تولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب . ثم يقول لهم: ويحكم! ما تنكرون أن يهب الله الجمال للقبح وهو يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل! إنكم لا تنكرون أن ينشق الليل المظلم عن النهار المبصر، ولا أن ينهزم ضوء النهار أمام ظلمة الليل، فلم تنكرون أن يهب الله خديجة هذه لأمها محبوبة ولأبيها شعبان؟
وكانت محبوبة هذه امرأة نصفا، تطوف بأهل القرية تصنع لهم الخبز، وتصنع لهم من الخبز نوعا خاصا هو هذا الذي يتخذ من الذرة رقيقا مستديرا واسعا، لا تحسن أن تصنع غيره من خبز القمح؛ فكنت تراها في آخر الليل ملمة بهذه الدار أو تلك تهيئ العجين، وكنت تراها في أول النهار جالسة أمام الفرن، تدير بيدها السريعة الصناع قطع العجين، فتسويها في سرعة مدهشة على الشكل الذي ينبغي أن يسوى عليه، ثم تقذفها إلى النهار قذفا خفيفا رفيقا، ثم تستردها من النار وقد منحتها النضج الذي يجعلها سائغة في الأفواه والحلوق والبطون. وكنت تراها حين يرتفع الضحى ويوشك النهار أن ينتصف عائدة إلى بيتها ذاك الوضيع الحقير، وقد حملت أجرها طائفة من هذا الخبز تضيفها إلى طائفة، وتعيش عليها مع زوجها وبنيها وبناتها، ويقنعون بهذا الخبز في كثير من الأيام، وقد يضيفون إليه هذا الإدام أو ذاك، إن ساق الله إلى شعبان رزقا، أو تفضلت بعض الأسر الموسرة على هذه الأسرة المعسرة بشيء من طعام، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فالخبز وحده، أو الخبز مع شيء مما تنبت الأرض، وتصل إليه الأيدي القصار من البصل والفجل، وهذه الأعشاب التي لا يتحرج البائسون من أن يستعينوا بها على الحياة.
وكان شعبان رجلا مقترا عليه في الرزق، قد ورث عن أبيه مهنة لا تغني من جوع؛ كان بناء متواضعا، لا يقيم الدور التي تتخذ من الحجر والآجر واللبن، وإنما يقيم البيوت والحجرات التي تتخذ من الطين الغليظ: تراب يجمع ويصب عليه الماء، ويخلط به بعض الهشيم، ثم تسوى منه قطع متلائمة أو غير متلائمة يضاف بعضها إلى بعض لتمتد في الفضاء، وترتفع في الجو، وتدور أو تستطيل حول رقعة ضيقة من الأرض، حتى إذا ارتفعت فبلغت القامة أو أقل من القامة، مد عليها شيء من سعف النخل، فاستقام منها بيت أو حجرة يأوي إليها البائسون من أهل القرى، فتقيهم أيسر ما ينبغي أن يتقوا من عاديات الطبيعة.
وأهل القرى لا يبنون هذه البيوت في كل يوم ولا في كل أسبوع، وإنما يبنونها حين يتاح لهم البناء، وحين تأذن لهم الظروف أن يتخذوا البيوت والحجرات، أو أن يقيموا الغرفة فوق هذه الحجرة أو تلك، أو فوق هذا البيت أو ذاك.
فكان يعمل اليوم أو اليومين أو الأيام القليلة ليظل بعد ذلك متعطلا أياما أو أسابيع. وكان يوسع على أهله بهذه القروش التي يغلها عليه عمله من حين إلى حين، يكسوهم إن استطاع لهم كسوة، ويمتعهم بقليل من الطيبات إن طالت يده إلى قليل من الطيبات، فلم يكن بد من أن يعمل الصبية حين شبوا ليقوتوا أنفسهم حيث يعملون، وليرجعوا على أهلهم بفضل ما يساق إليهم من الرزق.
وكانت خديجة كاعبا، تعمل في دار من دور أهل اليسار، تقبل مع الصبح المسفر فتنفق ما تملك من نشاط في خدمة أهل الدار، وتعود مع الليل المظلم إلى بيت أبويها فتنفق الليل فيه. وكانت راضية بهذه الحياة باسمة لها على شيء من حزن كان يستقر في قلبها ويتغلغل في ضميرها، ولا يبين عنه لسانها حين ينطق، ولا وجهها حين يأخذ ما يأخذ من الأشكال. كانت تفكر من غير شك في بؤس أبويها وإخوتها الصغار، ولكنها لم تكن تعبر عن هذه الخواطر الكئيبة بلفظ أو لحظ أو حركة، إنما كانت تخفي حزنها كما يخفي البخيل كنزه، وربما نمت بهذا الحزن نغمة ضئيلة مرة، تغمر هذا الصوت الممتلئ العذب، فتترك في نفوس السامعين أثرا غريبا، وربما نمت بهذا الحزن سحابة خفيفة رقيقة تمر بهذا الوجه المشرق الجميل، مرا سريعا لا يتيح للذين يرونها أن يفكروا فيها فضلا عن أن يسألوا عنها. كانت حياتها في تلك الدار بهجة متصلة ورضا مقيما، تقطعها بين حين وحين وفي لحظات قصار جدا هذه النميمة التي تهم أن تنبئ بالحزن، ولكنها تذوب قبل أن تنبئ بما همت أن تنبه إليه.
وكانت ربة الدار محبة لخديجة رفيقة بها، عطوفا على أهلها، تبرهم كلما سنحت لها الفرصة، وتحسن إليهم كلما أتيح لها الإحسان، وكانت كثيرا ما تدعو محبوبة إلى الدار وتكلفها بعض العمل اليسير الهين أو الغليظ العنيف، تأجرها على ذلك لا بالقروش التي تضعها في يدها، ولكن بالثوب الذي تهديه إليها من ثيابها هي الخليعة، أو من ثياب أبنائها وبناتها، أو من ثياب زوجها، وبالطعام تكلفها حمله إلى زوجها وبنيها، وبالطرف تطرفها بها في أيام الأعياد وفي أيام السعة والرخاء، حين تلم أيام السعة والرخاء، ولكنها لم تكن تقف عند هذا النوع من البر، وإنما كانت تحرص على أن يكون رفقها بالأسرة متجددا، وعطفها عليها متصلا.
وفي ذات يوم سمعت ربة الدار في فناء دارها من نحو حظيرة الماشية صياح امرأة تصيح، وبكاء فتاة تبكي، وصوت عصا تلهب جسما بضرب متصل، وصراخ صبية يجأرون بالشكاة، فتخرج من حجرتها مسرعة، ولا يروعها إلا محبوبة قد ألقت ابنتها على الأرض وأخذت بشعرها الطويل الجميل تجذبه بإحدى يديها جذبا عنيفا، ويدها الأخرى ترتفع وتنخفض بغصن يابس من هذه الغصون التي تتخذ لإدارة الخبز في النار واستخراجه منها، وغير بعيد من هذ المنظر الأليم طبقان من خزف قد نحيا ناحية، ومحبوبة تنظر إليهما وتسأل عنهما الفتاة، في حين تمعن يدها في جذب الشعر، وتمعن الأخرى في رفع العصا وخفضها.
قالت ربة الدار منكرة: ماذا أرى وماذا أسمع؟! ثم أسرعت إلى محبوبة فردتها عن الفتاة وانتزعت من يدها العصا، وإلى الفتاة فأنهضتها وفرقت بينها وبين أمها، ولكن محبوبة أمعنت في بكاء متصل فيه شهيق وزفير، ثم لم تلبث أن أخذتها نوبة عصبية، من هذه النوبات التي تأخذ أمثالها من النساء حين يمعن في الشهيق والزفير، حتى اضطرت ربة الدار إلى أن تنضحها بشيء من ماء لتردها إلى الاتزان والسكون.
فلما ثابت محبوبة إلى نفسها، واستنبأتها ربة الدار عن خطبها وخطب الفتاة، سمعت منها كلاما لم يكد يبلغ نفسها حتى انهلت دموعها له غزارا: سمعت منها أنها وجدت في زاوية من زوايا بيتها هذين الطبقين، فلم تشك في أن ابنتها تخون سادتها وتسرق ما في دارهم من متاع. لم يبق إذن إلا أن تسرق، فتخون من يحسنون إليها وإلى أهلها، ويتيحون لهم حياة فيها شيء من نعمة ورضا! لم يبق إذن إلا أن تسرق فتدخل الشر على أهلها وتزيد عيشهم ضيقا إلى ضيق، وحياتهم شقاء إلى شقاء، من أجل هذه السرقة التي استكشفتها قتر عليهم في الرزق، فردت هي عن بعض الدور التي كانت تصنع فيها الخبز، ولم يدع زوجها إلى بناء البيوت، ولا إلى تسوية الطوب منذ وقت طويل. لقد كنا نسأل عن مصدر هذا الشقاء، فقد عرفناه الآن، إن لنا ابنة سارقة تخون سادتها، وتختلس ما عندهم من متاع!
نامعلوم صفحہ