مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
اصناف
وثمة حقيقة يجب أن ندخلها في الحساب العلمي. فبعيدا عن العواطف والمشاعر القومية يجب ألا نتكلم عن المياه العربية فقط، إلا إذا اقتصر الأمر على المياه الجوفية من الأحواض الكبرى كحوض الحجر الرملي في مصر وشمال السودان، أو الطبقات الحاملة للمياه في الجزيرة العربية، أو مجموعة من الأنهار الصغيرة التي تنبع وتنصرف داخل البلاد العربية، كأنهار الليطاني والأولى وإبراهيم والكبير ... إلخ، في لبنان، أو غالبية روافد الدجلة داخل العراق. أما الأنهار الكبرى فهي جزئيا عربية، وخاصة في مساراتها الوسطى والدنيا، بينما أعاليها ومنابعها تجري في بلاد غير عربية في الشرق الأوسط بصفة عامة. ومعظم الخطاب المعاصر والمستقبلي حول مشكلة المياه ينصب على مياه هذه الأنهار الدولية، لأهميتها البالغة لعدد كبير جدا من سكان البلاد العربية في الشرق الأوسط. كما أن نهر الأردن، برغم صغره، يندرج تحت هذه الفئة من المشكلات المائية السياسية.
ومن هنا فإن هناك ضرورة أن تشكل وزارات الخارجية العرب إدارات قوية للمياه بالاشتراك مع وزارات المياه وتلك مختصة بالمياه كالزراعة والري والبيئة. مهمة هذه الإدارات إعداد مخططات للتفاوض مع دول المنابع للأنهار الدولية.
فعلى مصر والسودان أن تأخذا المبادأة بالتفاوض مع دول المنابع الاستوائية ومع إثيوبيا وأوغندا بوجه خاص للتوصل إلى اتفاقية شاملة حول مياه النيل. فهناك مقترحات مصرية من أجل تحويل بحيرة ألبرت إلى خزان كبير بحكم أنها المجمع الأساسي للمياه الاستوائية. ويرفد هذا المقترح مشروع قناة جونجلي المتفق عليه بين مصر والسودان، لإنقاذ جانب من المياه الاستوائية من الضياع بالبخر والتبعثر والنتح في منطقة السدود في جنوب السودان.
هذا إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار حاجات الدول الاستوائية، وبخاصة أوغندا، من مياه النهر من أجل التنمية البشرية والاقتصادية وتأمينها ضد موجات الجفاف التي تصيب أفريقيا في بعض أحيان. لكن لأوغندا أفضلية أخرى. فهي لا تميل إلى مشروع بحيرة ألبرت؛ لأنها مناصفة مع جمهورية الكنغو بينما هي تحتاج مشروعا ضمن سيادتها الكاملة، كما أن ألبرت تقع في شمال غرب أوغندا بعيدا عن المناطق التي تزمع تنميتها في وسط البلاد. ومن ثم فهي تميل إلى تنفيذ مشروعات على أواسط نيل فكتوريا، بالإضافة إلى مشروع رفع منسوب التخزين في بحيرة فكتوريا من أجل الحصول على الطاقة المائية وري الأراضي في المنطقة الوسطى التي هي مركز الثقل السكاني والعمراني الأوغندي. ولكن رفع منسوب مياه فكتوريا سيترتب عليه إغراق مساحات كبيرة من الجزر والشواطئ في تنزانيا وكينيا، فهل توافق الدولتان على ذلك؟ بما فيه من أعباء تكلفة نقل قرى ومدن ومواني على ساحل بحيرة فكتوريا في الدول الثلاث.
أما مشروعات السدود في إثيوبيا فتبدو أخطر تأثيرا على مياه مصر والسودان، حيث إن الروافد الإثيوبية هي التي تأتي بمياه الفيضان السنوي. وتخطط إثيوبيا لحجز مياه من النيل الأزرق وروافده لري نحو مليوني فدان في وسط شمال البلاد - وهي المنطقة التي تهددها ذبذبات المطر سنويا، وتعاني من الجفاف إذا ما تعاقبت عدة سنوات قليلة المطر. كما تخطط في جنوب غرب البلاد إلى تخزين مياه نهر البارو، رافد السوباط الأساسي لري ما يقرب من أربعة ملايين فدان. وفي مجال الخطر بالنسبة لمصر والسودان تأتي مشروعات النيل الأزرق في المقام الأول؛ لأنه هو المسئول الأول عن حالة فيضان النيل بالإضافة إلى مياه نهر العطبرة، بينما يقل تأثير السوباط على منسوب الفيضان في مصر وشمال السودان أولا: لأن جانبا من مياهه يفقد في مستنقعات مشار داخل السودان، وثانيا: أن التصريف المتبقي من مياه السوباط يتجه إلى النيل الأبيض الذي تحتجزه مياه النيل الأزرق جنوب الخرطوم. ولكن أي مشروعات تنمية زراعية على النيل الأبيض في السودان قد تتأثر بمشرعات إثيوبيا على السوباط الأعلى.
والخلاصة أن الموضوع معقد في توازناته داخل إثيوبيا. وقد يبدو أن لمنطقة السوباط أولوية تنمية لاعتبارات طبوغرافية ومناخية، بينما مشروعات النيل الأزرق أصعب تضاريسيا ولكنها تقع داخل الكتلة السكنية والسكانية الرئيسية في إثيوبيا. وعلى العموم فإن احتياجات النبات من الماء في هذه المناطق أقل مما عليه الحال في مصر والسودان، لاعتبارات مناخية على رأسها انخفاض معدلات الحرارة والتبخر ووفرة المطر في الهضبة الإثيوبية، وهو ما يدعو إلى بعض الطمأنينة في مصر والسودان، وإن كان لا يغني عن ضرورة التفاوض من أجل تخصيص الأنصبة المائية بما لا يضر المستفيد الحالي ولا يمنع إثيوبيا من تحقيق برامج التنمية.
أما نهر الأردن فهو على صغر حوضه ومائيته إلا أنه يمثل إشكالية شديدة التعقيد بين سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وإسرائيل، وحلها ينتظر حل المشكلة السياسية بين إسرائيل والعرب في الشرق الأوسط. ذلك لأنه يمثل النهر الوحيد جاري المياه في هذه المنطقة واحتياجات كل دولة من الدول سالفة الذكر هي احتياجات حيوية. ومن هنا فإن التسوية السياسية سوف تتضمن مساومات ومناورات كثيرة حول مياه الأردن، كأحد البنود السياسية شديدة الأهمية للحياة في هذه المنطقة من الشرق الأوسط والتي تتصدر القلقلة وعدم الاستقرار السياسي والتفاعلات الإيديولوجية بين التطرف والحلول الوسط التي تستقدم من القوى الكبرى، وبخاصة مشروع «خارطة الطريق» الأمريكي المشوب بالكثير من الإبهام، ومع ذلك تماطل إسرائيل في إعلان خطوات تنفيذه بمئات الحجج والحكايات!
وفي مجال النزاعات والصراعات حول الأنهار الدولية صمم الباحث «فريدريك فراي»
8
نموذجا لتحديد القوة في مثل هذه الصراعات اعتمد فيه على عناصر الاحتياج، القوة العسكرية، الموقع في حوض النهر، وأعطى لكل منها درجة من خمس درجات، فيما عدا القوة العسكرية التي أعطاها عشر درجات ليتمكن من تحليل قريب من الصحة. ويوضح الجدول التالي كيف تكون إسرائيل وتركيا ومصر هي الأقوى في أحواض الأردن والفرات والنيل على التوالي.
نامعلوم صفحہ