فقد كان المسلمون في أيام عمر، وفي ذلك العام، يجدون الجوع والظمأ والعري، فأما المصريون في هذا العام فإنهم يجدون الموت ويجدون المرض، ويجدون بعد الموت والمرض ما كان يجد العرب في عام الرمادة من الجوع والظمأ والعري، ومن حق المصريين الذين صب عليهم الوباء أن يدفع عنهم هذا الوباء، وأن ترد عنهم آثاره، فلا يكون منهم من يشكو الجوع والظمأ والعري، وهذا الحق واجب على الدولة ما وجدت في خزائنها من المال ما يمكنها من ذلك، لا ينبغي أن تفكر في شيء حتى تفرغ من هذه المحنة، فإن لم تسعفها خزائنها فمن الحق عليها أن تسلك الطريق التي أراد عمر أن يسلكها، وأن تفرض على القادرين رعاية العاجزين حتى يأتي الله بالفرج.
يجب أن تعلم الدولة، ويجب أن يعلم الموسرون، أن التصدق بالمال خير في أوقات الرخاء والدعة واللين، فإذا اشتدت الشدة، وأزمت الأزمة، وألم الوباء، فالتصدق واجب يفرضه العدل، فإن لم ينهض به الأفراد من تلقاء أنفسهم، وجب على الدولة أن تأخذهم به أخذا. يجب على الدولة أن تعلم أن الله قد أمر أئمة المسلمين في أوقات الرخاء والدعة أن يأخذوا من الأغنياء ويردوا على الفقراء، حتى لا يبقى بين الناس جائع أو محروم، فإذا جد الجد وألمت الكارثة، فحرام على الموسرين أن يطعموا وأن يشربوا وأن يكتسوا حتى يطعم الجائعون ويشرب الظامئون ويكتسي العارون من المعسرين، وعلى الدولة أن تقوم على هذا كله بسلطان القانون، فإن لم تفعل فهي آثمة أشنع الإثم في ذات الله، وفي ذات الوطن، وفي ذات المواطنين!
هذه دروس ألقاها عمر بن الخطاب على الحاكمين والمحكومين في التضامن الاجتماعي الذي لا يقوم على الاشتراكية ولا على الشيوعية، وإنما يقوم على قول الله عز وجل:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
فهل نطمع في أن تسمع الدولة، وفي أن يسمع الموسرون؟ وهل نطمع في أن تتذكر الدولة ويتذكر الموسرون؟ وهل نطمع في أن نعفى وتعفى الكرامة الإنسانية من طلب الصدقات في الصحف إلى قوم يؤثرون الأموال على الوطن وعلى المواطنين؟
إن من الحق على الدولة أن تعلم البخلاء كيف يكون الكرم والجود بسلطان القانون؛ إذ لم يصدر عن يقظة الضمائر وحياة النفوس ...
الفصل التاسع
ثقل الغنى
كان عبد الرحمن بن عوف - رحمه الله - كثير المال عريض الثراء في جاهليته، وقد أسرع إلى الإسلام حين ظهرت الدعوة إليه فيمن أسرع إليه من السابقين الأولين، لم يبطره الغنى ولم يصرف الثراء قلبه عن الخير، ولم يخف كما خاف الأغنياء المترفون من قريش ما كان الإسلام يدعو إليه من التسوية بين الأغنياء والفقراء، وبين الأقوياء والضعفاء، وبين الأحرار والعبيد، وإنما شرح الله صدره للإسلام، فأقبل عليه مشغوفا به مضحيا في سبيله بما جمع من مال وما ضم من ثروة وما اكتسب من سؤدد، مستعدا لمشاركة أصحابه في التعرض للأذى واحتمال المكروه، ولم يتردد - كما لم يتردد غيره من أصحابه - حين اشتدت المحنة وثقلت الفتنة وعظم البلاء، في أن يفر بدينه إلى حيث يأمن على رأيه وعقيدته وعبادته لربه، تاركا وراءه ماله الكثير وثراءه العريض ومكانه الرفيع، وقوما من أهله ذوي قرابته كان يحبهم أشد الحب ويعطف عليهم أرق العطف ويمنحهم صفو ما كان يفيض به قلبه من الرفق والبر والحنان، فهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعا، ثم هاجر إلى المدينة حين اتخذها النبي
صلى الله عليه وسلم
نامعلوم صفحہ