا حتى هم بالنعمان، وقام الحارث بن حلزة فارتجل معلقته هذه ارتجالا، وتوكأ على قوسه، وأنشدها، واقتطم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها.
قال ابن الكلبي: أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة، وكان به وضح، فقيل لعمرو بن هند: إن به وضحا، فأمر أن يجعل بينه وبينه ستر، فلما تكلم أعجب بمنطقه، فلم يزل عمرو يقول: أدنوه أدنوه. حتى أمر بوضع الستر وأقعده معه، ثم أطعمه من جفنته، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء، ثم جز نواصي السبعين رجلا الذين كانوا رهنا في يده من بكر، ودفعهم إلى الحارث، ثم أمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئا، ولم تزل تلك النواصي في بني بكر يفتخرون بها وبشاعرهم.
وضرب بالحارث المثل في الفخر، فقيل: أفخر من الحارث بن حلزة، وكان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجال هذه القصيدة في موقف واحد، ويقول: لو قالها في حول لم يلم، وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحا، وعرض بعضها لعمرو بن هند، وعاش بعد ذلك مدة، وهو معدود من المعمرين، ومات وله من السنين مائة وخمسون سنة.
الفصل الثامن
الأعشى ميمون
توفي سنة 7 للهجرة و629 للميلاد
نسبه وكنيته
هو الأعشى ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. ويكنى أبا بصير، وكانوا يسمونه صناجة العرب لجودة شعره، وكان يقال لأبيه: قتيل الجوع؛ سمي بذلك لأنه دخل غارا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل، فسدت فم الغار، فمات فيه جوعا، وهجاه بعض بني عمه، فقال:
أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل
وخالك عبد من خماعة راضع
طبقته في الشعراء
وهو أحد فحول أهل الجاهلية، عده ابن سلام في الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وقرنه بامرئ القيس وزهير والنابغة، وكان أهل الكوفة يقدمونه عليهم، وسئل يونس بن حبيب النحوي: من أشعر الناس؟ فقال: لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكن أقول: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب. وهو أول من سأل بشعره، وكان أبو عمرو بن العلاء يعظم محله، ويقول: شاعر مجيد كثير الأعاريض والافتتان. وإذا سئل عنه وعن لبيد قال: لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر. وروي أن عبد الملك قال لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى؛ فإنه - قاتله الله - ما كان أعذب بحره وأصلب صخره! وقال المفضل: من زعم أن أحدا أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر. وقال أبو عبيد: الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين: امرئ القيس والنابغة وزهير. قال: كان الأعشى يقدمه على طرفة؛ لأنه أكثر عدد طوال جياد، وأوصف للخمر وأمدح وأهجى وأكثر أعاريض، وطرفة يوضع مع أصحابه وهم أصحاب الواحدات، فمنهم الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم التغلبي وسويد بن أبي كاهل اليشكري، قال: وإنما فضل الأعشى على هؤلاء؛ لأنه سلك أساليب لم يسلكوها، فجعله الناس رابعا للأوائل بآخرة، واتفقوا على أن أشعر الشعراء واحدة في الجاهلية طرفة والحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم، ثم اختلفوا فيهم، ونظيرهم في الإسلام سويد بن أبي كاهل اليشكري.
وروي أن أبا عمرو قال: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى؛ فامرؤ القيس من اليمن والنابغة وزهير من مضر والأعشى من ربيعة. وبعث أبو جعفر المنصور يحيى بن سليم الكاتب إلى حماد الراوية بالكوفة يسأله: من أشعر الناس؟ فقال له: ذاك الأعشى صناجها. وروي أن الأخطل قدم الكوفة، فأتاه الشعبي يسمع من شعره، قال: فوجدته يتغدى فدعاني إلى الغداء فأبيت، فقال: ما حاجتك؟ قلت: أحب أن أسمع من شعرك. فأنشدني:
وإذا تعاورت الأكف ختامها
نفحت فنال رياحها المزكوم
قال لي: يا شعبي، ناك الأخطل أمهات الشعراء بهذا البيت. فقلت: الأعشى في هذا أشعر منك يا أبا مالك. قال: وكيف؟ قلت: لأنه قال:
من خمر عانة قد أتى لختامه
حول تسل غمامة المزكوم
فقال وضرب بالكأس الأرض: هو - والمسيح - أشعر مني، ناك الأعشى أمهات الشعراء إلا أنا.
وقال أبو عبيدة: من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره، وسئل مروان بن أبي حفصة: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:
كلا أبويكم كان فرع دعامة
ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا
وهذا البيت من مقطعة للأعشى يهجو بها علقمة بن علاثة، وسيأتي سبب ذلك.
خبر هاجسه من الجن
وهاجس الأعشى اسمه مسحل بن أثاثة. روي عن الأعشى أنه قال: خرجت أريد قيس بن معدي كرب بحضرموت فضللت في أوائل أرض اليمن؛ لأني لم أكن سلكت ذلك قبل، فأصابني مطر، فرميت ببصري أطلب مكانا ألجأ إليه، فوقعت عيني على خباء من شعر، فقصدت نحوه، وإذا بشيخ على باب الخباء، فسلمت عليه، فرد السلام، وأدخل ناقتي خباء آخر كان بجانب البيت، فحططت رحلي وجلست، فقال: من أنت؟ وأين تقصد؟ قلت: أنا الأعشى أقصد قيس بن معدي كرب، فقال: حياك الله، أظنك امتدحته بشعر. قلت: نعم. قال: فأنشدنيه. فابتدأت مطلع القصيدة:
رحلت سمية غدوة إجمالها
غضبا عليك فما تقول بدالها
فلما أنشدته هذا المطلع منها، قال: حسبك، أهذه القصيدة لك؟ قلت: نعم. قال: من سمية التي نسبت بها ؟ قلت: لا أعرفها، وإنما هو اسم ألقي في روعي. فنادى: يا سمية اخرجي. وإذا جارية خماسية قد خرجت، فوقفت وقالت: ما تريد يا أبت؟ قال: أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معدي كرب، ونسبت بك في أولها. فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفا، فلما أتمتها قال: انصرفي، ثم هل قلت شيئا غير ذلك؟ قلت: نعم، كان بيني وبين ابن عم لي - يقال له يزيد بن مسهر يكنى أبا ثابت - ما يكون بين بني العم فهجاني وهجوته فأفحمته. قال: ماذا قلت فيه؟ قلت: قلت:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... ... ... ...
فلما أنشدته البيت الأول قال: حسبك من هريرة هذه التي نسبت فيها. قلت: لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها. فنادى: يا هريرة! فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجت، فقال: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها أبا ثابت يزيد بن مسهر. فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفا، فسقط في يدي، وتحيرت وتغشتني رعدة، فلما رأى ما نزل بي قال: ليفرج روعك أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر. فسكنت نفسي ورجعت إلي، وسكن المطر، فدلني على الطريق، وأراني سمت مقصدي، وقال: لا تعج يمينا ولا شمالا حتى تقع ببلاد قيس.
وروي عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي - رضي الله عنه - أنه قال: سافرت في الجاهلية، فأقبلت ليلة على بعير أريد أن أسقيه، فلما قربته من الماء تأخر، فعقلته ودنوت من الماء، فإذا قوم مشوهون عند الماء فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشد تشويها منهم، فقالوا: هذا شاعر. فقالوا: يا أبا فلان أنشد هذا فإنه ضيف. فأنشد:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... ... ... ...
فوالله ما خرم منها بيتا حتى أتى على آخرها، فقلت: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا أقولها. قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى قيس بن ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران. قال: إنك صادق أنا الذي ألقيتها على لسانه وأنا مسحل، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس.
وقيل: إن هريرة وخليدة أختان كانتا قينتين لبشر بن عمرو وكانتا تغنيانه وقدم بهما إلى اليمامة لما هرب من النعمان بن المنذر، وقيل: إن هريرة كانت أمة سوداء لحسان بن عمرو، وكان الأعشى يشبب بها. وروي أن رجلا من أهل البصرة خرج منها حاجا، فقال: إني لأسير في ليلة أضحيانة إذ نظرت إلى شاب راكب على ظليم قد زمه بخطامه وهو يذهب عليه ويجيء ويرتجز ويقول:
هل يبلغنيهم إلى الصباح
هقل كأن رأسه جماح
فعلمت أنه ليس بإنسي فاستوحشت منه فترددت ذاهبا حتى آنست به، فقلت: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي
بسهميك في أعشار قلب مقتل
فعرفت أنه يريد امرأ القيس قال: ثم ذهب وأقبل، قلت: ثم من؟ قال: الذي يقول:
وتبرد برد رداء العروس
في الصيف رقرقت فيه العبيرا
وتسخن ليلة لا تستطيع
نباحا بها الكلب إلا هريرا
يريد الأعشى، ثم ذهب وأقبل، قلت: ثم من؟ قال: الذي يقول:
تطرد القر بحر صادق
وعليك القيظ إن جاء بقر
يريد طرفة.
شيء من سيرته وأخباره
وقال يحيى بن الجون راوية بشار: أعشى بني قيس أستاذ الشعراء في الجاهلية، وجرير بن الخطفى أستاذهم في الإسلام، وما مدح الأعشى أحدا في الجاهلية إلا رفعه ولا هجا أحدا إلا وضعه. وكان الذي يريد أن يذكره منهم يستميله لعله أن يمدحه فيرفعه ذلك، فمن ذلك قصة المحلق الكلابي، وكان ذا بنات قد عنسن عليه، فقالت له امرأته: ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر، فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا أكسبه خيرا؟ قال: ويحك! ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل، قالت: الله يخلفها عليك. فتلقاه المحلق من بعيد خوفا أن يسبقه إليه أحد، فوجد ابنه يقود به، فأخذ الخطام، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ قال: المحلق. قال: شريف كريم. فأنزله ونحر له ناقته، وكشط له عن سنامها وكبدها، ثم أحاطت به بناته، فجعلن يغمزنه ويمسحنه، فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك. فلما رحل من عنده ووافى سوق عكاظ جعل ينشد قافيته التي مدح بها المحلق ومطلعها:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار في يفاع يحرق
تشرب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أن تحالفا
بأسحم داج عوض لا تتفرق
فتسابق الناس إليهن حتى تزوجن عن آخرهن واستغنى بعد فقره.
خبره مع ذي فائش الخميري
ولما رجع من عند سلامة ذي فائس الحميري وكان مدحه بقصيدته التي منها:
الشعر قلدته سلامة ذا
فائش والشيء حيثما جعلا
فلما أنشده إياها قال: صدقت «الشيء حيثما جعل» فأعطاه مائة من الإبل، وكساه حللا، وأعطاه كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا، وقال له: إياك أن تخدع عنها. فأتى الحيرة فباعها بثلاثمائة ناقة حمراء، فخاف أن ينتهب ماله فاستجار بعلقمة بن علاثة العامري، فقال له: أجيرك من الأسود والأحمر. قال: ومن الموت؟ قال: لا. فأتى عامر بن الطفيل العامري أيضا، فقال له مثل مقالة علقمة، فقال له الأعشى: ومن الموت؟ قال: نعم. قال: وكيف؟ قال: إن مت في جواري وديتك. فقال علقمة: لو علمت أن ذلك مراده لهان علي، وكان ذلك في أوان منافرة عامر وعلقمة المشهورة، وكانت العرب تهاب أن تنفر أحدهما على الآخر، ثم إن الأعشى ركب ناقته، ونفر عامرا بقصيدته المشهورة التي يقول فيها:
حكمتموه فقضى بينكم
أبلج مثل القمر الزاهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه
ولا يبالي غبن الخاسر
فهدر علقمة دمه، وجعل له على كل طريق رصدا، فقال الأعشى قصيدته التي مطلعها:
لعمري لئن أمسى عن الحي شاخصا
لقد نال حيصا من عفيرة حائصا
يقول فيها:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وقد كذب في هجوه لعلقمة فإنه كان من أجود العرب، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، ثم إنه اتفق أن الأعشى سافر ومعه دليل، فأخطأ به الطريق فألقاه في ديار بني عامر بن صعصعة فأخذه رهط علقمة بن علاثة، فأتوه به، فقال علقمة: الحمد لله الذي أمكنني منك. فقال:
أعلقم قد صيرتني الأمو
ر إليك وما أنت لي منقص
فهب لي نفسي فدتك النفو
س ولا زلت تنمو ولا تنقص
فقال قوم علقمة: اقتله وأرحنا والعرب من شر لسانه. فقال علقمه: إذن تطلبوا بدمه ولا ينغسل عني ما قاله، ولا يعرف فضلي عند القدرة. فأمر به فحل وثاقه وألقى عليه حلة وحمله على ناقة وأحسن عطاءه، وقال له: انج حيث شئت. وأخرج معه من بني كلاب من يبلغه مأمنها، فجعل بعد ذلك يمدحه. وهجا رجلا من كلب فاتفق أن الكلبي أغار على حي من العرب، وكان الأعشى ضيفا عندهم، فأسره فيمن أسر، وهو لا يعرفه، فمر بتيماء، ونزل قريبا من شريح بن السموأل الذي يضرب به المثل في الوفاء، وتقدم بعض قصته في ترجمة امرئ القيس، فمر شريح بالأعشى فناداه الأعشى وأنشد قصيدة ارتجلها مطلعها:
شريح لا تتركني بعدما علقت
حبالك اليوم بعد القد أظفار
وقال منها في قصة السموأل:
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به
في جحفل كسواد الليل جرار
فجاء شريح إلى الكلبي، فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور. فقال: هو لك. فأطلقه، وقال: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك. فقال له الأعشى: إن من تمام صنيعتك أن تعطيني ناقة نجيبة، وتخليني الساعة. فأعطاه ناقة فركبها، ومضى من ساعته، وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه، فقال: قد مضى. فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.
خبره في الإسلام
وكان الأعشى جاهليا قديما، وأدرك الإسلام في آخر عمره، ورحل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
في صلح الحديبية، فبلغ قريشا خبره فرصدوه على طريقه، وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحدا قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم، قالوا: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم، قالوا: إنه ينهاك عن خلال، ويحرمها عليك، وكلها لك موافق. قال: وما هن؟ قال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وما تركته، ثم ماذا ؟ قال: القمار. قال: لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار، ثم ماذا؟ قال: الربا. قال: ما دنت ولا ادنت. قال: ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال: أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ فقال: وما هو؟ قال: نحن وما هو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله، وكان قد قال قصيدة يمدح بها النبي
صلى الله عليه وسلم
مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وبت كما بات السليم مسهدا
وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال في حقه: «كاد ينجو ولما.»
مفردات أبياته المشهورة
روي عن الشعبي أنه قال: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت، فأما أغزل بيت فقوله:
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
وأما أخنث بيت فقوله:
قالت هريرة لما جئت زائرها
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
وأما أشجع بيت فقوله:
قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل
وفادته على الملوك
قالوا: وكان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا، قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى
ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالعد
ل وولى الملامة الرجلا
قالوا إن العباديين لقنوه ذلك بالحيرة؛ لأنهم كانوا نصارى، وكان يشتري منهم الخمر، وكان الأعشى يفد على ملوك العرب وملوك فارس، فلذلك كثرت الفارسية في شعره، وكان أبو كلبة هجا الأعشى، وهجا الأصم بن معبد، فقال فيهما:
قبحتما شاعري حي ذوي حسب
وحز أنفاكما حزا بمنشار
أعني الأصم وأعشانا فما ابتدرا
إلا استعانا على سمع وأبصار
فأمسك عنه الأعشى فلم يجبه بشيء. وقال للأصم: أنت من بيت مشهور وأبو كلبة رجل مرذول فلا تجبه فترفع من قدره. قالوا: والأعشى ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، فقال في قصيدة يمدح بها النعمان:
فلا تحسبني كافرا لك نعمة
على شاهدي يشهد الله فاشهد
وقد كانت العرب ممن أقام على دين إسماعيل والقول بالأنبياء، قالوا: والأعشى ممن اعتزل، وقال بالعدل في الجاهلية، ومن ذلك قوله: استأثر الله بالوفاء وبالعدل (البيت).
وسلك الأعشى في شعره كل مسلك، وقال في أكثر أعاريض كلام العرب، وليس ممن تقدم من فحول الشعراء أحد أكثر شعرا منه، وكانت العرب لا تعد الشاعر فحلا، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلم يعدوا امرأ القيس فحلا حتى قال:
والله أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرحل
وكانوا لا يعدون النابغة فحلا حتى قال:
نبئت أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأر من الأسد
وكانوا لا يعدون زهيرا فحلا حتى قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
ولو خالها تخفى على الناس تعلم
وكانوا لا يعدون الأعشى فحلا حتى قال:
قلدتك الشعر يا سلامة ذا
فائش والشيء حيثما جعلا
الفصل التاسع
ترجمة النابغة الذبياني
توفي سنة 18 قبل الهجرة و604 للمسيح
نسبه وكنيته
هو النابغة واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن ريث بن غطفان بن قيس عيلان بن مضر، ويكنى أبا أمامة، قيل: إنه إنما لقب النابغة لقوله:
وحدث في بني القين بن جسر
فقد نبغت لهم منا شئون
وقيل: لقب النابغة؛ لأنه كبر ولم يقل شعرا، فنبغ فيه بغتة، وقيل: هو مشتق من نبغت الحمامة إذا تغنت. وحكى ابن ولاد أنه يقال: نبغ الماء، ونبغ بالشعر كمادة الماء النابغ، قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء ونبغ بالشعر بعدما احتنك وهلك قبل أن يهتر.
طبقته في الشعراء
هو أحد فحول أهل الجاهلية، عده ابن سلام في الطبقة الأولى، وقرنه بامرئ القيس والأعشى وزهير، وتقدم الخلاف في أيهم أشعر، وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم، وهو أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتا. كأن شعره كلام ليس فيه تكلف. قال الأصمعي: سألت بشارا عن أشعر الناس؟ فقال: أجمع أهل البصرة على تقدم امرئ القيس وطرفة، وأهل الكوفة على بشر بن أبي خازم والأعشى، وأهل الحجاز على النابغة وزهير، وأهل الشام على جرير والفرزدق والأخطل، وتقدم ما فيه بعض مخالفة لما هنا بحسب اختلاف الآراء.
أول نبوغه في الشعر
روي عن الأصمعي أنه قال: أول ما تكلم به النابغة من الشعر أنه حضر مع عمه عند رجل، وكان عمه يشاهد به الناس ويخاف أن يكون عيبا، فوضع الرجل كأسا في يده وقال:
تطيب كئوسنا لولا قذاها
وتحتمل الجليس على أذاها
فقال النابغة وحمي لذلك:
قذاها أن صاحبها بخيل
يحاسب نفسه بكم اشتراها
وهذا يعارضه ما قيل إنما لقب النابغة لأنه كبر ولم يقل شعرا. وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: يا معشر غطفان من الذي يقول:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي
على خوف تظن بي الظنون
قالوا: النابغة. قال: ذاك أشعر شعرائكم. وروي من وجه آخر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لجلسائه يوما: من أشعر الناس؟ قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين، قال: من الذي يقول:
إلا سليمان إذا قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول: «أتيتك عاريا خلقا ثيابي ...» إلخ؟ قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
قالوا: النابغة. قال: فهو أشعر العرب.
خبر هاجسه وشيء من سيرته
واسم هاجس النابغة هاذر، قال رجل من أهل الشام في قصة تقدم بعضها في ترجمة امرئ القيس مع جني اجتمع به ، فسأله من أشعر العرب؟ فأنشأ يقول:
ذهب ابن حجر بالقريض وقوله
ولقد أجاد فما يعاب زياد
لله هاذر إذ يجود بقوله
إن ابن ماهر بعدها لجواد
فقال له الشامي: من هاذر؟ قال: صاحب زياد الذبياني، وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره، فالعجب له كيف سلسل لأخي ذبيان، ولقد علم بنية لي قصيدة له من فيه إلى أذنها، ثم صرخ بها: اخرجي فدى لك من ولدت حواء. فقلت له: ما أنصفت أيها الشيخ. فقال: ما قلت بأسا. ثم رجعت إلى نفسي، فعرفت ما أراد، فسكت ثم أنشدتني الجارية:
نأت بسعاد عنك نوى شطون
فبانت والفؤاد بها حزين
حتى أتت على قوله منها:
فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون
فقال: لو كان رأي قوم نوح فيه كرأي هاذر ما أصابهم الغرق. وكانوا يقولون: إن النابغة أشعر العرب إذا خاف؛ وذلك لجودة قصائده التي اعتذر فيها إلى النعمان، وهذا غير صحيح؛ لأن النعمان ما كان يقدر عليه وهو عند آل جفنة، وقد سئل أبو عمرو بن العلاء، فقيل له: أمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك؟ فقال: لا لعمر الله لا لمخافته فعل إن كان لآمنا من أن يوجه إليه جيشا، وما كان النابغة يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وأبيه وجده ولا يستعمل غير ذلك.
وروي أن عبد الملك بن مروان أرسل إلى الحجاج أن ابعث إلي عامرا الشعبي، وكان الشعبي من أمثل أهل وقته، فلما وصل إليه أمره بالجلوس. فجلس فالتفت عبد الملك إلى رجل كان عنده قبل مجيء الشعبي، فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين. قال الشعبي: فأظلم ما بيني وبين عبد الملك من البيت، ولم أصبر أن قلت: من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس؟ فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني، وقال: هذا الأخطل. قلت: بل أشعر منك يا أخطل الذي يقول :
هذا غلام حسن وجهه
مستقبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر والحارث الأع
رج والأصغر خير الأنام
ثم لهند ولهند قد
أسرع في الخيرات منهم إمام
فستة آباؤهم ما هم
أكرم من يشرب صوب الغمام
قال: فرددتها حتى حفظها عبد الملك، فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الشعبي. قال الأخطل: والإنجيل هذا ما استعذت بالله من شره، صدق والله، النابغة أشعر مني. فالتفت إلي عبد الملك، فقال: ما تقول يا شعبي؟ قلت: قدمه عمر بن الخطاب في غير موضع على جميع الشعراء. وكان مهيبا وقدم المدينة، فأنشد الناس قصيدته الذي سيأتي سببها وهي:
من آل مية رائح أو مغتد
عجلان ذا زاد وغير مزود
وكان أقوى فيها فما تجاسر أحد أن يقول له، فأتوه بقينة فغنت منها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضب رخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة يعقد
فمدت القينة صوتها باليد، فصارت الكسرة ياء ومدت يعقد، فصارت الضمة واوا فانتبه، ولم يعد إلى الإقواء وغير قوله: «يكاد من اللطافة يعقد» وجعله «عنم على أغصانه لم يعقد»، وقال: دخلت يثرب وفي شعري بعض العاهة فخرجت منها وأنا أشعر الناس.
تحاكم الشعراء إليه
وكانت تضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، ففي إحدى السنين فعل به ذلك، فأول من أنشده الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم أنشدته الشعراء، ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد قصيدتها التي تقول فيها ترثي صخرا:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
فقال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس. فقام حسان وقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك، وفي رواية فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها ومن أبيك. فقال النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال له: إنك شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك - يعني أن الجفنات لأدنى العدد والكثير جفان، وكذلك أسياف لأدنى العدد والكثير سيوف - وقلت: بالضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف في الليل أكثر. وقلت: يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم. ولن تستطيع أن تقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنأى عنك واسع
خطاطيف حجن في حبال متينة
تمد بها أيد إليك نوازع
خبره مع النعمان بن المنذر
وروي أن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - حدث أنه وفد في الجاهلية على النعمان بن المنذر، فلما دخل بلاده لقيه رجل، قال: فسألني عن وجهي وما أقدمني، فأنزلني، فإذا هو صائغ، وقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الحجاز ... إلى أن قال في حديث طويل أخبره فيه بكيفية وصوله إليه، وكيف يعامله، إلى أن قال حسان: فوجدته كما قال لي وجعلت أخبر صاحبي بما صنع، ويقول إنه لا يزال هكذا حتى يأتيه أبو أمامة - يعني النابغة - فإذا قدم فلا حظ فيه لأحد من الشعراء. قال حسان: فأقمت كذلك إلى أن دخلت عليه ليلة، فدعا بالعشاء، فأتي بطبيخ فأكل منه بعض جلسائه إلى أن قال حسان: فوالله إني لجالس عنده إذا بصوت خلف قبته، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن للعرب نعم سود إلا للنعمان، فأقبل النابغة فاستأذن فقدم وهو يقول:
أنام أم يسمع رب القبه
يا أوهب الناس لعنس صلبه
ضرابة بالمشفر إلا ذبه
ذات تجاف في يديها حدبه
قال أبو إمامة: أدخلوه، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
فأمر له بمائة ناقة فيها رعاؤها ومطافيلها وكلابها من السود، قال حسان: فخرجت من عنده لا أدري أكنت له أحسد على شعره، أم على ما نال من جزيل عطائه، فرجعت إلى صاحبي، فأخبرته خبره، فقال: انصرف فلا شيء لك عندي سوى ما أخذت.
وكان النابغة من أخصاء النعمان، فدخل عليه يوما فجأة ومعه امرأته المتجردة ، فالتفتت إليه مذعورة، فسقط نصيفها فاستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لغلظها وكثرة لحمها، فأمره النعمان أن يقول قصيدة يصفها فيها، فقال قصيدته التي يقول فيها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
فوصف منها مواضع لا يليق ذكرها، وكان المنخل اليشكري من ندماء النعمان، وكان فاسقا، وأما النابغة فكان عفيفا نقيا، فغار من وصف النابغة لها، فقال: والله لا يقول هذا إلا من جرب. فغضب النعمان، وأراد أن يبطش بالنابغة، وكان للنعمان بواب يقال له عصام بن بشير الذي يقول في نفسه:
نفس عصام سودت عصاما
وصيرته ملكا هماما
فصار مثلا يضرب لمن شرف بنفسه، فقال النابغة وكان صديقا له: إن النعمان موقع بك. فهرب إلى ملوك غسان بالشام، فكان يمدحهم، ثم إن النعمان اطلع على ما بين المتجردة امرأته والمنخل من الريبة، فقتلهما في قصة طويلة، فكتب إلى النابغة إنك لم تعتذر من سخطة إن كانت بلغتك، ولكنا تغيرنا لك عن شيء مما كنا لك عليه، ولقد كان في قومك ممتنع وحصن فتركته، ثم انطلقت إلى قوم، فقتلوا جدي وبيني وبينهم ما قد علمت. فقدم إليه فوجده محمولا على سرير، وكانت العرب تحمل ملوكها على السرير إذا مرض أحدهم، فقال أبياته التي مطلعها:
ألم أقسم عليك لتخبرني
أمحمول على النعش الهمام
وقيل: إن النابغة قدم في جوار رجلين من فزارة لهما منزلة عند النعمان، فرأى إحدى قيان النعمان فلقنها قصيدته التي اعتذر إليه فيها وهي:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأبد
فشرب النعمان، فلما سكر غنته إياها فطرب، وقال: هذا شعر علوي هذا شعر أبي أمامة. فرضي عنه.
الفصل العاشر
عبيد بن الأبرص
توفي سنة 565، قيل 605 للميلاد
هو عبيد (بفتح العين وكسر الموحدة) بن الأبرص بن عوف بن جشم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر الأسدي الشاعر من فحول شعراء الجاهلية.
مكانته في الشعراء
عده ابن سلام في الطبقة الرابعة وقرنه بطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة التميمي وعدي بن زيد العبادي، قال: وعبيد بن الأبرص قديم عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب لا أعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوب
فالقطبيات فالذنوب
قال: ولا أدري ما بعد ذلك. وقال الجاحظ: إن عبيدا وطرفة دون ما يقال عنهما إن كان شعرهما ما في يد الناس فقط، وقد أشار أبو العلاء المعري إلى اختلال بائيته بقوله:
وقد يخطئ الرأي امرؤ وهو حازم
كما اختل في وزن القريض عبيد
شيء من أخباره
وسبب قوله للشعر أنه كان محتاجا، ولم يكن له مال فأقبل ذات يوم ومعه غنيمة له، ومعه أخته مأوية ليوردا غنمهما، فمنعه رجل من بني مالك بن ثعلبة وجبهه أي قابله بما يكره، فانطلق حزينا مهموما للذي صنع به المالكي حتى أتى شجرات، فاستظل تحتهن فنام هو وأخته، فزعموا أن المالكي نظر إليه وأخته إلى جنبه فقال:
ذاك عبيد قد أصاب ميا
يا ليته ألقحها صبيا
فحملت فولدت ضاويا
ضاويا أي ضعيفا، والعرب تزعم أن نكاح القرائب مثل بنات العم والخال ونحوها يضعف الابن، فكيف بالأخت! فسمعه عبيد فرفع يديه، ثم ابتهل فقال: اللهم إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه - أي اجعل لي منه دولة - وانصرني عليه. ووضع رأسه فنام، ولم يكن قبل ذلك يقول فأتاه آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه، ثم قال: قم. فقام وهو يرتجز ويتغنى ببني مالك، وكان يقال لهم بنو الزنية:
أيا بني الزنية ما غركم
فلكم الويل بسربال حجر
ثم استمر بعد ذلك في الشعر، وكان شاعر بني أسد غير مدافع، وأدرك حجر أبا امرئ القيس.
الفصل الحادي عشر
المعلقات أو القصائد العشر الطوال
مع بيان أنساب قائليها واختلاف الروايات ونسبتها لرواتها والكلام على غريب ما في ذلك من اللغة وما يحتاجه القارئون من المسائل النحوية من صنيع الأديب الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي رحمه الله.
المعلقة الأولى
لامرئ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو وهو المقصور ابن حجر، وهو آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندي، وهي:
قفا نبك
1
من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
ترى بعر الأرآم في عرصاتها
وقيعانها كأنه حب فلفل
كأني غداة البين
2
يوم تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفا بها صحبى
3
علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وإن شفائي عبرة
4
مهراقة
فهل عند رسم دارس من معول
كدأبك
5
من أم الحويرث قبلها
وجارتها أم الرباب بمأسل
إذا قامتا تضوع المسك منهما
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
ففاضت دموع العين مني صبابة
على النحر حتى بل دمعي محملي
ألا
6
رب يوم لك منهن صالح
ولا سيما يوم بدارة جلجل
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
فيا عجبا من كورها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه
ولا تبعديني من جناك المعلل
فمثلك حبلى
7
قد طرقت ومرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى
8
من خلفها انصرفت له
بشق وتحتي شقها لم يحول
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت
علي وآلت حلفة لم تحلل
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن تك
9
قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك
10
إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتل
وبيضة خدر
11
لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
تجاوزت أحراسا إليها
12
ومعشرا
علي حراصا لو يسرون مقتلي
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرض أثناء الوشاح المفصل
13
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
14
فقالت يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
15
خرجت بها تمشي تجر وراءنا
على أثرينا ذيل مرط مرحل
16
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
17
هصرت بفودي رأسها فتمايلت
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
18
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
19
كبكر المقاناة البياض بصفرة
غذاها نمير الماء غير المحلل
20
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرة من وحش وجرة مطفل
21
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا
تضل العقاص في مثنى ومرسل
22
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل
وتضحي فتيت المسلك فوق فراشها
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
23
وتعطو برخص غير شثن كأنه
أساريع ظبي أو مساويك إسحل
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
إذا ما اسبكرت بين درع ومجول
تسلت عمايات الرجال عن الصبا
وليس فؤادي عن هواك بمنسل
24
ألا رب خصم فيك ألوى رددته
نصيح على تعذاله غير مؤتل
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
25
فيا لك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها
بأمراس كتان إلى صم جندل
وقربة أقوام جعلت عصامها
على كاهل مني ذلول مرحل
26
وواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا
قليل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئا أفاته
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
27
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
28
كميت يزل اللبد عن حال متنه
كما زلت الصفواء بالمتنزل
29
على الذبل جياش كأن اهتزامه
إذا جاش فيه حميه غلي مرجل
30
مسح إذا ما السابحات على الونى
أثرن الغبار بالكديد المركل
31
يزل الغلام الخف عن صهواته
ويلوي بأثواب العنيف المثقل
درير كخذروف الوليد أمره
تتابع كفيه بخيط موصل
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
ضليع إذا استدبرته سد فرجه
بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
32
كأن على المتنين منه إذا انتحى
مداك عروس أو صلاية حنظل
33
كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حناء بشيب مرجل
فعن لنا سرب كأن نعاجه
عذارى دوار في ملاء مذيل
34
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
بجيد معم في العشيرة مخول
35
فألحقنا بالهاديات ودونه
جواحرها في صرة لم تزيل
36
فعادى عداء بين ثور ونعجة
دراكا ولم ينضح بماء فيغسل
فظل طهاة اللحم من بين منضج
صفيف شواء أو قدير معجل
37
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه
متى ما ترق العين فيه تسفل
38
فبات عليه سرجه ولجامه
وبات بعيني قائما غير مرسل
أصاح ترى برقا أريك وميضه
كلمع اليدين في حبي مكلل
39
يضيء سناه أو مصابيح راهب
أمال السليط بالذبال المفتل
40
قعدت له وصحبتي بين ضارج
وبين العذيب بعد ما متأملي
41
على قطن بالشيم أيمن صوبه
وأيسره على الستار فيذبل
42
فأضحى يسح الماء حول كتيفة
يكب على الأذقان دوح الكنهبل
43
ومر على القنان من نفيانه
فأنزل منه العصم من كل منزل
44
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة
ولا أطما إلا مشيدا بجندل
45
كأن ثبيرا في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل
46
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة
من السيل والغثاء فلكة مغزل
47
وألقى بصحراء الغبيط بعاعه
نزول اليماني ذي العياب المحمل
48
كأن مكاكي الجواء غدية
صبحن سلافا من رحيق مفلفل
49
كأن السباع فيه غرقى عشية
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
50
المعلقة الثانية
لطرفة بن العبد البكري، وهو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة وهو الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وهي:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
51
وقوفا بها صحبى علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
كأن حدوج المالكية عدوة
خلايا سفين بالنواصف من دد
عدولية أو من سفين ابن يامن
يجور بها الملاح طورا ويهتدي
52
يشق حباب الماء حيزومها بها
كما قسم الترب المفايل باليد
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن
مظاهر سمطى لؤلؤ وزبرجد
خذول تراعي ربربا بخميلة
تناول أطراف البرير وترتدي
وتبسم عن ألمى كأن منورا
تخلل حر الرمل دعص له ند
سقته إياة الشمس إلا لثاته
أسف ولم تكدم عليه بإثمد
53
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها
عليه نقي اللون لم يتخدد
54
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
أمون كألواح الإران نصأتها
على لاحب كأنه ظهر برجد
55
جمالية وجناء تردي كأنها
سفنجة تبري لأزعر أربد
56
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت
وظيفا وطيفا فوق مور معبد
تربعت القفين في الشول ترتعي
حدائق مولي الأسرة أغيد
تريع إلى صوت المهيب وتتقي
بذي خصل روعات أكلف ملبد
57
كأن جناحي مضرحي تكنفا
حفافيه شكا في العسيب بمسرد
فطورا به خلف الزميل وتارة
على حشف كالشن ذاو مجدد
لها فخذان أكمل النحض فيهما
كأنهما بابا منيف ممرد
58
وطي محال كالحني خلوفه
وأجرنة لزت بدأي منضد
كان كناسي ضالة يكنفانها
وأطر قسي تحت صلب مؤيد
لها مرفقان أفتلان كأنها
تمر بسلمى دالج متشدد
59
كقنطرة الرومي أقسم ربها
لتكتنفن حتى تساد بقرمد
60
صهابية العثنون موجدة القرا
بعيدة وخد الرجل موارة اليد
أمرت يداها فتل شزر وأجنحت
لها عضداها في سقيف مسند
جنوح دقاق عندل ثم أفرعت
لها كتفاها في معالي مصعد
كأن علوت النسع في دأياتها
موارد من خلقاء في ظهر قردد
تلاقى وأحيانا تبين كأنها
بنائق غر في قميص مقدد
وأتلع نهاض إذا صعدت به
كسكان بوصي بدجلة مصعد
61
وجمجمة مثل العلاة كأنما
وعى الملتقى منها إلى حرف مبرد
62
وخد كقرطاس الشآمي ومشفر
كسبت اليماني قده لم يجرد
63
وعينان كالماويتين استكنتا
بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد
طحوران عوار القذى فتراهما
كمكحولتي مذعورة أم فرقد
وصادقتا سمع التوجس للسرى
لهجس حفي أو لصوت مندد
64
مؤللتان تعرف العتق فيهما
كسامعتي شاة بحومل مفرد
وأروع نباض أحذ ململم
كمرداة صخر في صفيح مصمد
65
وأعلم مخروت من الأنف مارن
عتيق متى ترجم به الأرض تزدد
وإن شئت لم ترفل وإن شئت أرفلت
مخافة ملوي من القد محصد
وإن شئت سامى واسط الكور رأسها
وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد
على مثلها أمضى إذا قال صاحبي
ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
66
وجاشت إليه النفس خوفا وخاله
مصابا ولو أمسى على غير مرصد
67
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت
وقد خب آل الأمعز المتوقد
فذالت كما ذالت وليدة مجلس
ترى ربها أذيال سحل ممدد
ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
68
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
69
متى تأتني أصبحت كأسا روية
وإن كنت عنها ذا غنى فاغن واردد
70
وإن يلتقي الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الشريف المصمد
71
نداماي بيض كالنجوم وقينة
تروح إلينا بين برد ومجسد
72
رحيب قطاب الجيب منها رفيقة
بجس الندامى بضة المتجرد
73
إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا
على رسلها مطروفة لم تشدد
74
إذا رجعت في صوتها خلت صوتها
تجاوب أظآر على ربع رد
75
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبد
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
ولا أهل هذاك الطراف الممدد
76
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
77
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
78
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
79
وكري إذا نادى المضاف مجنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الخباء المعمد
80
كأن البرين والدماليج علقت
على عشر أو خروع لم يخضد
كريم يروي نفسه في حياته
ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي
81
أرى قبر نحام بخيل بماله
كقبر عوي في البطالة مفسد
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
82
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
83
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يوما يقده لحتفه
ومن يك في حبل المنية ينقد
84
فما لي أراني وابن عمي مالكا
متى أدن منه ينأ عني ويبعد
يلوم وما أدري علام يلومني
كما لامني في الحي قرط بن أعبد
وأيأسني من كل خير طلبته
كأنا وضعناه إلى رمس ملحد
على غير شيء قلته غير أنني
نشدت فلم أغفل حمولة معبد
85
وقربت بالقربى وجدك إنه
متى يك أمر للنكيثة أشهد
86
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد
وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم
بشرب حياض الموت قبل التهدد
87
بلا حدث أحدثته وكمحدث
هجائي وقذفي بالشكاة ومطردي
88
فلو كان مولاي امرأ هو غيره
لفرج كربي أو لأنظرني غدي
89
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي
على الشكر والتسآل وأنا مفتد
90
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
فذرني وخلقي إنني لك شاكر
ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد
91
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
92
فأصبحت ذا مال كثير وزارني
بنون كرام سادة لمسود
93
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه
خشاش كراس الحية المتوقد
94
فآليت لا ينفك كشحي بطانة
لعضب رقيق الشفرتين مهند
95
حسام إذا ما قمت منتصرا به
كفى العود منه البدء ليس بمعضد
أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة
إذا قيل مهلا قال حاجزه قدي
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني
منيعا إذا بلت بقائمه يدي
وبرك هجود قد أثارت مخافتي
نواديها أمشي بعضب مجرد
96
فمرت كهاة ذات خيف جلالة
عقلية شيخ كالوبيل يلندد
يقول وقد تر الوظيف وساقها
ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد
وقال ألا ماذا ترون بشارب
شديد علينا بغيه متعمد
97
وقال ذروه إنما نفعها له
وإلا تكفوا قاصي البرك يزدد
فظل الإماء يمتللن حوارها
ويسعى علينا بالسديف المسرهد
فإن مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
ولا تجعليني كامرئ ليس همه
كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا
ذلول بأجماع الرجال ملهد
98
فلو كنت وغلا في الرجال لضرني
عداوة ذي الأصحاب والمتوحد
ولكن نفى عني الرجال جراءتي
عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي
99
لعمرك ما أمري علي بغمة
نهاري ولا ليلي علي بسرمد
ويوم حبست النفس عند عراكه
حفاظا على عوراته والتهدد
100
على موطن يخشى الفتى عنده الردى
متى تعترك فيه الفرائص ترعد
وأصفر مضبوح نظرت حواره
على النار واستودعته كف مجمد
101
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى
بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد
102
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
المعلقة الثالثة
وهي لزهير بن أبي سلمى المزني، واسم أبي سلمى: ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس.
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتثلم
103
ودار لها بالرقمتين كأنها
مراجيع وشم في نواشر معصم
بها العين والأرآم يمشين خلفة
وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقفت بها من بعد عشرين حجة
فلأيا عرفت الدار بعد توهم
104
أنا في سفعا في معرس مرجل
ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم
105
فلما عرفت الدار قلت لربعها
ألا انعم صباحا أيها الربع واسلم
106
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن
تحملن بالعلياء من فوق جرثم
جعلن القنان عن يمين وحزنه
وكم بالقنان من محل ومحرم
علون بأنطاكية فوق عقمة
وراد حواشيها مشاكهة الدم
107
ظهرن من السوبان ثم جزعنه
على كل قيني قشيب ومفأم
108
ووركن في السوبان يعلون متنه
عليهن دل الناعم المتنعم
109
بكرن بكورا واستحرن بسحرة
فهن ووادي الرس كاليد للفم
110
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
أنيق لعين الناظر المتوسم
كأن فتات العهن في كل منزل
نزلن به حب الفنا لم يحطم
111
فلما وردن الماء زرقا جمامه
وضعن عصي الحاضر المتخيم
112
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما
تبزل ما بين العشيرة بالدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سجيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
113
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا
بمال ومعروف من القول نسلم
114
فأصبحتما منها على خير موطن
بعيدين فيها من عقوق ومأثم
عظيمين في عليا معد هديتما
ومن يستبح كنزا من المجد يعظم
115
تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت
ينجمها من ليس فيها بمجرم
ينجمها قوم لقوم غرامة
ولم يهريقوا بينهم ملء محجم
فأصبح يجري فيهم من تلادكم
مغانم شتى من إفال مزنم
116
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة
وذبيان هل أقسمتم كل مقسم
117
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
118
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
119
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
120
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
121
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
122
فتغلل لكم مالا تغل لأهلها
قرى بالعراق من فقير ودرهم
لعمري لنعم الحي جر عليهم
بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
وكان طوى كشحا على مستكنة
فلا هو أبداها ولم يتقدم
123
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي
عدوي بألف من ورائي ملجم
124
فشد ولم يفزع بيوتا كثيرة
لدي حيث ألقت رحلها أم قشعم
125
لدي أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
126
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه
سريعا وإلا يبد بالظلم يظلم
127
رعوا ظمأهم حتى إذا تم أوردوا
غمارا تفرى بالسلاح وبالدم
128
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا
إلى كلأ مستوبل متوخم
لعمرك ما جرت عليهم رماحهم
دم ابن نهيك أو قتيل المثلم
129
ولا شاركت في الموت في دم نوفل
ولا وهب منهم ولا ابن المخزم
130
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه
صحيحات مال طالعات بمخرم
131
لحي حلال يعصم الناس أمرهم
إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
كرام فلا ذو الضغن يدرك تبله
ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم
132
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
133
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
134
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
135
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
136
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
137
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
138
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
139
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
140
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
141
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم
ومن أكثر التسآل يوما سيحرم
المعلقة الرابعة
للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الصحابي رضي الله عنه، وهي:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها
فمدافع الريان عري رسمها
خلقا كما ضمن الوحي سلامها
142
دمن تجرم بعد عهد أنيسها
حجج خلون حلالها وحرامها
143
رزقت مرابيع النجوم وصابها
ودق الرواعد جودها فرهامها
من كل سارية وغاد مدجن
وعشية متجاوب إرزامها
144
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
بالجلهتين ظباؤها ونعامها
145
والعين عاكفة على أطلائها
عوذا تأجل بالفضاء بهامها
146
وجلا السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد مثونها أقلامها
أو رجع واشمه أسف نئورها
كففا تعرض فوقهن وشامها
147
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا
صما خوالد ما يبين كلامها
148
عريت وكان بها الجميع فأبكروا
منها وغودر نؤيها وثمامها
149
شاقتك طغن الحي حين تحملوا
فتكنسوا قطنا تصر خيامها
من كل محفوف يظل عصيه
زوج عليه كله وقرامها
زجلا كأن نعاج توضح فوقها
وظباء وجرة عطفا أرآمها
حفزت وزيلها السراب كأنها
أجزاع بيشة أثلها ورضامها
150
بل ما تذكر من نوار وقد نأت
وتقطعت أسبابها ورمامها
مرية حلت بفيد وجاورت
أهل الحجاز فأين منك مرامها
151
بمشارق الجبلين أو بمحجر
فتضمنتها فردة فرخامها
فصوائق إن أيمنت فمظنة
منها وحاف القهر أو طلخامها
152
فاقطع لبانة من تعرض وصله
ولشر واصل خلة صرامها
153
واحب المجامل بالجزيل وصرمه
باق إذا طلعت وزاغ قوامها
154
بطليح أسفار تركن بقية
منها فأحنق صلبها وسنامها
فإذا تغالى لحمها وتحسرت
وتقطعت بعد الكلال خدامها
155
فلها هباب في الزمام كأنها
صهباء خف مع الجنوب جهامها
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه
طرد الفحول وضربها وكدامها
156
يعلو بها حدب الإكام مسحج
قد رابه عصيانها ووجامها
157
بأحزة الثلبوت يربأ فوقها
قفر المراقب خوفها أرآمها
حتى إذا سلخا جمادى ستة
جزأ فطال صيامه وصيامها
158
رجعا بأمرهما إلى ذي مرة
حصد ونجح صريمة إبرامها
ورمى دوابرها السفا وتهيجت
ريح المصايف سومها وسهامها
فتنازعا سبطا يطير ظلاله
كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة علثت بنابت عرفج
كدخان نار ساطع أسنامها
159
فمضى وقدمها وكانت عادة
منه إذا هي عردت إقدامها
160
فتوسطا عرض السري وصدعا
مسجورة متجاورا قلامها
محفوفة وسط اليراع يظلها
منه مصرع غابة وقيامها
161
أفتلك أم وحشية مسبوعة
خذلت وهادية الصوار قوامها
خنساء ضيعت الفرير فلم يرم
عرض الشقائق طوفها وبغامها
لمعفر قهد تنازع شلوه
غبس كواسب لا يمن طعامها
162
صادفن منها غرة فأصبنها
إن المنايا لا تطيش سهامها
163
باتت وأسبل واكف من ديمة
يروي الخمائل دائما تسجامها
يعلو طريقة متنها متواتر
في ليلة كفر النجوم ظلامها
164
تجتاف أصلا قالصا متنبذا
بعجوب أنقاء يميل هيامها
وتضيء في وجه الظلام منيرة
كجمانة البحري سل نظامها
حتى إذا حسر الظلام وأسفرت
بكرت تزل عن الثرى أزلامها
165
علهت تردد في نهاء صعائد
سبعا تؤاما كاملا أيامها
166
حتى إذا يبست وأسحق حالق
لم يبله إرضاعها وفطامها
167
فتوجست زر الأنيس فراعها
عن ظهر غيب والأنيس سقامها
168
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه
مولى المخافة خلفها وأمامها
169
حتى إذا بئس الرماة وأرسلوا
عضفا دواجن قافلا أعصامها
فلحقن واعتكرت لها مدرية
كالسمهرية حدها وتمامها
لتذودهن وأيقنت إن لم تذد
أن قد أحم من الحتوف حمامها
170
فتقصدت منها كساب فضرجت
بدم وغودر في المكر سخامها
فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى
واجتاب أردية السراب إكامها
أقضي اللبانة لا أفرط ريبة
أو أن يلوم بحاجة لوامها
171
أو لم تكن تدري نوار بأنني
وصال عقد حبائل جذامها
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يعتلق بعض النفوس حمامها
172
بل أنت لا تدرين كم من ليلة
طلق لذيذ لهوها وندامها
قد بت سامرها وغاية تاجر
وافيت إذ رفعت وعز مدامها
173
أغلي السباء بكل أدكن عائق
أو جونة قدحت وفض ختامها
174
وغداة ريح قد وزعت وقرة
قد أصبحت بيد الشمال زمامها
175
بصبوح صافية وجذب كرينة
بموتر تأتاله إبهامها
176
بادرت حاجتها الدجاج بسحرة
لأعل منها حين هب نيامها
177
ولقد حميت الحي تحمل شكتي
فرط وشاحي إذ غذوت لجامها
178
فعلوت مرتقيا على ذي هبوة
حرج إلى أعلامهن قتامها
179
حتى إذا ألقت يدا في كافر
وأجن عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة
جرداء يحصر دونها جرامها
180
رفعتها طرد النعام وشله
حتى إذا سخنت وخف عظامها
181
قلقت رحالتها وأسبل نحرها
وابتل من زبد الحميم حزامها
ترقى وتطعن في العنان وتنتحي
ورد الحماة إذ أجد حمامها
وكثيرة غرباؤها مجهولة
ترجى نوافلها ويخشى ذامها
غلب تشذر بالدخول كأنها
جن البدي رواسيا أقدامها
182
أنكرت باطلها وبؤت بحقها
عندي ولم يفخر علي كرامها
183
وجزور أيسار دعوت لحتفها
بمغالق متشابه أجسامها
184
أدعو بهن لعاقر أو مطفل
بذلت لجيران الجميع لحامها
185
فالضيف والجار الجنيب كأنما
هبطا تبالة مخصبا أهضامها
186
تأوي إلى الأطناب كل رذية
مثل البلية قالص أهدامها
187
ويكللون إذا الرياح تناوحت
خلجا تمد شوارعا أيتامها
إنا إذا التقت المجامع لم يزل
منا لزاز عظيمة جشامها
188
ومقسم يعطي العشيرة حقها
ومغذمر لحقوقها هضامها
فضلا وذو كرم يعين على الندى
سمح كسوب رغائب غنامها
189
من معشر سنت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنة وإمامها
190
لا يطبعون ولا يبور فعالهم
إذ لا يميل مع الهوى أحلامها
191
فاقنع بما قسم المليك فإنما
قسم الخلائق بيننا علامها
192
وإذا الأمانة قسمت في معشر
أوفى بأوفر حظنا قسامها
193
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه
فسما إليه كهلها وغلامها
194
وهم السعاة إذا العشيرة أفظعت
وهم فوارسها وهم حكامها
195
وهم ربيع للمجاور فيهم
والمرملات إذا تطاول عامها
وهم العشيرة أن يبطئ حاسد
أو أن يميل مع العدو لئامها
196
المعلقة الخامسة
لعمرو بن كلثوم التغلبي، يذكر أيام بني تغلب ويفخر بهم، وهو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وأم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل أخي كليب، وأمها بنت بعج بن عتبة بن سعد بن زهير، وهي:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
197
مشعشة كأن الحص فيها
إذا ما الماء خالطها سخينا
198
تجور بذي اللبانة عن هواه
إذا ما ذاقها حتى يلينا
ترى اللحز الشحيح إذا أمرت
عليه لماله فيها مهينا
صبنت الكأس عنا أم عمرو
وكان الكأس مجراها اليمينا
199
وما شر الثلاثة أم عمرو
بصاحبك الذي لا تصبحينا
وكأس قد شربت ببعلبك
وأخرى في دمشق وقاصرينا
وإنا سوف تدركنا المنايا
مقدرة لنا ومقدرينا
ففي قبل التفرق يا ظعينا
نخبرك اليقين وتخبرينا
قفي نسألك هل أحدثت صرما
لوشك البين أم خنت الأمينا
200
بيوم كريهة ضربا وطعنا
أقر به مواليك العيونا
وإن غدا وإن اليوم رهن
وبعد غد بما لا تعلمينا
تريك إذا دخلت على خلاء
وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا
201
وثديا مثل حق العاج رخصا
حصانا من أكف اللامسينا
ومتني لدنة سمقت وطالت
روادفها تنوء بما ولينا
202
ومأكمة يضيق الباب عنها
وكشحا قد جننت به جنونا
وساريتي بلنط أو رخام
يرن خشاش حليهما رنينا
203
فما وجدت كوجدي أم سقب
أضلته فرجعت الحنينا
ولا شمطاء لم يترك شقاها
لها من تسعة إلا جنينا
تذكرت الصبا واشتقت لما
رايت حمولها أصلا حدينا
204
فأعرضت اليمامة واشمخرت
كأسياف بأيدي مصلتينا
205
أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
وأيام لنا غر طوال
عصينا الملك فيها أن ندينا
206
وسيد معشر قد توجوه
بتاج الملك يحمي المحجرينا
تركنا الخيل عاكفة عليه
مقلدة أعنتها صفونا
207
وأنزلنا البيوت بذي طلوح
إلى الشامات تنقي الموعدينا
208
وقد هرت كلاب الحي منا
وشذ بنا قتادة من يلينا
209
متى ننقل إلى قوم رحانا
يكونوا في اللقاء لها طحينا
210
يكون ثفالها شرقي نجد
ولهوتها قصاعة أجمعينا
211
نزلتم منزل الأضياف منا
فأعجلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجلنا قراكم
قبيل الصبح مرداة طحونا
نعم أناسنا ونعف عنهم
ونحمل عنهم ما حملونا
212
نطاعن ما تراخى الناس عنا
ونضرب بالسيوف إذا غشينا
213
بسمر من قنا الخطي لدن
ذوابل أو ببيض يختلينا
214
نشق بها رءوس القوم شقا
ونخليها الرقاب فتختلينا
215
كأن جماجم الأبطال فيها
وسوق بالأماعز يرتمينا
216
وإن الضغن بعد الضغن يبدو
عليك ويخرج الداء الدفينا
217
ورثنا المجد قد علمت معد
نطاعن دونه حتى يبينا
218
ونحن إذا عماد الحي خرت
عن الأحفاض نمنع من يلينا
219
نجذ رءوسهم في غير بر
فما يدرون ماذا يتقونا
220
كأن سيوفنا فينا وفيهم
مخاريق بأيدي لاعبينا
كأن ثيابنا منا ومنهم
خضبت بأرجوان أو طلينا
إذا ما عي بالإسناف حي
من الهول المشبه أن يكونا
نصبنا مثل رهوة ذات حد
محافظة وكنا السابقينا
221
بشبان يرون القتل مجدا
وشيب في الحروب مجربينا
222
حديا الناس كلهم جميعا
مقارعة بنيهم عن بنينا
فأما يوم خشيتنا عليهم
فتصبح خيلنا عصبا ثبينا
223
وأما يوم لا نخشى عليهم
فنمعن غارة متلببينا
224
برأس من بني جشم بن بكر
ندق به السهولة والحزونا
ألا لا يعلم الأقوام أنا
تضعضعنا وأنا قد ونينا
225
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
نكون لقيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
226
تهددنا وأوعدنا رويدا
متى كنا لأمك مقتوينا
227
فإن قناتنا يا عمرو أعيت
على الأعداء قبلك أن تلينا
228
إذا عض الثقاف بها اشمأزت
وولتهم عشوزنة زبونا
229
عشوزنة إذا انقلبت أرنت
تشج قفا المثقف والجبينا
230
فهل حدثت في جشم بن بكر
بنقص في خطوب الأولينا
231
ورثنا مجد علقمة بن سيف
أباح لنا حصون المجد دينا
232
ورثت مهلهلا والخير منهم
زهيرا نعم ذخر الذاخرينا
233
وعتابا وكلثوما جميعا
بهم نلنا تراث الأكرمينا
234
وذا البرة الذي حدثت عنه
به نحمى ونحمي المحجرينا
235
ومنا قبله الساعي كليب
فأي المجد إلا قد ولينا
236
متى نعقد قرينتنا بحبل
نجذ الحبل أو نقص القرينا
237
ونوجد نحن أمنعهم ذمارا
وأوفاهم إذا عقدوا يمينا
238
ونحن غداة أوقد في خزازى
رفدنا فوق رفد الرافدينا
239
ونحن الحابسون بذي أراطى
تشف الجلة الخور الدرينا
240
ونحن الحاكمون إذا أطعنا
ونحن العازمون إذا عصينا
241
ونحن التاركون لما سخطنا
ونحن الآخذون لما رضينا
وكنا الأيمنين إذا التقينا
وكان الأيسرين بنو أبينا
242
فصالوا صولة فيمن يليهم
وصلنا صولة فيمن يلينا
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
وأبنا بالملوك مصفدينا
إليكم يا بني بكر إليكم
ألما تعرفوا منا اليقينا
243
ألما تعرفوا منا ومنكم
كتائب يطعن ويرتمينا
علينا البيض واليلب اليماني
وأسياف يقمن وينحنينا
244
علينا كل سابغة دلاص
ترى فوق النطاق لها غصونا
245
إذا وضعت عن الأبطال يوما
رأيت لها جلود القوم جونا
246
كأن غضونهن متون غدر
تصفقها الرياح إذا جرينا
247
وتحمينا غداة الروع جرد
عرفن لنا نقائذ وافتلينا
وردن دوارعا وخرجن شعثا
كأمثال الرصائع قد بلينا
248
ورثناهن عن آباء صدق
ونورثها إذا متنا بنينا
على آثارنا بيض حسان
نحاذر أن تقسم أو تهونا
249
أخذن على بعولتهن عهدا
إذا لاقوا كتائب معلمينا
250
لتستلبن أفراسا وبيضا
وأسرى في الحديد مقرنينا
251
ترانا بارزين وكل حي
قد اتخذوا مخافتنا قرينا
إذا مارحن يمشين الهوينى
كما اضطربت متون الشاربينا
يقتن جيادنا ويقلن لستم
بعولتنا إذا لم تمنعونا
252
إذا لم نحمهن فلا بقينا
لشيء بعدهن ولا حيينا
253
ظعائن من بني جشم بن بكر
خلطن بميسم حسبا ودينا
وما منع الظعائن مثل ضرب
ترى منه السواعد كالقلينا
254
كأنا والسيوف مسللات
ولدنا الناس طرا أجمعينا
255
يدهدون الرءوس كما تدهدي
حزاورة بأبطحها الكرينا
وقد علم القبائل من معد
إذا قبب بأبطحها بنينا
256
بأنا المطمعون إذا قدرنا
وأنا المهلكون إذا ابتلينا
257
وأنا المانعون لما أردنا
وأنا النازلون بحيث شينا
258
وأنا التاركون إذا سخطنا
وأنا الآخذون إذا رضينا
259
وأنا العاصمون إذا أطعنا
وأنا العارمون إذا عصينا
260
ونشرب إذا وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
261
ألا أبلغ بني الطماح عنا
ودعميا فكيف وجدتمونا
262
إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الذل فينا
263
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
264
بغاة ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا
265
ملانا البر حتى ضاق عنا
ونحن البحر نملؤه سفينا
266
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدينا
267
المعلقة السادسة
لعنترة بن شداد العبسي، وهو عنترة بن شداد، وقيل: ابن عمرو بن شداد، وقيل: عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة، وقيل: مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعيد بن قيس بن عيلان مضر، وهي:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
أعياك رسم الدار لم يتكلم
حتى تكلم كالأصم الأعجم
268
ولقد حبست بها طويلا ناقتي
أشكو إلى سفع رواكد جنم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
دار لآنسة غضيض طرفها
طوع العناق لذيذة المتبسم
269
فوقفت فيها ناقتي وكأنها
فدن لأقضي حاجة المتلوم
وتحل عبلة بالجواء وأهلنا
بالحزن فالصمان فالمتثلم
270
حييت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
حلت بأرض الزائرين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
271
علقتها عرضا وأقتل قومها
زعما لعمر أبيك ليس بمزعم
272
ولقد نزلت فلا تظني غيره
مني بمنزلة المحب المكرم
273
كيف المزار وقد تربع أهلها
بعنيزتين وأهلنا بالغيلم
274
إن كنت أزمعت الفراق فإنما
زمت ركابكم بليل مظلم
ما راعني إلا حمولة أهلها
وسط الديار تسف حب الخمخم
275
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم
276
إذ تستبيك بذي غروب واضح
عذب مقبلة لذيذ المطعم
277
وكأن فأرة تاجر بقسيمة
سبقت عوارضها إليك من الفم
أو روضة أنفا تضمن نبتها
غيث قليل الدمن ليس بمعلم
278
جادت عليه كل بكر حرة
فتركن كل قرارة كالدرهم
279
سحا وتسكابا فكل عشية
يجري عليها الماء لم يتصرم
وخلا الذباب بها فليس ببارح
غردا كفعل الشارب المترنم
280
هزجا يحك ذراعه بذراعه
قدح المكب على الزناد الأجذم
281
تمسي وتصبح فوق ظهر حشية
وأبيت فوق سراة أدهم ملجم
282
وحشيتي سرج على عبل الشوى
نهد مراكله نبيل المحزم
هل تبلغني دارها شدنية
لعنت بمحروم الشراب مصرم
خطارة غب السرى زيافة
تطس الأكام بوخد خف ميثم
283
فكأنما أقص الإكام عشية
بقريب بين المنسمين مصلم
284
تأوي له قلص النعام كما أوت
حزق يمانية لأعجم طمطم
285
يتبعن قلة رأسه وكأنه
حرج على نعش لهن مخيم
286
صعل يعود بذي العشيرة بيضه
كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تنفر عن حياض الديلم
287
وكأنما تنأى بجانب دفها ال
وحشي من هزج العشي مؤوم
288
هر جنيب كلما عطفت له
غضبى اتقاها باليدين وبالفم
289
أبقى لها طول السفار مقرمدا
سندا ومثل دعائم المتخيم
290
بركت على جنب الرداع كأنما
بركت على قصب أجش مهضم
291
وكأن ربا أو كحيلا معقد
حش الوقود به جوانب قمقم
292
ينباع من ذفري عضوب جسرة
زيافة مثل الفنيق المكدم
293
إن تغدفي جوني القناع فإنني
طب بأخذ الفارس المستلثم
أثني علي بما علمت فإنني
سمح مخالطتي إذا لم أظلم
294
فإذا ظلمت فإن ظلمى باسل
مر مذاقته كطعم العلقم
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر في الشمال مقدم
فإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
وكما علمت شمائلي وتكرمي
وحليل غانية تركت مجدلا
تمكو فرصته كشدق الأعلم
سبقت يداي له بعاجل طعنة
ورشاش نافذة كلون العندم
295
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
296
إذ لا أزال على رحالة سابح
نهد تعاوره الكماة مكلم
297
طورا يجرد للطعان وتارة
يأوي إلى حصد القسي عرمرم
298
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوعى وأعف عند المغنم
فأرى مغانم لو أشاء حويتها
فيصدني عنها الحيا وتكرمي
299
ومدجج كره الكماة نزاله
لا ممعن هربا ولا مستسلم
300
جادت له كفي بعاجل طعنة
بمثقف صدق الكعوب مقوم
301
برحيبة الفرغين يهدي جرسها
بالليل معتس الذئاب الضرم
302
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
ليس الكريم على القنا بمحرم
303
فتركته جزر السباع ينشنه
يقضمن حسن بنانه والمعصم
304
ومشك سابغة هتكت فروجها
بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
زبذ يداه بالقداح إذا شتا
هتاك غايات التجار ملوم
لما رآني قد نزلت أريده
أبدى نواجذه لغير تبسم
فطعنته بالرمح ثم علوته
بمهند صافي الحديدة مخذم
عهدي به مد النهار كأنما
خضب اللبان ورأسه بالعظلم
305
بطل كأن ثيابه في سرحة
يحذى نعال السبت ليس بتوأم
306
يا شاة ما قنص لمن حلت له
حرمت علي وليتها لم تحرم
307
فبعثت جاريتي وقلت لها اذهبي
فتجسسي أخبارها لي واعلمي
308
قالت رأيت من الأعادي غرة
والشاة ممكنة لمن هو مرتم
وكأنما التفتت بجيد جداية
رشأ من الغزلان حر أرثم
309
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي
والكفر مخبثة لنفس المنعم
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى
إذا تقلص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الحرب التي لا تشتكي
عمراتها الأبطال غير تغمغم
310
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم
عنها ولكني تضايق مقدمي
311
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها
أشطان بئر في لبان الأدهم
312
ما زلت أرميهم بثغرة نحره
ولبانه حتى تسربل بالدم
313
فازور من وقع القنا بلبانه
وشكى إلي بعبرة وتحمحم
314
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مكلمي
315
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
والخيل تقتحم الخبار عوابسا
من بين شيظمة وأجرد شيظم
ذلل ركابي حيث شئت مشايعي
لبى وأحفزه بأمر مبرم
316
إني عداني أن أزورك فاعلمي
ما قد علمت وبعض ما لم تعلمي
317
حالت رماح ابني بغيض دونكم
وزوت جواني الحرب من لم يجرم
ولقد كررت المهر يدمي نحره
حتى اتقتني الحيل بابني حذيم
318
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم ألقهما دمي
إن يفعلا فلقد تركت أباهما
جزر الشباع وكل نسر قشعم
319
المعلقة السابعة
للحارث بن حلزة اليشكري، وهو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وهي:
آذنتنا ببينها أسماء
رب ثاو يمل منه الثواء
320
بعد عهد لنا ببرقة شماء
فأذنى ديارها الخلصاء
321
فالمحياة فالصفاح فأعناق
فتاق فعاذب فالوفاء
322
فرياض القطا فأودية الشر
بب فالشعبتان فالأبلاء
لا أرى من عهدت فيها فأبكى ال
يوم دلها وما يحير البكاء
323
وبعينيك أوقدت هند النا
ر أحيرا تلوي بها العلياء
324
فتنورت نارها من بعيد
بخزازى هيهات منك الصلاء
أوقدتها بين العقيق فشخصي
ن بعود كما يلوح الضياء
غير أني قد أستعين على الهم
إذا خف بالثوي النجاء
325
بزفوف كأنها هقلة أم
رئال دوية سقفاء
أنست نبأة وأفزعها القنا
ص عصرا وقددنا الإمساء
326
فترى خلفها من الرجع والوق
ع منينا كأنه إهباء
327
وطراقا من خلفهن طراق
ساقطات ألوت بها الصحراء
328
أتلهى بها الهواجر إذ كل
ابن هم بلية عمياء
329
وأتانا من الحوادث والأنبا
ء خطب نعنى به ونساء
أن إخواننا الأراقم يغلو
ن علينا في قيلهم إحفاء
330
يخلطون البريء منا بذي الذن
ب ولا ينفع الخلي الخلاء
331
زعموا أن كل من ضرب العي
ر موال لنا وأنا الولاء
أجمعوا أمرهم عشاء فلما
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
332
من مناد ومن مجيب ومن تص
هال خيل خلال ذاك رغاء
أيها الناطق المرقش عنا
عند عمرو وهل لذاك بقاء
لا تخلنا على غراتك إنا
قبل ما قد وشى بنا الأعداء
333
فبقينا على الشناءة تنمي
نا حصون وعزة قعساء
334
قبل ما اليوم بيضت بعيون النا
س فيها تعيط وإباء
وكأن المنون تردى بنا أر
عن جونا ينجاب عنه العماء
335
مكفهرا على الحوادث لا تر
توه للدهر مؤيد صماء
336
إرمي بمثله جالت الجن
فآبت لخصمها الأجلاء
ملك مقسط وأفضل من يم
شي ومن دون ما لديه الثناء
337
أيما خطة أردتم فأدو
ها إلينا تمشي بها الأملاء
338
إن نبشتم ما بين ملحة فالصا
قب فيه الأموات والأحياء
أو نقشتم فالنقش يجشمه النا
س وفيه الصلاح والأبراء
339
أو سكتم عنا فكنا كمن أغ
مض عينا في جفنها أقذاء
340
أو منعتم ما تسألون فمن حد
ثتموه له علينا العلاء
341
هل علمتم أيام ينتهب النا
س غوارا لكل حي عواء
إذ ركبنا الجمال من سعف البح
رين سيرا حتى نهاها الحساء
342
ثم ملنا على تميم فأحرم
نا وفينا بنات مر إماء
لا يقيم العزيز بالبلد السه
ل ولا ينفع الذليل النجاء
343
ليس ينجى موائلا من حذار
رأس طود وحرة رجلاء
فملكنا بذلك الناس حتى
ملك المنذر بن ماء السماء
ملك أضرع البرية لا يو
جد فيها لما لديه كفاء
344
ما أصابوا من تغلبي فمطلو
ل عليه إذا أصيب العفاء
345
كتكاليف قومنا إذ غزا المنذ
ر هل نحن لابن هند رعاء
إذا أحل العلياء قبة ميسو
ن فأدنى ديارها العوصاء
346
فتأوت له قراضبة من
كل حي كأنهم ألقاء
347
فهداهم بالأسودين وأمر الله
بلغ تشقى به الأشقياء
348
إذا تمنونهم غرورا فسا
قتهم إليكم أمنية أشراء
لم يغروكم غرورا ولكن
رفع الآل شخصهم والضحاء
349
أيها الناطق المبلغ عنا
عند عمرو وهل لذاك انتهاء
350
من لنا عنده من الخير آيا
ت ثلاث في كلهن القضاء
351
آية شارق الشقيقة إذ جا
ءوا جميعا لكل حي لواء
حول قيس مستلئمين بكبش
قرظي كأنه عبلاء
وصتيت من العواتك لا تنها
ه إن مبيضة رعلاء
352
فرددناهم بطعن كما يخر
ج من خربة المزاد الماء
353
وحملناهم على حزم ثهلا
ن شلالا ودمى الأنساء
354
وجبهناهم بطعن كما تنهز
في جمة الطوي الدلاء
355
وفعلنا بهم كما علم الله
وما إن للحائنين دماء
356
ثم حجرا اعنى ابن أم قطام
وله فارسية خضراء
أسد في اللقاء ورد هموس
وربيع إن شمرت غبراء
357
وفككنا غل امرئ القيس عنه
بعدما طال حبسه والعناء
ومع الجون جون آل بني الأو
س عنود كأنها دفواء
ما جزعنا تحت العجاجة إذ ولوا
شلالا وإذ تلظى الصلاء
358
وأوقدناه رب غسان بالمنذ
ر كرها إذ لا تكال الدماء
وأتيناهم بتسعة أملاك
كرام أسلابهم أغلاء
359
وولدنا عمرو بن أم أناس
من قريب لما أتانا الحباء
مثلها يخرج النصيحة للقو
م فلاة من دونها أفلاء
360
فاتركوا الطيخ والتعاشي وإما
تتعاشوا ففي التعاشي الداء
361
واذكروا حلف ذي المجاز وما
قدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل ين
قض ما في المهارق والأهواء
362
واعلموا أننا وإياكم فيما
اشترطنا يوم اختلفنا سواء
عننا باطلا وظلما كما تعتر
عن حجرة الربيض الظباء
أعلينا جناح كندة أن
يغنم غازيهم ومنا الجزاء
أم علينا جرى إياد كما
قيل لطسم أخوكم الأباء
ليس منا المضربون ولا قيس
ولا جندل ولا الحداء
أم جنايا بني عتيق فمن يغ
در فإنا من حربهم برآء
363
أم علينا جرى العباد كما
نيط بجوز المحمل الأعباء
وثمانون من تميم بأيد
يهم رماح صدورهن القضاء
تركوهم ملحبين وآبوا
بنهاب يصم منها الحداء
364
أم علينا جرى حنيفة أو ما
جعت من محارب غبراء
أم علينا جرى قضاعة أم
ليس علينا فيما جنوا أنداء
ثم جاءوا يسترجعون فلم تر
جع لهم شامة ولا زهراء
لم يخلوا بني رزاح ببرقا
ء نطاع لهم عليهم دعاء
ثم فاءوا منهم بقاصمة الظه
ر ولا يبرد الغليل الماء
ثم خيل من بعد ذلك مع الغلا
ق لا رأفة ولا إبقاء
وهو الرب والشهيد على يو
م الحيارين والبلاء بلاء
365
المعلقة الثامنة
قال الأعشى أبو بصير، واسمه ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وهي:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
366
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
367
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
368
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
كما استعان بريح عشرق زجل
369
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختتل
370
يكاد يصرعها لولا تشددها
إذا تقوم إلى جاراتها الكسل
371
إذا تلاعب قرنا ساعة فترت
وارتج منها ذنوب المتن والكفل
372
صفر الوشاح وملء الدرع بهكنة
إذا تأتى يكاد الخصر ينخزل
373
نعم الضجيع غذاة الدجن يصرعها
للذة المرء لا جاف ولا تفل
374
هركولة فنق درم مرافقها
كأن أخمصها بالشوك منتعل
375
إذا تقوم يضوع المسك أصورة
والزنبق الورد من أردانها شمل
376
ما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها مسبل هطل
377
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بعميم النبت مكتهل
378
يوما بأطيب منها نشر رائحة
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
379
علقتها عرضا وعلقت رجلا
غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
380
وعلقته فتاة ما يحاولها
ومن بني عمها ميت بها وهل
381
وعلقتني أخيرى ما تلائمني
فاجتمع الحب حب كله تبل
382
فكلنا مغرم يهذي بصاحبه
ناء ودان ومخبول ومختبل
383
صدت هريرة عنا ما تكلمنا
جهلا بأم خليد حبل من تصل
384
أأن رأت رجلا أعشى أضر به
ريب المنون ودهر مفند خبل
385
قالت هريرة لما جئت زائرها
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
386
إما ترينا حفاة لا نعال لنا
إنا كذلك ما نحفى وننتعل
387
وقد أخالس رب البيت غفلته
وقد يحاذر مني ثم ما يئل
388
وقد أقود الصبا يوما فيتبعني
وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل
389
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاو مشل شلول شلشل شول
390
في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل
391
نازعتهم قضب الريحان متكئا
وقهوة مزة راووقها خضل
392
لا يستفيقون منها وهي راهنة
إلا بهات وإن غلوا وإن نهلوا
393
يسعى بها ذو زجاجات له نطف
مقلص أسفل السربال معتمل
394
ومستجيب تخال الصنج يسمعه
إذا ترجع فيه القينة الفضل
395
والساحبات ذيول الريط آونة
والرافعات على أعجازها العجل
396
من كل ذلك يوم قد لهوت به
وفي التجارب طول اللهو والغزل
397
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
398
لا يتنمى لها بالقيظ يركبها
إلا الذين لهم فيما أتوا مهل
399
جاوزتها بطليح جسرة سرح
في مرفقيها إذا استعرضها فتل
400
بل هل ترى عارضا قد بت أرمقه
كأنما البرق في حافاته شعل
401
له رداف وجوز مفأم عمل
منطق بسجال الماء متصل
402
لم يلهني اللهو عنه حين أرقبه
ولا اللذاذة في كأس ولا شغل
403
فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا
شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل
404
قالوا نمار فبطن الخال جادهما
فالعسجدية فالأبلاء فالرجل
405
فالسفح يجري فخنزير فبرقته
حتى تدافع منه الربو فالحبل
406
حتى تحمل منه الماء تكفلة
روض القطا فكثيب الغينة السهل
407
يسقى ديارا لها قد أصبحت غرضا
زورا تجانف عنها القود والرسل
408
أبلغ يزيد بني شيبان مألكة
أبا ثبيت أما تنفط تأتكل
409
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا
ولست ضائرها ما أطت الإبل
410
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
411
تغري بنا رهط مسعود وإخوته
يوم اللقاء فتردي ثم تعتزل
412
لا أعرفنك إن جدت عداوتنا
والتمس النصر منكم عوض تحتمل
413
تلحم أبناء ذي الجدين إن غضبوا
أرماحنا ثم تلقاهم وتعتزل
414
لا تقعدن وقد أكلتها حطبا
تعوذ من شرها يوما وتبتهل
415
سائل بني أسد عنا فقد علموا
أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل
416
واسأل قشيرا وعبد الله كلهم
واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل
417
إنا نقاتلهم حتى نقتلهم
عند اللقاء وإن جاروا وإن جهلوا
418
قد كان في آل كهف إن هم احتربوا
والجاشرية من يسعى وينتضل
419
إني لعمر الذي حطت مناسمها
تخدي وسيق إليه الباقر الغيل
420
لئن قتلتم عميدا لم يكن صددا
لنقتلن مثله منكم فنمتثل
421
لئن منيت بنا عن غب معركة
لأتلفنا عن دماء القوم ننتقل
422
لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
423
حتى يظل عميد القوم مرتفقا
يدفع بالراح عنه نسوة عجل
424
أصابه هندواني فأقصده
أو ذابل من رماح الخط معتدل
425
كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم
إنا لأمثالكم يا قومنا قتل
426
نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية
جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل
427
قالوا الطعان فقلنا تلك عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل
428
قد نخضب العير في مكنون فائله
وقد يشيط على أرماحنا البطل
429
المعلقة التاسعة
قال النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان مضر، ويكنى أبا أمامة، قال يمدح النعمان ويعتذر إليه مما وشى به المنخل من شأن امرأته المتجردة، وهي:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأبد
430
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها
عيت جوابا وما بالربع من أحد
431
إلا الأواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
432
ردت عليه أقاصيه ولبده
ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
433
خلت سبيل أتي كان يحبسه
ورفعته إلى السجفين فالنضد
434
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا
أخنى عليها الذي أخنى على لبد
435
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
وانم القتود على عيرانة أجد
436
مقذوفة بدخيس النحض بازلها
له صريف صريف القعو بالمسد
437
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
يوم الجليل على مستأنس وحد
438
من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
439
فارتاع من صوت كلاب فبات له
طوع الشوامت من خوف ومن صرد
440
فبثهن عليه واستمر به
صمع الكعوب بريات من الحرد
441
وكان ضمران منه حيث يوزعه
طعن المعارك عند المحجر النجد
442
شك الفريصة بالمدرى فأنفذها
طعن المبيطر إذ يشفى من العضد
443
كأنه خارجا من جنب صفحته
سفود شرب نسوه عند مفتأد
444
فظل يعجم أعلى الروق منقبضا
في حالك اللون صدق غير ذي أود
445
لما رأى واشق إقعاص صاحبه
ولا سبيل إلى عقل ولا قود
446
قالت له النفس إني لا أرى طمعا
وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
447
فتلك تبلغني النعمان إن له
فضلا على الناس في الأدنى وفي البعد
448
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
449
إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
450
وخيس الجن أني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
451
فمن أطاعك فانفعه بطاعته
كما أطاعك وادلله على الرشد
452
ومن عصاك فعاقبه معاقبة
تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
453
إلا لمثلك أو من أنت سابقه
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
454
أعطى لفارهة حلو توابعها
من المواهب لا تعطى على نكد
455
الواهب المائة المعكاء زينها
سعدان توضح في أوبارها اللبد
456
والراكضات ذيول الريط فنقها
برد الهواجر كالغزلان بالجرد
457
والخيل تمزع غربا في أعنتها
كالطير تنجو من الشوبوب ذي البرد
458
والأدم قد خيست فتلا مرافقها
مشدودة برحال الحيرة الجدد
459
احكم كحكم فتات الحي إذ نظرت
إلى حمام شراع وارد الثمد
460
يحفه جانبا نيق وتتبعه
مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
461
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتنا ونصفه فقد
462
فحسبوه فألفوه كما زعمت
تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
463
فكملت مائة فيها حمامتها
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
464
فلا لعمر الذي مسحت كعبته
وما هريق على الأنصاب من جسد
465
والمؤمن العائذات الطير تمسحها
ركبان مكة بين الغيل والسعد
466
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه
إذن فلا رفعت سوطي إلي يد
467
إذن فعاقبني ربي معاقبة
قرت بها عين من يأتيك بالحسد
468
هذا لأبرأ من قول قذفت به
طارت نوافذه حرا على كبدي
469
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأر من الأسد
470
مهلا فداء لك الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن ولد
471
لا تقذفني بركن لا كفاء له
وإن تأثفك الأعداء بالرفد
472
فما الفرات إذا هب الرياح له
تمري أواذيه العبرين بالزبد
473
يمده كل واد مترع لجب
فيه ركام من الينبوت والخضد
474
يظل من خوفه الملاح معتصما
بالخيزرانة بعد الأين والنجد
475
يوما بأجود منه سيب نافلة
ولا يحول عطاء اليوم دون غد
476
هذا الثناء فإن تسمع لقائله
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
477
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت
فإن صاحبها مشارك النكد
478
المعلقة العاشرة
قال عبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعيد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي:
أقفر من أهله ملحوب
قالقطبيات فالذنوب
479
فراكس فثعيلبات
فذات فرقين فالقليب
480
فعردة فقفا حبر
ليس بها منهم عريب
481
وبدلت منهم وحوشا
وغيرت حالها الخطوب
482
أرض توارثها الجدوب
فكل من حلها محروب
483
إما قتيلا وإما هلكا
والشيب شين لمن يشيب
484
عيناك دمعهما سروب
كأن شأنيهما شعيب
485
واهية أو معين معن
من هضبة دونها لهوب
486
أو فلج واد ببطن أرض
للماء من تحته قسيب
487
أو جدول في ظلال نخل
للماء من تحتها سكوب
488
تصبو وأنى لك التصابي
أنى وقد راعك المشيب
489
فإن يكن حال أجمعها
فلا بدي ولا عجيب
490
أو يك أقفر منها جوها
وعادها المحل والجدوب
491
فكل ذي نعمة مخلوس
وكل ذي أمل مكذوب
492
وكل ذي إبل موروث
وكل ذي سلب مسلوب
493
وكل ذي غيبة يئوب
وغائب الموت لا يئوب
494
أعاقر مثل ذات رحم
أو غانم مثل من يخيب
495
من يسأل الناس يحرموه
وسائل الله لا يخيب
496
بالله يدرك كل خير
والقول في بعضه تلغيب
497
والله ليس له شريك
علام ما أخفت القلوب
498
أفلح بما شئت قد يبلغ بالضع
ف وقد يخدع الأريب
499
لا يعظ الناس من لا يعظ الده
ر ولا ينفع التلبيب
500
إلا سجيات ما القلوب
وكم يصيرن شائنا حبيب
501
ساعد بأرض إن كنت فيها
ولا تقل إنني غريب
502
قد يوصل النازح النائي وقد
يقطع ذو السهمة القريب
503
والمرء ما عاش في تكذيب
طول الحياة له تعذيب
504
يا رب ماء وردت آجن
سبيله خائف جديب
505
ريش الحمام على أرجائه
للقلب من خوفه وجيب
506
قطعته غدوة مشيحا
وصاحبي بادن خبوب
507
غيرانة موجد فقارها
كأم حاركها كثيب
508
أخلف بازلا سديس
لا خفة هي ولا نيوب
509
كأنها من حمير غاب
جون بصفحته ندوب
510
أو شبب يرتعي الرخامى
تلطه شمأل هبوب
511
فذاك عصر وقد أراني
تحملني نهدة سرحوب
512
مضبر خلقها تضبيرا
ينشق عن وجهها السبيب
513
زيتية نائم عروقها
ولين أسرها رطيب
514
كأنها لقوة طلوب
تيبس في وكرها القلوب
515
باتت على إرم عذوبا
كأنها شيخة رقوب
516
فأصبحت في غداة قر
يسقط عن ريشها الضريب
517
فأبصرت ثعلبا سريعا
ودونه سبسب جديب
518
فنفضت ريشها وولت
وهي من نهضة قريب
519
فاشتال وارتاع من حسيس
وفعله يفعل المذءوب
520
فنهضت نحوه حثيثا
وحردت حرده تسيب
521
فدب من خلفها دبيبا
والعين حملاقها مقلوب
522
فأدركته فطرحته
والصيد من تحتها مكروب
523
فجدلته فطرحته
فكدحت وجهه الجبوب
524
فعاودته فرفعته
فأرسلته وهو مكروب
525
يضغو ومخلبها في دفه
لا بد حيزومه منقوب
526
تمت المعلقات العشر مع اختلاف الروايات وما أردناه من التعليق عليها، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
نامعلوم صفحہ