قال سيد خديجة: وصنع الله لأبويها؛ فقد كتب على محبوبة أن تطوف ما عاشت بالدور تصنع لأهلها الخبز، وكتب على شعبان ألا ينظف يديه ولا ثيابه من الطين.
الفصل الرابع
المعتزلة
لا أريد تلك الفرقة الإسلامية المعروفة من فرق المتكلمين، وإنما أريد أسرة مصرية بائسة كنت أنسيت أمرها، حتى كان هذا الوباء الذي ألم بمصر، فذكرتها ذكرا متصلا ملحا، وحاولت أن أخلص من التفكير فيها فلم أستطع، فأردت أن أتسلى عن ذكراها بالتحدث عنها، لعل هذا التحدث أن يخرجها من ضميري الخاص إلى الضمير العام، فيكون في ذلك تخفيف للعبء، وتفريج للكرب، وشفاء لبعض ما في النفس. والهموم الثقال تخف إذا شاركت في حملها ضمائر كثيرة، ولم يقصر ثقلها على ضمير واحد مهما يكن أيدا قويا، فكيف إذا لم يكن له حظ من قوة أو أيد!
وأردت أن أهدي حديث هذه الأسرة البائسة إلى المترفين المنعمين في الأرض، لا لأبغض إليهم الترف بل لأزينه في قلوبهم، ولا لأصرفهم عن النعيم بل لأرغبهم فيه ترغيبا وأدفعهم إليه دفعا، فقد تحدث الحكماء منذ الزمن الأول بأن الرجل الحازم خليق ألا ينظر إلى الذين يتفوقون عليه، فتملأ قلبه الحسرة ويثقل نفسه الهم، وأن ينظر إلى من دونه من الناس فيعرف ما أتيح له من حسن الحظ، ويحمد رفق الله به، ورعاية الله له، وإسباغ نعمته عليه، ويستمسك من أجل ذلك بما قسم له من الخير، ويستمتع من أجل ذلك بما قدر له من النعيم. وأنا أبعد الناس عن التفكير في أن أزهد المترفين في ترفهم وأرغب المنعمين عن نعيمهم؛ لأني أعلم من جهة أني لن أبلغ من ذلك شيئا إن أردته مهما أنفق من الجهد، ومهما أبرع في تدبيج القول وتنميق الحديث، ولأني أعلم من جهة أخرى أن ترف المترفين إنما يأتيهم بحكم القضاء المكتوب والقدر المحتوم، وليس من سبيل إلى تغيير القضاء، أو تبديل القدر، أو إلغاء سنة الله في الناس؛ فالله قد خلق الناس على ما نراهم من هذه الفرقة فيما بينهم، يترف بعضهم حتى يطغيه الترف، وينعم حتى يبطره النعيم، ويحرم بعضهم حتى يضيق به الحرمان، ويشقى حتى يمجه الشقاء ... ولأني أكره بعد هذا وذاك أن أكون كالثعلب الذي حاول أن يصيب العنب، فلما لم يتح له ذلك عاب العنب وزعم أنه فج بغيض!
وقد خطر لي أن أتخذ لهذا الحديث عنوانا آخر، هو «أم تمام» لا أريد به زوج شاعرنا العظيم، وإنما أريد به زعيمة هذه الأسرة المصرية البائسة، فقد كانت تكنى بأكبر أبنائها. وخطر لي أن أهدي حديث هذه الأم وبنيها الثلاثة إلى البائسين المعذبين الذين مسهم الضر قبل الوباء، وألح عليهم بعد الوباء، حين تخطف الموت أبناءهم وآباءهم وأخواتهم وعائليهم، وتركهم نهبا للشقاء لا يدرون كيف يتقونه، ولا كيف يحتملونه، ولا كيف يخلصون منه، لا لأبغض إليهم حياتهم البائسة وعيشهم النكد، فما ينبغي أن تبغض إلى البائس بؤسه، ولا أن تكره إليه شقاءه، وإنما ينبغي أن تحبب إليه البؤس ليتحمله وليزيد منه إن استطاع، وأن تزين في قلبه الشقاء ليصبر عليه ويمعن فيه إن وجد إلى الإمعان فيه سبيلا، فالبؤس قضاء محتوم على البائسين، كما أن النعيم قضاء محتوم على المنعمين، والشقاء قدر مقدور على الأشقياء، كما أن السعادة قدر مقدور على السعداء. والرجل الحازم العازم الحكيم خليق أن يرضى بالقضاء المكتوب، والقدر المحتوم، يحتمل الخير غير زاهد فيه، ويحتمل الشر غير ساخط عليه. ولأمر ما وصف الشرقيون بأنهم أصحاب إذعان للقضاء، واستسلام للقدر، ورضا بالمكروه، فلنصدق على أقل تقدير قول الغرب عنا وظنه بنا ورأيه فينا؛ ليصطنع المترفون الشجاعة ليحتملوا الترف، وليصطنع البائسون الشجاعة ليحتملوا البؤس، وليصبر أصحاب الثراء على محنتهم بالثراء، وأصحاب الحرمان على فتنتهم بالحرمان، حتى ينتهي أولئك وهؤلاء إلى الموطن الذي لا يكون فيه ثراء ولا حرمان، والذي لا يكون فيه فقر ولا غنى، والذي لا يكون فيه يسر ولا عسر، والذي تتحقق فيه المساواة بين الناس جميعا حين يصيرون إلى تراب كما خلقوا من تراب.
ومهما يكن من شيء فقد ترددت بين هذين العنوانين: المعتزلة، وأم تمام، كما ترددت في إهداء هذا الحديث بين المترفين والبائسين، ثم آثرت آخر الأمر أن أخير القارئ بين العنوانين، وأن أهدي الحديث إلى الفريقين؛ ففي حديث هذه الأسرة ما يرضي المنعمين والمعذبين جميعا ، وأي مطمع للكاتب أجل شأنا وأعظم خطرا من أن يرضي قراءه على ما يكون بينهم من اختلاف! وفي حديث هذه الأسرة البائسة ما يسخط المنعمين والمعذبين جميعا، وما قيمة الكاتب إذا لم يسخط قراءه على ما يكون بينهم من الاختلاف! وأنا أريد دائما أن أكون كاتبا ذا خطر، فأرضي قرائي وأسخطهم، وأسر قرائي وأسوءهم، وأعجب قرائي حتى يكلفوا بي أشد الكلف، وأغيظهم حتى يمقتوني أعظم المقت، وأنا زعيم للمترفين بأن يجدوا في حديث هذه الأسرة ما يحبب إليهم ترفهم، فيعضون عليه بالنواجذ كما يقال، ويرضون عني كل الرضا؛ وبأن أصور لهم هذا الترف منكرا بشعا، ومذمما بغيضا، فيسخطون علي أشد السخط. وأنا زعيم للمعذبين بأن يجدوا في حديث هذه الأسرة البائسة ما يعلمهم الصبر على المكروه فيرضون عني، وما يلقى في قلوبهم أن حياتهم لا تطاق، وأن من حقهم أن يخرجوا منها إلى حياة ألين جانبا وأرق ملمسا، وأن ليس لهم سبيل إلى هذا الخروج، فيضيقون بي أشد الضيق، وأبلغ بذلك كل ما أريد، وهو أن أرضي القراء وأغيظهم مهما يكن بينهم من التفاوت والاختلاف، فأنا لا أريد إلا هذا، ولا أفكر إلا فيه، وما الذي يعنيني من أن يترف المترفون حتى يقتلهم الترف، ومن أن يشقى الأشقياء حتى يهلكهم الشقاء! لا يعنيني من ذلك شيء؛ لأني رجل من أهل العصر الذي أعيش فيه، وأخص ما يمتاز به هذا العصر الذي أعيش فيه الأثرة وحب النفس، فأنا رجل أثر لا أحب إلا نفسي، ولا أفكر إلا فيها، ولا أعنى إلا بها، وأنا رجل كاتب لا يعنيني إلا أن أملك على القراء أمرهم بما أثير في قلوبهم من رضا وسخط، وبما أشيع في ضمائرهم من حب وبغض، ولست أزدري شيئا كما أزدري إلقاء الدروس في الأخلاق، ولست أنفر من شيء كما أنفر من ترغيب الأغنياء في العطف على الفقراء، ومن تشجيع الأشقياء على احتمال الشقاء. ما أنا وهذا كله؟ إن الناس من حولي لا يذوقون للتضامن طعما، ولا يعرفون للتعاطف قدرا ، لا يحفل بعضهم ببعض، ولا يفكر بعضهم في بعض، ولا يأسى بعضهم لآلام بعض، فما لي أحمل نفسي من الأعباء ما لا يريد الناس من حولي أن يحتملوا؟ وما لي أدفع نفسي إلى هذا الشذوذ الذي لا خير فيه، ولا خير لأحد فيه؟ وما لي لا أسير سيرة الجيل، ولا أعيش عيشة المعاصرين، ولا أنتفع بقول أبي العلاء:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى قيل إني جاهل
الأثرة - يا سيدي - هي الأساس المتين الذي يقوم عليه نظامنا الاجتماعي البديع، الذي نفتديه بأنفسنا، ونحميه بما نملك وما لا نملك من جهد، فمن أراد الدفاع عن هذا النظام وحياطته وصيانته من أن يعبث به العابثون، أو أن تمسه الخطوب بما لا يحب وبما لا نحب، فليكن أثرا إلى أبعد غايات الأثرة، محبا لنفسه إلى أقصى آماد حب النفس، لا يحفل بالناس إلا بمقدار ما يهيئون له من الخير، وما يحققونه له من المنفعة، وما يبلغونه من الآراب، فإذا بعد الأمل بينه وبينهم، أو خفيت عليه أسرار الصلات التي تجعله محتاجا إليهم وتجعلهم محتاجين إليه، فلا عليه من أن ينكرهم إنكارا ويزدريهم ازدراء، ويمضي في طريقه مستمتعا بطيبات الحياة، غير ملق بالا إلى ما يكتنفهم من الهول، وما يصب عليهم من الهم، وما يسلط عليهم من الكوارث والنكبات.
نامعلوم صفحہ