مصر خديوی اسماعیل
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
اصناف
ولما قارب القطار طوخ، تحول الحديث إلى القناطر الخيرية التي أنشأها الباشا العظيم على مفرقي النيل: فأجمع الكل على اعتبارها مضارعة، في العظمة، لأعظم ما خلقته إرادة فراعنة القدم؛ وزائدة، في الفائدة، على كل ما أوجده أولئك القديرون، ولم يكن (مرييت) و(بروجن) و(ماسبيرو) قد أماطوا، بعد، حجاب السر عن تاريخ الأسرة الثانية عشرة الرفيعة الشأن، أسرة أزرتسن وأمنمحعت، بانية اللابرنت، ومحتفرة خزان ميريس.
وهكذا مرت على المسافرين الساعات، وهم لا يشعرون بمرورها، حتى وقف القطار بهم أخيرا بالقرب من قصر النيل.
فنزل السلطان، واستراح هنيهة، في المحل الفخم المعد له؛ وكذلك أمراء بيته الكرام؛ وأقام الجميع هناك إلى أن تجهزت المعدات التي صدرت الأوامر بها.
فلما سدل المساء سدوله، سار الموكب السلطاني من قصر النيل إلى سراي القلعة عن طريق شارع كوبري قصر النيل؛ فباب اللوق؛ فحسن الأكبر؛ فغيط العدة؛ فباب الخلق؛ فتحت الربع؛ فالدرب الأحمر - وهذه الشوارع بحاراتها ودروبها وسككها وعطفاتها مزينة بأبهى زينة؛ متألقة بأجمل الأنوار؛ مكتظة بأناس من مختلف الأمم والملل والنحل؛ ممتزجين، امتزاجا يقر العين، ويشرح الصدر؛ هاتفين بالتحية السلطانية - وكان قد تقرر أن لا يهتف بغيرها، إجلالا لصاحبها، على طول الطريق؛ ومظهرين من عواطف الولاء والإخلاص والعبودية ما تحار له العقول والألباب؛ ناثرين الزهور؛ حارقين البخور؛ مكبرين؛ مهللين؛ وقد انتشرت بينهم الچوقات الموسيقية على أبعاد قليلة بعضها من بعض صادحة بالسلام السلطاني، بينما النساء والأولاد قد انعقدت عناقيدهم فوق السطوح وفي النوافذ وعلى درجات الجوامع والمساجد والزوايا الخارجية وفي نوافذها، والجميع يدعون للسلطان كل بلسانه، وكيفيته الخاصة وعلى طريقته المعتادة.
وكان السلطان شيقا، وكذلك من معه، إلى رؤية تلك القلعة الشهيرة، وسرايها التاريخية؛ لازدحام تذكارات التاريخ حولهما من أيام صلاح الدين وبيبرس وقلاوون وبرقوق وقايتباي إلى أيام سليم خان وبونابرت ومحمد علي؛ لا سيما ما كان من تلك التذكارات لا يزال حاضرا بالأذهان.
وكانت سراي القلعة قد أعدت لنزول الضيوف الكرام فيها، إعدادا شبيها بما يروى عن مثله في كتاب ألف ليلة وليلة، مما لم يكن يستطيع القيام به إلا سلاطين الجن.
فما ارتاح السلطان في مخادعه، ومرت أمام عيني مخيلته، أشخاص العظماء الذين سبق وجودهم في تلك الأماكن وجوده فيها؛ ثم تناول طعام العشاء، وكان أفخر ما تتلذذ به الأذواق، وتستمرئه الألسنة؛ كثيرا وفيرا؛ ممدودا على عدة موائد للآكلين، إلا ودوت حوله الآفاق بالمدافع المؤذنة بصلاة العشاء - وكان (إسماعيل) قد أمر أن تضرب عند حلول كل وقت من مواقيت الصلاة، لكي يكون الشعور عاما بأن أيام إقامة الخليفة بمصر لأيام أعياد مباركة - وعلت ضجة المدينة العظيمة، حافلة بالدعوات الصالحات؛ عاجة بالهتاف: «باديشا همز چوق يشا».
وما هي إلا لحظة، وتألقت الزينات، وأشعلت ألعاب النار، وشقت السواريخ كبد السماء؛ وانتثرت الأهلة والنجوم منها متباينة الألوان في الفضاء؛ وبرزت المدينة كلها تسطع في جميع جهاتها بالأشعة المنبعثة إليها من كل صوب.
فتقدم السلطان إلى حيث استجلت أنظاره أرجاء القاهرة بأسرها، هذه القاهرة الثملة فرحا بتشريفه أرضها، فمتع عينيه بذلك المنظر الشائق - وكان الليل قد كساه ثوبا خياليا يلعب باللب ويسكره - وأحس في صميمه بلذة سماع كل تلك الأصوات، المصعدة إلى أذنيه الدعوات التي ترسلها الرعية المخلصة لسلطانها نحو قدمي العرش الإلهي.
ففاض صدره بالحبور المتدفق إليه من كل حدب وصوب؛ وأراد إظهار امتنانه ومحظوظيته (لإسماعيل)، فنزع وسام «المجيدية» المرصع المتدلي على صدره السلطاني، وعلقه بيده على صدر (إسماعيل)؛ وقال له: «إني لا أدري كيف أشكرك على كل ما بذلته لتملأ نفسي سرورا»، فأجابه (إسماعيل): «إنما قدمت لمولاي ما هو له»، فزاد هذا الجواب في سروره.
نامعلوم صفحہ