وفيه الحزن بعد هذا وذاك لهذا البلد الذي صرفت عنه ضروب الخير في السياسة والثقافة والاقتصاد، ومنحه الله مع ذلك إقليما معتدلا وأرضا خصبة وسماء صافية ونهرا يفيض بالنعمة والنعيم، وكان هذا كله خليقا أن يكفل لأهله حياة مادية محتملة، ويصرف عن أهله الآفات والعلل والأدواء، ولكنا ننظر فإذا هو قد حرم حتى هذه الحياة، وإذا الآفات والعلل والأوبئة تسعى إليه من أقصى الشرق، ومن أقصى الجنوب، فلا تجد من يردها عنه أو يحميه من شرها، وإذا الآفات والعلل والأوبئة تهبط عليه من سمائه الصافية، وتخرج له من أرضه الخصبة، وتسعى إليه مع نهره الفياض، وإذا أهله مرتع الآفات والعلل والأوبئة، تصيب منه ما تشاء كما تشاء، ومتى تشاء، وحيث تشاء! وإذا العالم كله يتلقى الأنباء في أقل من شهر بأن هذا البلد الذي خلق للعزة ما زال مستذلا، وبأن هذا البلد الذي خلق للأمن ما زال خائفا، وبأن هذا البلد الذي خلق للحرية ما زال مستعبدا، ثم بأن هذا البلد الذي خلق للصحة مريض يفتك وباء الكوليرا بمدنه وقراه وبمن في مدنه وقراه كما يشاء، ومتى يشاء، وحيث يشاء!
ثم في هذا الشعور الذي أطرقت له إلى الأرض وتضاءلت له وتضاءلت، شيء عظيم كئيب من الخزي لهذا البلد الذي كنا نظنه قد تجاوز هذا الطور، طور البلاد المتأخرة العتيقة الجاهلة التي تفتك بأهلها الأوبئة، فإذا نحن نراه عرضة للوباء، بل مرتعا للوباء، وأي وباء؟ وباء الكوليرا الذي كنا نظن أنه لن يعود إلى مصر بعد أن فعل بها وبأهلها الأفاعيل في أول هذا القرن.
ليت شعري ماذا صنعت مصر؟ وماذا صنع المصريون؟ يقال إنهم قد أنشئوا في هذا القرن كثيرا من المدارس ومعاهد العلم، ومضوا في الحضارة الحديثة إلى أبعد حد ممكن، فلهم برلمان كما أن لغيرهم من الأمم برلمانات، ولهم وزارات منظمة كما أن لغيرهم من الأمم المتحضرة وزارات منظمة، ولهم وزارة قد خصصت لشئون الصحة، كما أن لغيرهم وزارة مخصصة لشئون الصحة، ولهم عاصمة تتفوق على كثير من عواصم البلاد المتحضرة وتقاس إلى عواصم الدول الكبرى، يعجب بها أهل باريس، وأهل لوندرة، وأهل نيويورك إذا ألموا بها وأقاموا فيها، وهم بعد هذا كله قد نالوا من الترف ما صرف عن كثير من الأمم المتحضرة في هذه الأيام، حتى أصبح ثراؤهم وترفهم وإقبالهم على اللذات مضرب الأمثال في أقطار الأرض كلها ... كل هذا حق، وكل هذا شيء نسمعه حين نزور باريس وغير باريس من المدن الكبرى في أوروبا وفي أمريكا. كل هذا حق، ولكن من الحق أيضا أن العالم كله قد تلقى منذ شهر نبأ مقتضبا، ولكنه على ذلك خطير أشد الخطورة، تلقى النبأ بأن مصر التي أراد إسماعيل أن يراها جزءا من أوروبا قد ألم بها وباء الكوليرا، وأقام فيها، وأنها تريد أن ترده فلا تستطيع له ردا، وأنها تستعين بالعالم المتحضر على وقاية أبنائها من شره، وحمايتهم من فتكه البغيض.
وكنت أظن أن هذا الشعور بالخزي مظهر من مظاهر الغرور والكبرياء والاعتداد بالنفس والوطن، ولكني لم أكد أبلغ مصر حتى عرفت أني لست مستأثرا من دون المصريين المثقفين بهذا النوع من الغرور والكبرياء والاعتداد بالنفس والوطن؛ فكل مصري مثقف يقدر نفسه ويقدر وطنه، ويستحضر ما بذل المصريون من الجهود في العصر الحديث ليرقوا بوطنهم إلى حيث ينبغي أن يكون من العزة والأمن والحرية والصحة في الأبدان والقلوب والعقول، كل مصر مثقف يجد هذا الشعور المر الذي وجدته، والذي هو مزاج يأتلف من الحزن الممض، والخزي الذي تطأطأ له الرءوس.
وينظر إلي من كان حولي من المسافرين، وفيهم المصري والأجنبي، فيروعهم ما يرون من هذا الوجوم الذي أغرق فيه إغراقا غريبا، فيظنون بي في أعماق أنفسهم الظنون، ويسألني بعضهم محاولا أن يهون علي الخطب، وأن يردني إلى شيء من الأمن: ماذا أجد؟ فلا أزيد على أن أذكره بأني أعرف وباء الكوليرا، وبأني قد تحدثت عنه في بعض ما قرأ لي من كتب، وبأني قد رأيت هذا الوباء ولما أتجاوز العاشرة، فكان له في قلبي وحياتي كلها أبلغ الأثر وأعمقه وأبغضه. وتأثر الأطفال حين يكون عميقا بغيضا إلى هذا الحد لا يفارقهم مهما تمتد لهم أسباب الحياة.
أصدقوني أم لم يصدقوني؟ لا أدري! ولكن أنا لم أصدق نفسي، فلم يكن بين هذا الوجوم الذي أغرقت فيه وبين ذكريات الصبا على مرارتها وعلى ما تثير في النفس من الحسرات، صلة قريبة أو بعيدة في ذلك الوقت، وإنما نشأ هذا الوجوم عن هذا الشعور الحزين المستخذي الذي يجده المصري المثقف حين يرى آماله وأعماله وجهوده، وآمال كثير من نظرائه وأعمالهم وجهودهم، تنهار كأنهم لم ينعموا بهذه الآمال، وكأنهم لم يسعدوا بما حاولوا من الأعمال، وكأنهم لم يستمتعوا بما بذلوا من الجهود، وكأنهم لم يتحدثوا إلى أنفسهم، ولم يتحدث بعضهم إلى بعض بأن آمالهم التي كانت بعيدة قد أخذت تقرب وتقرب حتى توشك أن تتحقق، وبأن أعمالهم الشاقة قد أخذت تؤتي ثمراتها، وبأن جهودهم العنيفة قد أخذت تدنيهم من غاياتهم، وبأنهم سيستطيعون بعد حين أن يقفوا بعد طول السعي، وأن ينظروا فإذا هم لم ينفقوا حياتهم عبثا، ولم يبذلوا جهودهم في غير طائل، وإنما تلقوا من آبائهم وطنا ضعيفا مهيضا عليلا، فما زالوا به حتى ردوا إليه شيئا من قوة وصحة وعافية ونشاط، ومضوا به في طريق العزة والكرامة أشواطا وأشواطا، وهم يستطيعون أن يسلموه إلى أبنائهم مطمئنين إلى أنهم قد نهضوا بالحق فأحسنوا النهوض، وأدوا الواجب فأحسنوا الأداء.
كان هذا الشعور بخيبة الأمل وضيعة العمل مصدر هذا الوجوم الذي أغرقت فيه، ولكني لم أكن أستطيع أن أتحدث بشيء من ذلك إلى من كان حولي من الناس، فهم كانوا مشغولين بأنفسهم عن المثقفين المصريين وعن آمالهم وأعمالهم وجهودهم، وعن هذه الفلسفة اليائسة التي تغمر قلوبهم في هذه الأيام السود، وهم كانوا يتحدثون فيما بينهم بما ينبغي أن يتخذوا من ضروب التحفظ وألوان الاحتياط، وهم على كل حال قد عرفوا أني لا أحب أن أسمع لحديث الكوليرا ولا أن أشارك فيه، فأعفوني من هذا الحديث، ولكن الأنباء لم تعفني منه؛ فقد كانت نشرة السفينة تعلن إلينا كل يوم عدد الإصابات وعدد الوفيات وأماكن هذه وتلك، ولم نشرف على الإسكندرية حتى لم يكن لأهل السفينة كلهم حديث إلا هذا الوباء، وكنت أظن أني سأجد إذا بلغت مصر وجوما شائعا، وحزنا منتشرا، واستخذاء شاملا، كما كنت أجد في نفسي من الوجوم والحزن والاستخذاء، ولكني أبلغ الإسكندرية وألقى من شاء الله أن ألقى من المصريين، فإذا حياتهم تجري على الوتيرة التي ألفناها، وإذا الوباء يروعهم ولكنه لا يصرفهم عن أنفسهم ولا عن لذاتهم، وإذا أنباء السياسة تحزنهم، ولكنها لا تلهيهم عن أنفسهم ولا عن لذاتهم، وإذا أنباء الاقتصاد تخيفهم، ولكنها لا تشغلهم عن أنفسهم ولا عن لذاتهم، وأبلغ القاهرة فأرى فيها مثل ما رأيت في الإسكندرية، وإنما الذين تشغلهم أنباء الوباء والسياسة والاقتصاد عن أنفسهم وعن لذاتهم قلة ضئيلة ليس أيسر من إحصائها، فأما من عدا هذه القلة فماضون في حياتهم كما تعودوا أن يمضوا؛ ألسنة طوال، وعقول قصار، وقلوب قاسية كالحجارة بل أشد قسوة، فلا أملك نفسي أن أتلو قول الله عز وجل:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، ولا أملك نفسي أن أتلو قول الله عز وجل:
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
ويقبل العيد فإذا المترفون مقبلون على عيدهم كما أقبل عليهم عيدهم، لا يشعرون بأن مئات من الأسر في مئات من المدن والقرى قد كانت تنتظر العيد كما كانوا ينتظرونه، وتتشوق إليه أكثر مما كانوا يتشوقون إليه، ولكن العيد أخلفهم موعده، وأرسل إليهم الموت نائبا عنه، وأرسل إليهم مع الموت حسرات وعبرات وزفرات، وأرسل إليهم مع هذا كله شقاء ملحا وبؤسا مقيما. نعم، لا يشعرون بأن أمهم مصر مريضة، وبأن مرضها هو النزيف المهلك، ولكنها لا تنزف دما وإنما تنزف أبناءها ونباتها نزفا. لا يشعرون بشيء من ذلك، أو يشعرون به ولا يلتفتون إليه، أو يشعرون به ويلتفتون إليه ولكنهم لا يحفلون إلا بأنفسهم، ولا يشفقون إلا عليها، كأنهم يستطيعون أن يعيشوا وينعموا ويستمتعوا بالحياة إذا ضرب الحزن والبؤس والموت أطنابها على هذا البلد البائس الشقي.
نامعلوم صفحہ