وكان مما يملأ قلب الصبي رضا وإعجابا أنه كان لا يكاد يدخل الدار مع زميليه حتى ينعطفوا إلى يمين، ويأووا إلى حجرة خاصة لا يسكنها أحد من أهل الدار، ولا يطرقها أحد غير هذين الصبيين، قد خصصت لهما يلعبان فيها، وجمعت لهما فيها أدوات كثيرة مختلفة غريبة للعب، وأسندت إلى جدرانها كراسي ومجالس يستريح عليها الصبيان ومن يلاعبهما من الرفاق، فهما لم يكونا يجلسان على الأرض ولا يلعبان في الفضاء المنبسط أمام الدار، ولا يتعرض لعبهما لضحك الكبار منه أو مشاركة الواغلين من الأطفال فيه، كان لعبا مترفا في حجرة مترفة ليس للصبي بمثله عهد، وكان ثلاثتهم إذا وصلوا إلى الدار لا يكادون يستقرون في حجرتهم تلك حتى تلم ربة الدار وآنسة من الآنستين، فيكون الحديث الرفيق والحنان الرقيق والدعابة العذبة، ثم يخلو الصبية بعد ذلك إلى لعبهم، فينفقون فيه ما شاء الله من وقت يقصر أو يطول.
وكانت ربة الدار سيدة كريمة، فقد تقدمت بها السن شيئا، ولكنها كانت حلوة الشمائل، عذبة الحديث في لهجة عربية غريبة، ضعيفة أشد الضعف، ملتوية أعظم الالتواء، وكان حديثها ذاك الملتوي المتعثر البطيء يسحر نفس الصبي ويملأ قلبه فتونا. فأما الآنستان فقد كانت كبراهما «تفيدة» رائقة الحديث، شائقة الدعابة، متكسرة اللفظ، تتكلم فيخيل إلى السامع أن عهدها بالنوم غير بعيد، وكانت على ذلك ماكرة حديدة اللسان، لاذعة النكتة، بطيئة الحركة، قليلة النشاط، وكانت أختها الصغرى «إقبال» جذوة من نشاط، لا تنقطع لها حركة ولا يستقر لسانها في فمها، وهي على ذلك حلوة المحضر، مشغوفة باللعب، لو أطلقت لها حريتها لما فارقت الصبية ولا زهدت في لعبهم، ولكن الدار كانت منظمة أدق النظام وأشقه، فلم يكن يتاح لهاتين الآنستين إلا قليل من فراغ بين حين وحين. وقد نعم الصبي بهذه الحياة وقتا لا يذكر أطال أو قصر، ولكنه يرى ذات يوم في الدار حركة غير مألوفة، ويخيل إليه أن في الجو شيئا لا يلبث أن يعرف ما هو، فقد خطبت تفيدة، وما هي إلا أسابيع حتى يقبل قوم من القاهرة، وحتى تقام في الدار أعياد، ثم يعود الزائرون من حيث أتوا وقد استصحبوا تفيدة، ففقدت الدار من جمالها وبهجتها شيئا غير قليل.
والحياة مع ذلك ماضية في طريقها في هدوئها المتصل واطرادها الممل، والصبي ناهض بواجبه، يحفظ زميله القرآن، ويشاركه في اللعب، ويخوض معه في فنون الحديث، ولكن محمودا يتحول من الكتاب إلى المدرسة المدنية، فيفقد الكتاب بانصراف العفريت عنه من بهجته شيئا غير قليل. ويخلو الصبي إلى زميله وتلميذه عثمان يعلمه ويلاعبه، ولكن السأم يسعى بينهما، وإذا بالصبي ينصرف عنه قليلا قليلا، ويشغل شيئا فشيئا برفاق آخرين من أهل المدينة، يعرضون عليه فنونا جديدة من اللعب، ويلقون إليه ألوانا طريفة من الحديث، ويقرءون معه كتبا لا عهد لأبناء الكتاب بها، ولا أرب لهم في قراءتها، والصبي مع ذلك يلقى رفيقيه المترفين في داره حينا وفي دارهما حينا آخر، ثم يسمع ذات ليلة أبويه يتحدثان في شيء من الحزن وفي شيء من السخرية أيضا بأن الضابط التركي القديم من ضباط الجيش قد سافر إلى القاهرة، فأقام فيها أياما، ثم عاد ومعه سيدة تركية لم تبلغ الثلاثين بعد، لها حسن رائع، وجمال بارع، وفتنة فاتنة، وتسلط على الضابط الشيخ عظيم، وأن تلك الدار المترفة الأنيقة التي كانت جنة من جنات النعيم، قد أصبحت مستقرا للحزن والبؤس والشقاء، قد أصبحت جحيما تصلى فيه أم البنين نار الحزن ولوعة الغيرة، ويشقى فيها هؤلاء الثلاثة بما يرون من حزن أمهم وبؤسها وبكائها المتواصل، واعتكافها في حجرة لا تبرحها إلا أن تكره على ذلك إكراها، كما يشقون بهذا النعيم العظيم يستمتع به الضابط وزوجته الشابة في طرف من أطراف الدار. كانا يستخفيان بسعادتهما أول الأمر فينعمان من وراء الأبواب المغلقة والأستار المسدلة، ولكن السعادة جمحت بهما حتى تجاوزا القصد، وأكبر الظن أن شقاء الأشقياء، هو الذي أذكى سعادة السعداء. وكأن الزوجين السعيدين قد رأيا في اعتكاف تلك المعتكفة وبكائها المتصل، وفي هذه الوجوه العابسة الكئيبة من حولها، وفي خفوت تلك الأصوات التي كانت تكلأ الدار فرحا ومرحا، وفي سكون تلك الحركات التي كانت تملأ الدار بهجة وسرورا، كأنهما رأيا في هذا كله احتجاجا على ما أتيح لهما من سعادة، وإنكارا لم سيق إليهما من نعيم، فقبلا التحدي، وأظهرا ما كانا يضمران، وأعلنا ما كانا يسران، وظهرت سعادتهما وقحة، مسرفة في القحة، لا تتحفظ ولا تحتشم ولا ترجو لشيء وقارا، فالقبل تختلس في هذه الزاوية أو تلك في غير احتياط أول الأمر، ثم هي لا تختلس ولا يستخفى بها، وإنما يتهاداها الزوجان أمام هذه الكاعب البائسة، وبمنظر من هذين الغلامين الشقيين، وغير بعيد من هذه الأم التعسة المحزونة، ثم تتجاوز القحة حدودها، ويتعمد الزوجان المفتونان إيذاء هذه المرأة الكئيب، فينتهزان الفرص ليظهرا لها سعادتهما بشعة ليس لها حظ من تحفظ أو استحياء.
ويتحدث الناس ذات يوم بأن هذه الأم البائسة عليلة لا تخرج من حجرتها ولا تترك فراشها، ثم يأتي النبأ ذات صباح بأنها قد فارقت الحياة، فأراحت واستراحت وتركت في قلب أبنائها سعيرا أي سعير. وقد استقرت هذه الأم البائسة في قبرها المتواضع من وراء النهر، وجلس صاحب الدار للمعزين يستقبلهم كما تعود الناس أن يفعلوا، وقد مرت الليلة الأولى كما تعودت ليالي العزاء أن تمر؛ أقبل المعزون فسلموا وجلسوا وسمعوا القرآن، وانصرف فوج منهم ليخلفه فوج آخر، ثم ختمت القراءة حين أوشك الليل أن ينتصف.
ثم أقبل اليوم الثاني وأقبل معه القراء يتلون القرآن، وأقبل الناس يعزون ويستمعون ويخوضون في مختلف الأحاديث، وإنهم لفي ذلك بعد أن صليت العصر، وإذا امرأة شابة تخرج من الدار وتتوسط جمع الناس هادئة مطمئنة رزينة الخطو، سافرة لم تلق على وجهها نقابا، وقد اتخذت في إحدى يديها حقيبة صغيرة، فلما توسطت الجمع وجم الناس، وهم صاحب الدار أن ينهض ولكن الوجوم أخذه هو أيضا فأثبته في مكانه، وارتفع صوت تفيدة هادئا رزينا، فقطع المقرئ قراءته واستمع لها الجمع كأن على رءوسهم الطير، وإذا هي تقول: «من ظن منكم أنه أقبل للتعزية والمجاملة فليغير ذات نفسه ودخيلة ضميره، فليس هذا حفل عزاء وإنما هو حفل فرح وابتهاج. إن هذا الرجل الذي تعزونه قد قتل امرأته وابتهج بموتها، لم يرع حرمتها، ولم يرع حياء ابنته الكاعب، ولم يرع صبا غلاميه الصغيرين، وإنما ازدرى هذا كله في سبيل سعادته بزوجه الجديدة؛ فكان يداعبها ويلاعبها، وينال من مداعبتها وملاعبتها في الجهر ما لا يناله الرجل الكريم ذو المروءة إلا سرا، وكنت في القاهرة لا أعلم من ذلك شيئا، فلما أقبلت لدفن أمي سمعت، فأنكرت أذناي ولم يصدق قلبي، ولكن أشهد وأشهدكم أني رأيت ورأى إخوتي، وفيهم كاعب وصبيان، هذا الرجل يداعب امرأته الشابة ويلاعبها راضيا مغتبطا مسرورا ولم يمض على دفن أمنا إلا يوم وبعض اليوم، فإن رأيتم بعد ذلك أن هذا الرجل محتاج إلى تعزيتكم فأقيموا، وإلا فانصرفوا راشدين.»
ثم تحولت عن الجمع فلم تدخل الدار ، وإنما أخذت طريقها إلى المحطة لتركب القطار الذي يحملها إلى القاهرة.
ولست أدري ماذا كان من أمر الجمع المحتشدين بعد هذه الفضيحة، ولكني أعلم أن استقبال المعزين لم يبلغ أيامه الثلاثة، وأن هذا الضابط التركي القديم من ضباط الجيش لم يستطع أن يقيم في المدينة إلا ريثما يدبر أمر سفره، وأنه ارتحل ذات يوم بما كان يحيط به من نعيم وجحيم، فانقطعت بينه وبين المدينة الصلات والأسباب، لم يسمع أهل المدينة عنه شيئا ولم يسمع هو عنهم شيئا.
3
ومضت الحياة في طريقها هادئة مطمئنة، تعبث بالناس ويعبث الناس بها، ويعفي ما يقبل من أحداثها على آثار ما أدبر من الخطوب. وقد هاجرت أسرة الصبي من المدينة إلى أعلى الأرض، وهاجرت أسر أخرى إلى أدنى الأرض، وشغلت كل أسرة بنفسها عن غيرها، وشغل كل واحد من أبناء الأسرة الواحدة بشأنه الخاص عن شئون أهله وذويه، ومضت أعوام تبعتها أعوام، وبلغ الصبي طور الشباب بعد أن خاض إليه غمرات الخطوب، ولكنه يحس ذات مساء بين درسين من دروس الجامعة القديمة يدا تمس كتفه، وصوتا يمس أذنه، وتقع في نفسه هذه الجملة: «ألا تذكرني! لقد كنت معك في الكتاب. أنسيت العفريت؟!»
بلى، لم أنس العفريت وهيهات أن أنساه، وقد استأثر من قلبي ذاك الناشئ بمكان ممتاز لم يبلغه أحد من إخوته كما لم يبلغه أحد من رفاق الصبا، أولئك الذين عرفتهم في الكتاب أو عرفتهم خارج الكتاب، أولئك الذين اتصلت بينهم وبيني أسباب المودة أيام الصبا، فكانت عشريتي لهم طويلة أو قصيرة. بلى لم أنس العفريت، وقد حدثت نفسي غير مرة حين هبطت إلى القاهرة لأطلب العلم في الأزهر الشريف، بأن من الممكن أن ألقاه أو ألقى أخاه فأجدد من أسباب المودة ما رث، وأصل منها ما انقطع، وأنقل من صباي في المدينة إلى القاهرة طرفا أستبقيه وأنميه، وأجد في استبقائه وتنميته رضا القلب ومتعة النفس وسعادة الضمير، ولكني اختلفت إلى الأزهر أعواما وأعواما، وعرفت فيه كثيرا من الصبية والشباب والشيوخ، دون أن ألقى العفريت أو أخاه أو أسمع عنهما قليلا أو كثيرا، ولم أبح لنفسي أن أسأل عنهما أحدهما أو كليهما، ولو قد سألت لكان من الممكن أن أصل إلى هذا الأزهري الذي كنت أحفظه القرآن أيام الصبا، وأن أصل من طريقه إلى أخيه العفريت. لم أبح لنفسي أن أسأل، وما أقل ما كنت أبيح لنفسي السؤال! وما أكثر ما صرفني الحياء عن السؤال والاستقصاء!
نامعلوم صفحہ