318

مصر خديوی اسماعیل

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

اصناف

فسطعت ملايين الأضواء تتلألأ في الليل كأنها نجوم سطعت فجأة، فقلبت الظلام نهارا، أو جعلت المتفرجين يتصورون مدة ستة أسابيع متوالية، أنهم ينتقلون في الليل من منطقة مدار الشمال إلى منطقة أحد القطبين صيفا، حيث لا تغيب الشمس عن الآفاق أشهرا متعددة.

وأقيمت في أهم الميادين هنا جوقات موسيقية - وأهمها التي اتخذت موقفها في الطرقة بعالي قوس النصر تجاه القصر العالي - وهناك تخوت آلاتية - وأهمها تخت عبده الحمولي، بلبل الأفراح، ورب الطرب الشرقي على العموم، فأخذت تلك تصدح وتعزف، وأخذت هذه تشنف الأسماع بألحان بديعة، وأصوات رخيمة تجعل سامعيها يتخيلون أنهم انتقلوا إلى جنة الخلد البهية، وأنهم يسمعون ترانيم الملائكة المختارين حول عرش الرحمن.

ونصبت في كل جانب المسارح المرتجلة، ليمثل عليها غواة الفن، وجوقات كراكوز، فيحضر من شاء تمثيلها مجانا، ويعود إلى منزله مرتاحا مبتهجا، ومدت الحبال في الساحات العمومية، لا سيما جهة القصر العالي، ليلعب عليها «البهلوانيون» ألعابهم المدهشة المحيرة للألباب، فشبكت بصوار عالية جدا، ملفوفة عليها أقمشة ملونة، تعلوها مراء فاخرة، وتتخللها مناور ساطعة.

ورتبت السواريخ بتفنن غريب في تلك الجهة عينها، وأخذوا يشعلون كل ليلة جانبا منها، فتدوي طلقاتها في آفاق العاصمة كلها، وتتناثر نجومها وأهلتها في جميع الأحياء ست ساعات متوالية، ناشرة فيها أنباء الأفراح القائمة، وداعية الأهالي على اختلاف طبقاتهم إلى الاشتراك فيها.

ففي اليوم الخامس عشر من شهر يناير - على ما نظن - بدأ خروج الهدايا المهداة من سمو الأميرة والدة (إسماعيل) وزوجاته الفخيمات إلى العرائس من القصر العالي، وشوارهن، وكان شوار الأميرة أمينة هانم، زوجة ولي العهد أول ما خرج من ذلك النوع، فسير به إلى قصر القبة، تخفره صفوف الفرسان بزي عربي بديع، وآلاي بيادة بأسره بملابس بيضاء ناصعة كالثلج، تتقدمه جوقة موسيقية من أمهر العازفين، وكانت الهدايا موضوعة في أسبتة مكشوفة، فوق عربات مكسوة بالقصب، على مخدات من القطيفة المزركشة بالذهب والماس، يغطيها شاش فاخر، يمسك بأطرافه أربعة عساكر في كل عربة، ويتبعهم ضباط بملابسهم الرسمية، والسيوف مشهرة في أيديهم .

وكانت تلك الهدايا عبارة عن مجوهرات سنية، وقلائد ماس ساطعة من النوع المعروف عامة باسم «البرلنتي»، ومناطق من الذهب الخالص، وأقمشة مطرزة باللؤلؤ العديم المثيل، وزمرد في حجم البيض، وملابس بيضاء مطرز عليها رقم الأميرة باللآلئ والحجارة الكريمة، وآنية متنوعة من الفضة الصب الخالصة بكمية عظيمة، وثمن ذلك جميعه يفوق الحصر والعد، وكان بين الهدايا المقدمة من (إسماعيل) لأكبر أبنائه سرير من الفضة الصب الخالصة، شبيه بالذي أهداه إلى الإمبراطورة أوچوني أثناء إقامتها بمصر، محلى بماء الذهب الإبريز، وعواميده الضخمة مرصعة بالماس، والياقوت الأحمر النادر والزمرد والفيروز، فاجتاز الموكب المهيب شوارع العاصمة، بين سياج حي من العساكر الشاكي السلاح، وتقدم يتهادى في سيره مختالا كأنه طرب بذاته، شاعر بقيمته.

ولم يختلف شوار الأميرات عين الحياة هانم، وخديجة هانم، وفاطمة هانم، والهدايا المهداة إليهن، عن شوار أمينة هانم، وما أهدى إليها مما تقدم وصفه.

وفي اليوم السادس عشر أحيي في العباسية السباق الأوحد الذي سبق لنا الكلام عنه في غير هذا المكان، وكان معظم (چوكيه) من السود اللابسين لباسا من الحرير الأحمر، ومد فيه على نفقة الخديو الخاصة، مقصف للمدعوين فاقت أصناف مأكولاته ومشروباته في التنوع واللذة، كل ما ظهر من نوعها على المقاصف الخديوية إلى ذلك الحين.

وفي اليوم السابع عشر، أقيم مرقص فخم في سراي الجزيرة، دعي إليه ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف ذات من الأجانب، وأعيان البلاد ووجوهها، فنورت الطريق كلها من عابدين إلى منفذ كوبري قصر النيل في الجزيرة بفوانيس من الورق الزاهر الألوان، ونشر عدد عديد من هذه الفوانيس عينها في جميع طرقات البستان الجميل المحيط بتلك السراي البديعة، وبين أغصان أشجاره، وعلى الأخص في البهو الواسع الممتد طول دورها الأرضي، فكان منظر تلك الأنوار، لا سيما بسبب تنسيقها وترتيبها، من ألطف ما تقر له العيون، وتنشرح الصدور.

وامتاز ذلك المرقص بأنهم هيأوا فيه وليمة عظيمة للمدعوين بدلا من المقاصف العادية، فبعد أن ماجت بجموعهم الراقصة، القاعة الفسيحة، حيث كنت ترى الأنوار المختلفة الألوان، المنبعثة عن حلي عقيلات المدعوين تقترن بسطوع أكتافهن ونحورهن العارية، ويمتزج وقار الإسطمبوليات والملابس السوداء بأبهة ملابس كبار الموظفين الرسمية الساطعة الأوسمة، المتحلية بها صدورهم على قصبها وذهبها الوهاجين، وبجلال ملابس الضباط العسكرية، اللامع ذهبها حول وجوه أصحابها، الملفوحة من الشمس في فيافي السودان ومجاهله، أو في مفاوز اليمن، أو في وهاد جزيرة كريت وبين مضايق جبالها، بعد أن ماجت، بجموعهم الراقصة، القاعة الفسيحة، بينما الشيوخ المسلمون من علماء وأعيان وموظفين، اللابسون قفازات بيضاء، والملتحفون بوقارهم ينظرون إلى قصفهم بأعين تستغرب أن يقبل على الرقص الكهول، وتهزأ بهم هزءا ساكتا، بعد أن ماجت بجموعهم الراقصة القاعة الفسيحة، وقد حركت الحركة شهياتهم إلى الأكل، جلسوا حول الموائد الفاخرة الممدودة، حيث أقبل يخدمهم نيف وأربعمائة غلام (جارسون)، ورئيس طهاة (ميتردوتيل).

نامعلوم صفحہ