مصر والشام في الغابر والحاضر
مصر والشام في الغابر والحاضر
اصناف
ومنهم أبو الطاهر محمد بن عبد الله البغدادي المالكي (367ه)، كان شاعرا أخباريا أديبا، ولي قضاء واسط وبغداد، ثم ولي قضاء مصر ودمشق واستناب على بغداد.
هذه هي لمحات موجزة عن الصلات العلمية والأدبية التي كانت بين البلدين في القرون الأربعة الأولى، فلما جاء العصر الفاطمي قويت العلاقات وتلونت بلون جديد؛ لأن الفاطمية وإن كانت دولة سياسية فإنها كانت تعتمد على فكرة وعقيدة دينية ومبادئ علمية خاصة، وطبيعي جدا أن هذه الدولة كانت تسعى إلى نشر فكرتها وعقيدتها التي جاءت بها من مقرها، وطبيعي أيضا أن يعمد الفاطميون إلى نشر الدعوة الشيعية التي ينضوون تحت لوائها، وقد كان أول الخلفاء الفاطميين في مصر المعز لدين الله يتسم بسمة الإمامة أكثر من اتسامه بسمة الملك والسلطنة، فكان يعظ الناس بنفسه ويخطبهم ويلقنهم المبادئ الفاطمية، وكان فصيحا ذكيا قوي العارضة، وما إن استقر أمر الدعوة رسميا في مصر حتى سعى الفاطميون إلى نشر الدعوة في غير مصر من البلدان المجاورة، والشام أقرب تلك البلاد إلى مقر الدعوة.
كان يسيطر على الشام أيامئذ طائفة من غلاة الشيعة هم القرامطة، وقد كانوا قبل دخول الفاطميين إلى مصر والشام دعاتهم في تلك البلاد، فلما احتل الفاطميون البلاد تنكر لهم القرامطة في الشام وثاروا عليهم وخافوا أن يسيطروا على الشام كما سيطروا على مصر، فكانت بين الفريقين وقائع، والتقى الطرفان في الشام حتى دحر القرامطة وثبت أمر الفاطميين فيه، فأخذوا يبثون دعاتهم لينشروا مذهبهم وعقيدتهم، وكان الأزهر - الذي قد أسس وتم بناؤه في سابع رمضان سنة 361ه - ودار الحكمة - التي تم بناؤها في عاشر جمادى الأولى سنة 395ه - هما المقرين الرئيسيين لدعاة المذهب، ومنهما كانوا يخرجون إلى الشام فينشرون الدعوة ويعودون ليتلقوا التعليمات الجديدة والدروس. وقد قوي أمر هذين المقرين الثقافيين وانتشر صيتهما في العالم الإسلامي وقصدهما الناس من أقصى الأرض، فهذا الرحالة الفارسي الشاعر المؤرخ ناصر خسرو يقصد دار الحكمة من بلاد فارس ويصل إليها في سنة 439ه، ويدرس فيها ويتلقى التعاليم من داعي الدعاة ثم يعود إلى بلاده لينشر المذهب، وطبيعي أنه كان في طريقه على الشام ينشر فيها مذهبه. وممن قصدها أيضا من بلاد فارس الحسن بن الصباح مؤسس المذهب الإسماعيلي الباطني، ومنهم العالم الأندلسي عبد العزيز بن أبي الصلت، وكانت زيارته في القرن السادس، ومنهم عبد اللطيف البغدادي وكانت زيارته في القرن السادس أيضا.
ولم يكن هذان المعهدان هما الوحيدين من نوعهما في مصر، فقد حول المسجد العتيق - أعني مسجد عمرو ومسجد ابن طولون - إلى مراكز تذكر فيها الدعوة، أضف إلى ذلك مسجد الحاكم وغيره من المساجد، وقد صارت هذه المساجد كلها دور دعوة ونشاط فاطمي، ولكن دار الحكمة كانت أعظم هذه المراكز نشاطا، وفيها كانت تدرس علوم الفلسفة والحكمة والعقائد. أما الأزهر فقد كانت المذاهب الشيعية والفقه الشيعي أغلب عليه، وكذلك الأمر في المسجد الحاكمي.
أما المسجد العتيق ومسجد ابن طولون فقد ظل فيهما أثر من علوم أهل السنة، وفي دار الحكمة والأزهر وقصر الخلافة - في بعض الأحيان - كانت تعقد مجالس الحكمة ويشترك فيها كثير من كبراء الدولة ووزرائها وداعي الدعاة، وكانت هذه المجالس متعددة مختلفة بحسب طبقات الناس من رجال ونساء، وكان داعي الدعاة هو الذي يشرف على تنظيمها وترتيبها. وقد كانت المجالس في أول أمرها حرة علنية يلتحق بها من يشاء ويدرس فيها المرء ما يريد من المذاهب الفلسفية والدينية، ولكن هذا لم يلبث طويلا، فتحولت هذه المجالس - وبخاصة مجالس دار الحكمة - إلى مجالس سرية يعمل فيها الدعاة على نشر المذهب الفاطمي بطريقة عملية يمزج فيها بين الفلسفة والإلحاد والفقه الشيعي. ولهذه الدعوة مراتب ودرجات كالماسونية لا يتوصل الإنسان فيها إلى مرتبة أعلى من مرتبته إلا بعد الفحص والتجربة.
وقد اعتمد الفاطميون على هذه الدعوة في نشر سلطانهم السياسي في الشام، فقد انتشر المذهب فيه انتشارا قويا وعظم أنصاره، وخصوصا في عهد الحاكم وفي عهد آل عمار أصحاب مكتبة دار الحكمة في طرابلس، فقد أنشأها علي بن محمد بن أحمد بن عمار جلال الملك سنة 472ه وجعلها مقرا لنشر المذهب، وغذاها بالرجال والكتب والأموال، فأصبحت طرابلس مركزا من أعظم المراكز الشيعية في بلاد الشام. ويجب أن يعرف أن المذهب السني لم ينقرض في هذه الفترة، فقد ظل في الشام، بل في مصر نفسها، جماهير من رجال السنة نذكر منهم أبا نصر السجزي الحافظ المحدث (444ه )، وقد كان يتنقل لنشر الحديث ومذهب أهل السنة بين الشام والعراق ومصر، وقد أقام في مصر طويلا وبها مات، وله فيها وفي الشام تلاميذ كثر. ومنهم محدث مصر أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال (482ه) وكان ثقة صالحا تلقى العلم عن شيوخ الشام ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ينشر الحديث.
وهؤلاء كما ترى كلهم من كبار أئمة الحديث في العالم الإسلامي، أما الفقه السني فقد كان له في مصر أيامئذ شيوخ رحل إليهم كثير من الشاميين أمثال أبي الحسن عبد الملك بن مسكين المعروف بالزجاج الفقيه (447ه)، وأبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي الأديب الفقيه (454ه)، وكان إماما تولى قضاء السنة في الديار المصرية ورحل إليه العلماء من جميع الأقطار، ومن تلاميذه محدث بغداد الأشهر الخطيب البغدادي. ومنهم أبو القاسم علي بن محمد المصيصي (487ه) روى عنه الحديث جماعة بمصر والشام والعراق، ومن أعظمهم الإمام المحدث أبو الحسن علي بن الحسين الخلعي المصري (492ه)، وكان أعلى أهل مصر إسنادا، وله كتاب الخلعيات في الحديث وهو من الكتب الموثوقة. ومن فقهاء المالكية الذين كانوا في مصر في العصر الفاطمي رجاء بن عيسى الأنصاري (490ه)، وغير هؤلاء كثير.
فأنت ترى أن الفاطميين على الرغم من محاولتهم القضاء على الفقه السني والمذاهب السنية في الشام ومصر لم يستطيعوا ذلك، فقد ظل في الشاميين والمصريين رجال يحفظون مذهب السنة ويعملون على محاربة البدعة الفاطمية.
ولما انتهى الدور الفاطمي في بلاد الشام أخذت البلاد تستقل ثقافيا وعقليا ومذهبيا عن مصر، فإن الأمراء الذين امتلكوه أخذوا يؤسسون المدارس الجديدة، ففي سنة 515ه أنشئت أول مدرسة في حلب، بناها الأمير بدر الدولة سليمان بن أرتق لأهل السنة، ثم جاء بعده الأمير نور الدين محمود بن زنكي فأنشأ مدرسة ثانية في حلب سنة 548ه وجعلها للقاضي ابن عصرون لنشر المذهب الشافعي، كما بنى للقاضي نفسه مدارس في دمشق وحماة والقدس، وفي دمشق أنشأ أول دار للحديث في الإسلام، ثم جاء من بعده صلاح الدين فأكثر من إنشاء المدارس السنية في العواصم الشامية كحلب ودمشق وحماة وحمص والقدس.
وفي هذه الفترة ازدهر في الشام نوع من العلم والثقافة، وهو ما كان من تأثير الصليبيين في الشاميين وتأثير الشاميين في الصليبيين، وقد نتج عن ذلك نبوغ جمهرة من العلماء فازدهرت العلوم المسيحية وارتقت طبقات من المسيحيين علميا، ففي طرابلس مثلا ازدهرت مدرسة اليعاقبة التي بلغ العلم فيها أوجا عاليا، ولم تزدهر العلوم المسيحية وما إليها من الفلسفة والحكمة والآداب النصرانية في عصر مثل ارتقائها في هذه الفترة، ولم تقتصر هذه الحركة على الآداب المسيحية والفلسفة، فقد ارتقت العلوم العربية الأدبية والتاريخية بين النصارى، ونبغ فيهم أمثال أبي الفرج بن العبري المؤرخ العظيم، وغيره كثير من نبهاء النصارى الشاميين.
نامعلوم صفحہ