مصر من ناصر إلى حرب
مصر من ناصر إلى حرب
اصناف
تراجع التعاون بيننا وبين المصريين، كما تراجعت من جانبهم مشاعر الإخلاص والصراحة.
في الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1973م، وبعد عودتي من الإجازة، قمت بزيارة السادات. في هذه المرة أخبروني أنه سيستقبلني في برج العرب، وهو مكان يقع في قلب الصحراء غرب الإسكندرية.
كان من اللافت للنظر أن الساحة المحيطة بهذا البيت الصغير الضائع في الصحراء قد امتلأت بعدد من السيارات تحمل لوحات تشير إلى أنها مخصصة للشخصيات الحكومية الأجنبية الرفيعة المستوى. وقد اتضح أن السادات كان يستقبل نيلسون روكفلر وبعض الشخصيات الأمريكية الأخرى. رافقنا بعض الحراس إلى قاعة استقبال جانبية، وفيها كان يتناهى إلى أسماعنا صوت ضحكات الأمريكيين المجلجلة. مضت عشرون دقيقة وأكثر على الموعد المحدد، وعندها أخبرنا الضابط المكلف أنه إذا كان الرئيس مشغولا اليوم إلى هذا الحد، فسوف نغادر المكان وليحدد لنا موعدا آخر. خرج الضابط إلى مكان ما، وبعد أن عاد أخبرنا أن الرئيس مستعد للقائنا الآن.
كان الرئيس لا يزال واقعا تحت تأثير الحديث الذي انتهى منه للتو. كان ينظر باتجاه ما بالقرب منا، وكان من الواضح أنه لم يستعد تركيزه للتحدث معنا بعد. وفي النهاية بدأ حديثه متخيرا كلماته بدقة قائلا: إن الوضع المتعلق بتسوية قضية الشرق الأوسط بات «غير محتمل». ثم ماذا سيحدث لو أنه (السادات) «فجر الموقف»؟ ما الذي يمكن للآخرين أن يفكروا فيه؟
على الفور خطرت على بالي فكرة: هل يمكن أن يكون السادات قد قرر البدء في العمليات العسكرية؟ وأين ذهبت تأكيداته بأنه مرتبط ارتباطا وثيقا في هذا الشأن بالاتحاد السوفييتي، وأنه سوف يتبادل الرأي والمشورة معه؛ فالعمليات العسكرية هي الخطوة الأخيرة في السياسة، وفي الغالب لا يمكن التنبؤ بنتائجها. وفي سباق العمليات العسكرية دائما ما يؤمن كل طرف بأنه هو الذي سيحرز النصر، وفي النهاية ينتصر طرف واحد، بينما يخسر الآخر. وغالبا ما يكون المهزوم هو من بدأ الحرب. لم يقدم لنا الرئيس أية تفسيرات، وإنما ظل، كما يقولون، «يداور ويناور».
دفعني الحديث مع الرئيس دفعا إلى أن أعاود النظر مليا في الموقف في البلاد مرة أخرى. لم تكن هناك أية مؤشرات مباشرة بشأن بدء العمليات العسكرية في القريب العاجل، لكن المؤشرات غير المباشرة كانت محسوسة، لكن ذلك لم يكن كافيا للوصول إلى استنتاجات محددة؛ فذات يوم توقف رتل من السيارات كان يسير في أحد شوارع القاهرة لمدة طويلة، وكانت السيارة التي تقلني واحدة من بين هذه السيارات. كان الهدف فتح الطريق لرتل آخر من سيارات النقل العسكرية تحمل زوارق مخصصة لعبور الموانع المائية. فكرت أنه لو كانت هناك استعدادات تجري لخوض الحرب، فلماذا ينقلون هذه المعدات على هذا النحو الاستعراضي ليعلنوا عن عبور قناة السويس؟ ناهيك عن أن الضباط المصريين بدءوا في الظهور بملابس الميدان. وإذا كانت هناك استعدادات تمت ملاحظتها داخل القوات المسلحة، فإن شيئا من الاستعدادات تجاه وقوع أية عمليات عسكرية لم يلاحظ في العمق.
في الثالث من أكتوبر، كنت في زيارة للسادات في منزله الخاص القريب من السفارة. وفي سياق الحديث الذي دار بيننا، تحدث السادات عن الاستفزازات المستمرة التي تقوم بها إسرائيل، وعن إمكانية قيام المصريين برد عسكري ضد ما أسماه «الاستفزاز الكبير»، وأردف قائلا: «وليكن ما يكون.» وردا على سؤالي حول ما إذا كانت هناك تصورات بشأن موعد ومستويات هذا الرد، أكد السادات أنه سيخبرني حتما عندما تقتضي الحاجة ذلك «في حينه»، ومرة أخرى لم يذكر شيئا محددا، ولكنه طلب مني ألا أغادر القاهرة، وأن أظل في انتظار مكالمة هاتفية منه.
في اليوم التالي أبلغت السادات بأن موسكو اتخذت قرارا بنقل زوجات العاملين السوفييت وأطفالهم، وطلبت منه مساعدة السلطات المصرية في ذلك، وقد وافق السادات.
نجحنا في زمن قصير للغاية في نقل أكثر من 2700 امرأة وطفل، وكذلك حوالي ألف شخص من عائلات العاملين في السفارة وغيرهم من الخبراء من الدول الاشتراكية الأخرى. كان النقل يتم دائما ليلا في حافلات إلى الإسكندرية ثم إلى السفن السوفييتية أو على رحلات جوية خاصة من القاهرة (في حالة ما إذا لم يكن المطار مغلقا). وقد خصصنا في السفارة هيئة خاصة للإخلاء. جدير بالذكر أن المستشار الاقتصادي ن. ل. لوباتين والممثل التجاري أ. إ. لوباتشيف والمستشار ب. س. أكوبوف والسكرتير الأول ف. ن. يودين، قد بذلوا جهودا مضنية في هذا الصدد.
وعلى الرغم من أن السادات تجنب مرة أخرى التصريح لي بأية معلومات محددة، مع أنني حاولت تغيير دفة الحديث إلى موضوعات أكثر تحديدا، فقد أصبح من الواضح تماما أن أعمالا عسكرية سوف تبدأ اليوم. عندئذ خطرت ببالي فكرة: على أي نحو سوف يخبرني الرئيس عند وقوع الحدث الأهم «في حينه» كما أخبرني من قبل! وما هذه «المعلومات »؟ أضف إلى ذلك أنه سيخبرني بها قبل وقوعها بساعات أربع. وأين هو من وعوده بالتشاور؟ وهلم جرا.
نامعلوم صفحہ