مصر: نسيج الناس والمكان والزمان

محمد رياض d. 1450 AH
183

مصر: نسيج الناس والمكان والزمان

مصر: نسيج الناس والمكان والزمان

اصناف

اللاعبون في ميدان العولمة هم المؤسسات والهيئات العالمية التي تشتمل على المؤسسات المالية والبنكية، والشركات الكبرى متعددة الجنسية، والاتحادات الإجرامية مثل المافيا، وصناع السياحة، والجمعيات الأهلية، وأخيرا الطلب على العمالة الماهرة. وكل هؤلاء يعبرون الحدود القومية والإقليمية وحدود الأعمال التقليدية بحرية تامة. فالحدود القومية اختفت بصورة كبيرة أمام المنظمات المالية المتكاملة مع الأنشطة الاقتصادية والشركات الكبرى، واختفت أمام شبكات الإنترنت للمعلومات الصناعية وتجارة الاستثمارات، واختفت أمام الأفراد ذوي الكفاءات في شتى عالم الأعمال والعلوم التطبيقية من بلاد العالم المختلفة، حيث يشتد عليهم الطلب في أوروبا وأمريكا وتفتح أمامهم الحدود، بينما تفقد أوطانهم الأصلية هذه الثروة الفكرية والعلمية، سواء كانت هذه الأوطان من بلاد شرق أوروبا أو آسيا أو العالم العربي أو أفريقيا وأمريكا اللاتينية. أما بقية الناس الذين لا يتصفون بهذه المهارات فإنهم لا يتمتعون بمزايا العولمة، ولا تمتد إليهم حرية الحركة والعمل، وقد ترتب على ذلك أن كثيرا من الأسر قد انقسمت عبر الحدود نتيجة قوانين الهجرة التي تحبذ المهرة وتمنع غيرهم.

وعلى هذا فطبقة «النخبة والصفوة» العالمية تتمتع بحدود مفتوحة ومنافع وخدمات وافرة، بينما مليارات الناس يجدون الحدود مغلغة دونهم. وفي رأي كثير من المفكرين أن العالم كان أكثر عولمة في القرن الماضي، حينما كانت الهجرة مفتوحة أمام الناس من المهرة وغير المهرة. فلكل وظيفة. أما الآن فالوظائف قاصرة على احتياجات معينة، مما يقع تحت مسمى «استنزاف العقول».

ظاهرة العولمة في الحضارة والتاريخ

كثرت الكتابات عن العولمة الراهنة فيما بين التأييد والمعارضة حسب المنطلقات الفكرية في المجتمعات المتقدمة، وفي المجتمعات التقليدية التي تمر بأطوار من التحولات والتغيرات، إلى أشكال أخرى من التكنولوجيات والمفاهيم المعاصرة من أجل اللحاق بمسرى التاريخ وحركته السياسية والاقتصادية والمجتمعية.

وللحقيقة فإن العولمة المحدثة ليست إلا إحدى علامات طريق في تنظيمات حياة الأمم والشعوب على مر التاريخ. لكن الذي يجعل منها هموما كبرى بالنسبة لكثير من المجتمعات أننا نعيش عصر المعلوماتية، وكل ما حدث في أي مكان من الكرة الأرضية له صدى أو دوي حسب القرب أو البعد المكاني والإيديولوجي، سواء كان هذا الحدث أمر طبيعي كالبراكين والأعاصير والجفاف، أو حدث مجتمعي كالأمراض الفتاكة الجديدة والمجاعات والبطالة وحقوق الإنسان، أو حدث اقتصادي كارتفاع سعر الطاقة، أو كانهيار بورصة مضاربات مالية مفتعلة أو حقيقية، مما يؤدي إلى آثار وخيمة على النشاط الاقتصادي في إقليم معين أو على مستوى عالمي، أو حدث سياسي كالعنصرية والحروب المدمرة الأهلية أو الدولية. وفي كل هذه الحالات وغيرها يصحب الحدث أنواع من الإعلام غالبها موجه وغير موضوعي، من أجل تعبئة الرأي العام في دولة أو إقليم أو العالم، بحيث يقع الناس ضحية غسيل مخ قد يلبس الحدث الضار ثوبا غير حقيقته. أو قد يكون الغرض الإعلامي تخويف الآخرين، على منوال المثل العربي «إياك أعني واسمعي يا جارة!»

والكثير من تحليلات ظاهرة العولمة الحالية تذهب إلى واحد من النتائج الآتية: (1)

الغرض النهائي هو الهيمنة السياسية للقطب الواحد الراهن أو أقطاب أخرى تساندها وتشاركها في الغنيمة، كالاتحاد الأوروبي أو دول الثمانية الصناعية أو نمو الصين إلى جانب هؤلاء جميعا. (2)

الهدف الأساسي ليس الهيمنة السياسية التي تكلف كثيرا في ردع أية دولة مهما كان حجمها، كما نلاحظه في تكلفة وترتيبات الحرب ضد أفغانستان والعراق. ولكن الهدف هو سيطرة اقتصادية عالمية بواسطة المؤسسات متعدية الجنسية. والردع في هذه الحالة لا يكلف سوى أنواع من العقاب كالضغط أو الحصار الاقتصادي للدولة «المتمردة». وبعبارة أخرى أن يكون هناك نوع من «الحكومة» الاقتصادية العالمية تشرف وتراقب أداء الدول المختلفة، ومدى تقبلها أو معارضتها للشروط التجارية العالمية السائدة. وحين تبدو بوادر «تمرد» في دولة ما، يلصق بها قائمة من الاتهامات أبسطها عدم تطبيق حقوق الإنسان، أو معاملة الأقليات العرقية والدينية والفكرية على غير معاملة غالبية السكان، ومؤخرا الاتهام بالارهاب. وحين تعاقب دولة ما تحجب الأسباب الرئيسية الاقتصادية، وتعلن بدلها أسباب أكثر قبولا وشعبية لدى الرأي العام في الدول المهيمنة، كاضطهاد الأقليات، أو كبت التنظيمات المعارضة، والتضييق على حرية الرأي.

والغالب أن كلا من التحليلين صحيح، فالسياسة والاقتصاد تشكل عناصر متفاعلة مندمجة بحيث يصعب معها تطبيق مبدأ السببية إلى أبعد الحدود.

وفي الماضي البعيد والقريب تجارب كثيرة للعولمة. لكن كل منها كان يحتوي ويضم مساحة من الأرض على قدر تكنولوجية السلاح السائد، وسرعة الحركة وانتقال الأخبار ونوع الفكر، والإيديولوجية التي تتمنطق بها مساعي عولمة ما تريد فرضها على الشعوب الأخرى. قد نشأت دول الحضارات الأولى في مصر وسومر والصين والسند على الزراعة في الوديان النهرية في شبه عزلة، دون أن تكون لديها مساع لمد نطاق هذه الحضارات وفرضها على المناطق المجاورة، ولكن هذه الحضارات كانت من الغنى بحيث تعرضت لهجوم الشعوب المتحركة الطامعة في ضمان الغذاء الدائم والوفرة التي تقدمها المنتجات الزراعية لهذه الحضارات. ربما كانت حركات الشعوب في الألفية الثالثة والثانية ق.م من وسط آسيا ناجمة عن مجموعة من التغيرات المناخية التي زادت فقر أواسط آسيا، ودفعت الناس إلى السند والهند والصين وواحات إيران وسهول الرافدين والنيل وسهول الدانوب وأوروبا. وقد أدت التحركات العنيفة لهذه الشعوب إلى أن تترك دول الحضارات القديمة عزلتها وتكون إمبراطوريات منظمة عسكريا لصد الطامعين. وهنا تبرز أسماء ملوك محاربين مثل ملوك الدولة الحديثة في مصر الفرعونية، وبالأخص تحتمس الثالث ورمسيس الثاني والثالث، ودولة الشانج في الصين في الألفية الثانية ق.م، وكذلك ظهور دولتي أشور، ثم بابل الثانية في الألفية الأولى ق.م، بعد سقوط دولتي الحيثيين في الأناضول، والميتاني في أعالي الرافدين. هذه الدول المتعددة على مر الزمن لم تكن حضاريا ودينيا متعصبة، فالكثير من العلاقات التبادلية التجارية والثقافية كانت تربطها ببعض، ومن خلالها انتقلت تكنولوجيات متعددة على رأسها استخدام الحديد بدلا من البرونز، واستخدام عربة الخيول الحربية وسلاح الفرسان إلى جانب قوة المشاة التقليدية، وبناء الحصون وآلات تدميرها ... إلخ. وبرغم أن هذه الاستحداثات سلمية أغنت المركب الحضاري للعالم آنذاك.

نامعلوم صفحہ