مصر خديوی اسماعیل
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
اصناف
فالتباين بين الاثنين يفوق إذن ما اعتيد منه بين الأشخاص المختلفين، وإنك لتراه باديا في مظهر الرجلين الطبيعي، بدوه في أخلاقهما وروحيهما: فنوبار جميل الطلعة والبزة، حلو الشمائل، عسلي اللسان، وأما رياض فصغير ومخرنبق، غضوب، كسار، وصوته لدى أقل تهيج يميل إلى الصرير، وهو فيما عدا بيته حيث يكون لطفه كاملا، يتطرف في الغلظة إلى حد السماجة، ليس فقط في معاملته لمرءوسيه، بل في معاملته لمساوييه في الرتبة والمكانة، ولو أنه شديد الميل إلى مطالبة الكل باحترام شخصه احتراما لا يرى ذاته، مستعدا لمقابلة الغير بمثله.
ولكن إذا كان هذان الرجلان متباينين تمام المباينة من جهة طباعهما، فإن وجوه الشبه في مجرى حياتيهما كثيرة وغريبة، كل منهما يكره الآخر، ولكن التاريخ العادل يعترف ويذكر بأن كلا منهما في سبيله خدم بلاده خدمات جليلة: فكلاهما احتمل متاعب جمة في أيام (إسماعيل)، بسبب وقوفه موقفا غير متفق مع رغائب ولي النعم، وكلاهما اجتهد - ولو سدى - في إيقاف تيار الاستدانة الذاهب بالبلاد إلى الهاوية. ولئن افتخر نوبار بما شاده للعدالة من قواعد، فإن رياضا يفتخر بما أبداه من شجاعة أدبية في وقوفه في وجه (إسماعيل)، وتعضيده لرجال لجنة التحقيق في النزاع الذي دخلوا فيه، لإنقاذ المالية المصرية، وقد بدا من كليهما بعد الاحتلال الإنجليزي وجوه تشابه تستوقف النظر: فكل منهما صدق على جهود إنجلترا الإصلاحية، واشترك مع الإنجليز إلى حد ما في أعمالهم، ولكن كلا منهما امتعض أيضا لما كانت توجبه الرقابة البريطانية من قيود على الأهواء الاستبدادية، وانتهى إلى رفض مساعدتها، ولقد كان أشهر من نار على علم أن رياضا قبل توزره كان يشكو مر الشكوى من عدم تداخل الإنجليز في الأمور تداخلا كافيا ليكفل تقويم معوجها، وأنه لم يمض على استلامه زمام الحكم مدة مديدة إلا وطفق يتذمر من أنهم يتداخلون أكثر مما يطاق.
هذا فيما يختص بأوجه الشبه، وأما أوجه عدم التشابه فلا بد من الاعتراف بأن رياضا قد لا يلتمس له العذر الذي يلتمس لنوبار على دخوله في عراك مع الرقابة البريطانية، فإن أحوال مصر حينما استلم نوبار دفة الإدارة كانت في فوضى نظام قلما يستطيع الإنسان وصفها، واستمر الإنجليز مدة يزيدونها تعقيدا بكيفية تضجر الرجل وتململه، ولقد اصطدمت إدارته، دوما وفي كل شيء، بإمساك وزارة المالية، واضطر إلى تحمل مسئولية كل ما كان كريها في سياسة كان هو أول الناقمين عليها من صميم فؤاده.
نعم إن الحالة في سنوات وزارته الأخيرة كانت قد تحسنت تحسنا بينا، ولكن التقدم - ولو أنه كان لا بد من الشعور بالإجراءات الصارمة اضطرارا، التي كان من شأنها ضمانة حدوثه واستمراره - لم يكن قد ظهر بعد بكيفية عامة ترتاح إليها النفوس، وأما رياض فإنه استلم أزمة الأحكام في أحسن الأوقات وأطيبها تفاؤلا، لا في زمن أزمة وإحن، بل في ساعة تجدد وإحياء، واستمر الجو صافيا زاهيا طوال مدة إدارته، فكان من سعادة حظه أنه رأى الجيش المصري، المحقر جدا في الماضي، يفوز على الدراويش، وعبء الدين العمومي يخفف، ومصر تحرر تحريرا تاما وإلى الأبد من السخرة والعونة، والضرائب العقارية تخفض إلى أكثر من ثلاثين في المائة في أشد الأقاليم فقرا، وزيادة الإيرادات على المصروفات تنمو سنة فسنة، بالرغم من ذلك التخفيض، ورأى كل هذا ينسب إليه، ويرتفع عبير الثناء حول شخصه عليه.
فلو كان ذا طبع غير طبعه لكان جمع قلوب المصريين على حبه أكثر من كل وزير سواه، ولاستطاع البقاء على دفة الحكم بين تصفيق الجميع، وهو متمتع بحرية عمل تكاد تكون تامة، ولكنه ما أقام على منصة الأحكام سنتين إلا وقد نفرت منه قلوب كل ذي حيثية في القطر. ومع أن إدارته نجحت نجاحا غير منقطع، فإنه أصبح مكروها من الجمهور أكثر مما كره نوبار في حياته، وذلك لأن رياضا كان ذا كفاءة غريبة في إثارة عداء الناس له حالما يتربع في دست الوزارة، وإنه لشيء عجيب في الحقيقة أن يكون هذا الرجل على مثل هذه القلة في جدارته لاستلام زمام الحكم، فهو ما دام بعيدا عن كرسي الإدارة وملازما الحياة الفردية الخاصة يرى عدد مريديه يزداد يوميا في البلد، وذلك لأنه بصفته مسلما تقيا، يجمع على حبه كل ذوي النفوذ الديني في القطر، وبصفته مزارعا وفلاحا عريقا في شئون الفلاحة، وواقفا تمام الوقوف على حياة الشعب واحتياجاته وأفكاره، يعرف كيف يهتم بمصالح مشايخ البلاد، وكيف يكتسب حبهم، ولكنه حالما يتربع في الدست يصبح كالقنفذ، كله شوك، وعصبيا إلى حد عدم استطاعة الصبر على ما في الإدارة من موجب للضجر والملل، فلا يلبث أن يندفع مع تيار تحرك وتقلب كتحرك وتقلب المصاب بحمى، فينجرح شعوره لكل حيف، ويصبح يرى في النصائح، حتى متى قدمت له بغاية التأدب والاحترام، ضروبا من الإهانات والانتقاص.
10
على أننا نرى أن نضع إزاء ما جاء في آخر وصف اللورد ملنر هذا لرياض، ما قاله عنه صاحبا المقتطف بعد أن ذاق الرجل كأس المنون، قالا:
وقد تيسر لنا أن ندرس أخلاقه وصفاته وطباعه عن قرب، وأن نمحص ما يقوله أنصاره في مدح أعماله، وخصومه في ذمها، ونعلم مقدار ما في أقوال الفريقين من الصواب والخطأ.
فلا ريب عندنا أن الفقيد كان رجلا رفيع الآداب، صادق الوطنية، شديد الغيرة على مصر، والرغبة في إبلاغ أهلها أعلى غاية في كل أمر حميد. ولا ريب أنه كان حسن المقاصد، يحب الخير للناس، ويحب خيار الناس، وينفر من شرارهم نفورا ظاهرا لا يخفيه عنهم، وكان لشدة غيرته على قومه يحسب نفسه مسئولا عن كل مصري، فيدافع عنه دفاع الأب عن ابنه، ويوبخه أيضا، ويعنفه بكلام مؤلم إذا رأى منه ما لا يعجبه، فلذلك كان بعض الذين يوبخهم من كبار الموظفين يخطئون الباعث الحقيقي له على ذلك، فيستاءون منه، وربما حقدوا عليه ورموه بالكبر وحب الاستبداد، وباتوا من خصومه والمتكلمين في حقه.
ثم إنه كان إذا رأى السيئة يطلب إزالتها أو إصلاحها بأقرب الطرق التي يدله عليها ذكاؤه الفطري والإدارة التي ألفها واعتادها في زمانه، فإذا وجد أمامه حوائل وعوائق نظامية، عيل صبره عليها، وأراد التخلص منها، بما اتصف به من شدة العزيمة وقوة الإرادة، وهذا ما أوقع الخلاف بينه وبين رجال القانون في الحقانية والمحاكم، وجعل كثيرين من هؤلاء يرمونه بحب الاستبداد بالأمور، وكراهته للنظامات الدستورية، وهذا ما أوقع الخلاف بينه وبين بعض الأوروبيين الموظفين في الحكومة وخارجها، وجعلهم يرون رأي رجال القانون في أفعاله.
نامعلوم صفحہ