مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
اصناف
حين بدأ تعمير القرى على الساحل دمرت معظم أجزاء السلسلة الأولى من التلال الجيرية والرملية؛ لكي تخلق أرضا منبسطة قليلة الانحدار تبنى فوقها منشآت القرى. واقتطع المقاولون بعضا من أجزاء السلسلة الثانية كي يأخذوا الأحجار الجيرية المناسبة للبناء. وحين تم بناء القرية تلو القرية حدث تحول اقتصادي في قيمة أراضي الرعي والتين التي كانت ملكا جماعيا لعشيرة أو قبيلة، وأصبح السعي حثيثا إلى الحصول على ملكية خاصة لها قيمتها في البيع والرهن والميراث. وفي الوقت نفسه أصبح لبعض البدو وظائف إضافية متعددة، مثل خفارة وحراسة القرى المقامة محلات ودكاكين للسلع الغذائية اللازمة على طول الطريق، وبالتالي تكوين علاقات جديدة مع تجار المدينة الكبيرة المجاورة. هذا فضلا عن ورش صغيرة يقيمها السكان ويستقدمون العمل المهاجر من الدلتا والإسكندرية لخدمات كثيرة، كإصلاح السيارات والنجارة والحدادة والسباكة ودكاكين لأدوات الكهرباء والمطبخ ... إلخ. أما المدن الصغيرة الداخلية مثل الحمام التي نشأت أصلا كمحطات على طول الخط الحديدي إلى مطروح والسلوم، فقد امتد عمرانها الحديث في اتجاه طريق السيارات، وامتلأت بالمهاجرين من عمال وحرفيين، وغير ذلك كثير من التغيير السكاني والسكني والاقتصادي والحضاري. وعلى هذا فلن يمضي وقت طويل قبل أن تتجه النشاطات التقليدية إلى الانقراض، فنفقد ممارسين عرفوا كيف يحصلون من البيئة الصعبة شكلا من أشكال الحياة.
كل هذا كان على حساب البيئة الأصلية التي أخلت مكانها لتجمعات عديدة من القرى الاصطيافية والقرى الداخلية. من الناحية الاقتصادية يمكن أن يؤخذ هذا التحول على أنه تنمية لإقليم شبه طبيعي تزاول فيه عمليات رعي وزراعات على النمط التقليدي قليلة المردود. ولكن من الناحية البيئية فقد أدت أشكال التنمية هذه إلى مخاطر قد لا نعرف مداها على المدى البعيد. مثال ذلك أثر مياه ري الحدائق والمساحات الخضراء على منسوب المياه الجوفية وعلاقتها بمياه البحر. وكذلك أثر بيارات الصرف الصحي للقرى الاصطيافية على المياه تحت السطحية التي ربما تؤدي إلى تكوين مباءات ومواطن لأمراض بيئية جديدة تهدد النبات والإنسان. وأخيرا فقد أدت الحدائق والأشجار إلى تغيير في هجرات الطيور السنوية وتكوين مواطن لطيور دائمة تطرد الطيور الأصلية.
ختاما: فإننا أهدرنا قيمة الساحل الشمالي بيئيا واقتصاديا، ويجب إعادة النظر إلى خريطة استثماره بطريقة تفي بمتطلبات التصييف وتأتي بعوائد نحتاجها، على أن تكون التنمية البيئية والاقتصادية الاجتماعية رائدا أوليا في استثمار السواحل الشمالية. (10) البحر الأحمر وسيناء الجنوبية
هذا الجزء من مصر هو تماما عكس إقليم الصحراء الغربية. فالصحراء الغربية تسيطر على تضاريس سهلة من الهضاب المنبسطة متوسطة الارتفاع، لا تزيد عن 500 متر باستثناءات قليلة - أبو طرطور والجلف الكبير. وهي هضاب سهلة المرتقى وتملؤها منخفضات واسعة تكونت فيها الواحات المصرية الكبرى، إضافة إلى منخفض القطارة الهائل المساحة، ومنخفض النطرون الذي بدأ الزحف العمراني عليه منذ الثمانينيات، ومنخفض الفيوم الذي انضم إلى وادي النيل بواسطة بحر يوسف منذ أربعة آلاف سنة. أما إقليم جنوب سيناء والبحر الأحمر فتسيطر عليه التكوينات الجبلية التي تكونت منذ ملايين السنين وعملت فيها عوامل جيولوجية ودورات مناخية متعددة، بحيث أصبحت كما نراها الآن: كتل جبلية عالية تحددها مسارات أودية جافة. أعلى جبال مصر هي كتلة كاترين-جبل موسى في جنوب سيناء، وجبل شايب البنات غربي الغردقة، وجبل حماطة غربي مرسى علم، وكلها تتراوح ارتفاعاتها بين 2000 و2600 متر. وهناك كتل جبلية عديدة ترتفع بين 1000 و1500 متر، مثل الجلالة البحرية والجنوبية والدخان ومنطقة جبل علبة في أقصى الجنوب.
ولقد مر حين من الدهر، أو أحيان عدة، كانت فيه الظروف المناخية أطيب وأكثر مطرا وأغزر نباتا من الأعشاب إلى الشجيرات والأشجار الباسقات وأكثر أعدادا من الحيوانات العاشبة والحيوانات اللاحمة، وتعاقبت دورات جفاف وأمطار إلى أن وصلنا إلى الفترة المناخية الجافة التي نعيشها الآن. ومع ذلك فإن مخزون المياه الجوفية في الصخور المسامية وما يسقط من أمطار سيلية مفاجئة بين سنة وأخرى، تؤدي إلى قيام أشكال من الحياة النباتية والحيوانية والبشرية معتمدة على مصادر المياه الجوفية والينابيع في نقاط محدودة من الأودية بين الصخور الصلدة والحوائط الجبلية العاتية، فضلا عن نقاط استقرار قرب مصبات الأودية على طول سواحل البحر الأحمر وخليجي السويس والعقبة، ومن أشهرها عيون فرعون وموسى والعين السخنة حول سواحل خليج السويس، ونويبع عند مصب وادي وتير، ودهب عند مصب وادي الكيد على ساحل خليج العقبة، والزعفرانة عند مصب وادي عربة، ومرسى علم قرب مصب وادي الجمال ... إلخ.
وإذا كانت هناك أشكال كثيفة «نسبيا» من السكان والاستقرار آلاف السنين في الواحات الغربية ونطاق ساحل البحر المتوسط الذي يتمتع بقدر منتظم من الأمطار الشتوية، فإن البحر الأحمر وسيناء الجنوبية لم تكن كذلك. بل إن أشكال الاستقرار البشري كانت دائما تتركز في مدن صغيرة، وظيفتها الأساسية أن تكون مواني مصر على البحر الأحمر، وحيث إن التجارة عبر البحر الأحمر كانت تقصد أسواق مصر في عصور وأسواق مصر والبحر المتوسط في عصور أخرى، فإن ميناء واحدا كان يكفي هذه الوظيفة التجارية في أي من عصور مصر التاريخية. مثال ذلك ميناء ميوس هرمز - شمالي الغردقة، والاسم إغريقي لأنه كان أيضا ميناء في العصر الهليني، وميناء آخر عند وادي جاسوس، وثالث عند وادي القصير في عصور فرعونية مختلفة، وليوكوس ليمن (القصير ) أو برنيك (برنيس) في العصر الروماني، وعيذاب في بعض العصور الإسلامية الأولى والوسطى، وميناء القلزم (السويس) منذ العصور الوسطى وإلى الآن.
وما زالت تلك هي الصفة المميزة للاستقرار البشري حتى الآن؛ مدن البترول: رأس غارب وأبو رديس، ومدن السياحة الحديثة العديدة: الغردقة وشرم الشيخ ودهب وطابا ورأس سدر والعين السخنة ومرسى علم، ومواني العبارات الجديدة في نويبع وسفاجا، ومدن الإدارة في الطور والغردقة وشلاتين ... إلخ. أما بقية سيناء والبحر الأحمر فما زالت تسكنها عدة عشائر وقبائل قليلة العدد جدا، مثل الجبالية في كتلة جبال كاترين، والمعازة في الهضاب بين الجبال إلى حافة وادي النيل من القاهرة حتى قنا، والعبادة بين الجبال والنيل فيما هو إلى الجنوب من خط القصير- قنا، وأخيرا البشارية في منطقة حلاييب.
التغييرات الاقتصادية الجديدة ومستجدات الاستراتيجية دعت إلى إنشاء شبكات من الطرق البرية التي تربط سيناء بمنطقة القناة، وتربط مدن ساحل البحر الأحمر بوادي النيل في عدة نقاط. الخط الحديدي اليتيم هو الذي أنشئ حديثا بين سفاجا وعبر قنا إلى الواحة الخارجة، ومن ثم مناجم فوسفات أبو طرطور بغرض تصدير الخامة المعدنية، لكنه غير عامل بالمعنى المعروف لتشغيل الطرق، وبطول الساحل من السويس إلى شلاتين يمتد الطريق المحوري الذي يكون الرابطة الأساسية بين كل المدن الساحلية في البحر الأحمر. ويرتبط هذا المحور بمدن وادي النيل بمجموعة من الطرق البرية العابرة للصحراء الشرقية أشهرها تاريخا طريق القاهرة السويس، ثم طريق القاهرة القطامية العين السخنة، وطريق قنا سفاجا، وطريق إدفو مرسى علم. وهناك أيضا طريقين غير مطروقين بكفاية هما: خط الزعفرانة الكريمات، وطريق رأس غارب الشيخ فضل في المنيا.
أما في سيناء الجنوبية فإن الطرق تبدأ كلها من نفق الشهيد أحمد حمدي تحت قناة السويس. وهذا خطأ استراتيجي فضلا عن أنه يكون عنق زجاجة في حال زيادة الحركة، ويجب البحث عن طرق أخرى مساندة وبديلة. الطريق المحوري هو أيضا مثل البحر الأحمر، الطريق الساحلي الدائري من النفق ويتجه جنوبا بحذاء ساحل خليج السويس رابطا رأس سدر وأبو زنيمة وأبو رديس والطور، ويدور مع رأس محمد إلى شرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا، وثمة طريقان يخترقان سيناء من الشرق إلى الغرب هما: الطريق الشمالي من النفق إلى نويبع عبر نخل ومسار وادي وتير، وهو طريق الحركة الرئيسي عبر سيناء. ويتفرع من هذا الطريق اتجاه شرقي من نخل إلى رأس النقب وطابا. والطريق الثاني العابر لسيناء يجري في وسطها بين نويبع وسانت كاترين وواحة فيران ثم إلى طريق خليج السويس جنوب أبو رديس، وهو في أغلبه طريق سياحي خدمي. (10-1) السيول والطرق
وبخبرة الناس لمئات السنين في الحركة في هذه المناطق الجافة أصبحوا يعرفون مخاطر المرور أو السكن أو إقامة المخيمات في مسارات الأودية الجبلية في الفترات التي يتوقعون فيها سقوط الأمطار المولدة للسيول التي تجرف أمامها كل شيء. ولهذا أصبح من المفارقات أن يموت الإنسان غرقا وسط هذه البيئة المجدبة. وإزاء ذلك كان البدو يقيمون مضارب خيامهم على سفوح أعلى قليلا من بطون الأودية، وبعيدة أيضا عن التقاء الأودية الفرعية حيث تتكون مخرات قوية للسيول. وتتشكل مصبات الأودية الكبيرة في الأغلب من دلتاوات متفاوتة الأحجام حسب حجم الوادي تتعرض للنحت والنحر بفعل السيول الجارفة. والدلتا هنا هي بالمعنى الصحراوي الذي تبرز فيه المكونات الدلتاوية الصخرية مختلطة ببعض التكوينات الطينية نتيجة التفتت. ونظرا لكثرة التعرض للسيول فإن هذه المناطق غير جاذبة للسكن الدائم إلا تحت شروط كثيرة. وكمثال للمخاطر أن مدينة نويبع التي تقع جزئيا في دائرة نفوذ دلتا وادي «وتير» قد تعرضت لغضب السيول في 1987 و1994 و1995، وقد دمرت سيول 1994 الطريق الرئيسي وجزءا من جنوب شرق المدينة، وأدت إلى وفاة خمسة عشر شخصا، ولكن بعض هذه المناطق قد تصبح مناطق لزراعة محدودة مع اتخاذ التدابير اللازمة لتجنب مسارات السيول أو التقليل من شدتها لتوفير الحماية لها.
نامعلوم صفحہ