300

مصر خديوی اسماعیل

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

اصناف

ولكي تدل المظاهر دلالة واضحة على حقيقة النيات أوفد من جهته في السنة عينها بعثة تحت رياسة ماكيلوپ باشا مدير المنارات المصرية، ومعه فديريجو باشا البحري، والضابطان وورد، ولونج، إلى نهر جوبا؛ ليفتح الطريق بين الهند وخط الاستواء، ورافقهم بسبعمائة أسرة سودانية موالية لتقيم على طول طريق الاتصال بين ينابيع النهر العظيم وسواحل المحيط الكبير، وجهز من جهة أخرى في سبتمبر من السنة نفسها حملة مؤلفة من خمسة أورط من المشاة المصريين، وبلوكين من الباشبوزق، وثلاثمائة جمل ومدفعين جبليين، وعدة سواريخ حربية، وعقد لواءها لرءوف باشا الذي كان حاكما على (جندوكورو) حينما وصلها جوردون أول مرة.

أما بعثة ماكيلوپ، فإنها نجحت فيما انتدبت لأجله نجاحا بشر بقرب تحقيق الآمال المعقودة عليه، ولكن مصالح مصر هناك ما لبثت أن تضاربت مع مصالح الزنزبار، واصطدمت بالمصالح البريطانية في عدنه، فهبت إنجلترا إلى الممانعة والمعارضة، وانتهى الأمر بينها وبين الحكومة المصرية على أن بريطانيا تعترف بملكية الخديو لجميع البلاد الواقعة لغاية الدرجة العاشرة، وأن الحكومة المصرية تعتبر جميع الموانئ، ما عدا زيلع، حرة ومفتوحة الباب للاتجار.

وأما حملة رءوف باشا، فإنها احتلت مدينة هرر في 11 أكتوبر سنة 1875، وقبض قائدها على السلطان محمد وقتله خنقا، وقتل معه خمسة وعشرين شيخا من الزعماء؛ ليأمن كل اضطراب في المستقبل، ورفع العلم المصري في سماء تلك الأصقاع السحيقة.

28

وقد استمرت مصر قابضة على زمام الأحكام في تلك البلاد إلى أن كانت الثورة المهدية، ولم يعد في الاستطاعة إبقاء الجنود المصرية فيها، فأخلتها لأهلها في مارس سنة 1884، فآلت إلى الأحباش في عهد الملك منليك.

فزاد انتقال ملكية زيلع وبربرة إلى الخديوية المصرية، واحتلال الجنود المصرية هرر، في مضايقة النجاشي يوحنا ومخاوفه؛ لأنه أصبح يلمس بيده التهديد الصادر عن مصر، ويراه يتناول جهات متعددة حوله .

ولم يكن القوم في العاصمة المصرية، لا سيما المحيطون بالخديو، يخفون مقاصدهم، بل كانوا يجاهرون بها على رءوس الأشهاد، فيتتبعون سير الفتوحات المصرية في الجنوب والغرب والشرق، ويقولون بأعين تتألق فيها نيران الآمال والمطامع: «إن الأمور سائرة على ما يرام، وقد حان وقت الإقدام والعمل، أما وقد اشترينا زيلع واحتللنا هرر، فإن اكتساح الحبشة بات أمرا لازما ولم يعد منه مناص.»

غير أن الأمريكان ما فتئوا يشيرون بالامتناع عن مناوأة الحبشة العداء، والحرص من الاشتباك معها في حرب؛ إما لأنهم لم يكونوا يرون بعين الارتياح حلول الهلال الإسلامي، ولو كان بشير التمدين والعمران، محل الصليب المسيحي، ولو استظل تحت جناحيه التأخر والهمجية، وإما لأنهم كانوا يعتقدون أن مصر عاجزة عن فتح الحبشة، ويعتبرون أن اكتساح قوة مصرية لتلك المملكة ضرب من المحال، وإما لأنهم كانوا يتوقعون أن تؤدي الحرب بين الدولتين الإسلامية والمسيحية إلى تداخل دولة مسيحية غربية - كإنجلترا مثلا - في الأمر تداخلا تكون عاقبته انخذال مصر.

ولكن الراغبين في تلك الحرب من رجال الحزب العسكري المحيطين بالخديو، كانوا يسفهون آراءهم هذه، لا سيما الأخير منها، ويقولون بحق: «إن الدول الغربية اليوم إنما هي في جانب التمدين، لا في جانب التدين، فلا يهمها إسلام أو مسيحية، وإنما يهمها أن يسود العمران المعمور، وتنتشر المدنية بنعمها الشتى فوق ربوع العالم.»

وكانت الأخبار التي تذاع يوميا، تارة عن تعمير مراكب وتجهيزها في مرافئ القلزم، وطورا عن فتح دارفور ورفع الأعلام المصرية على ضفاف نهري السوبط والنيل الأزرق، أو في سماء خط الاستواء، وعلى سواحل المحيط الهندي - تزيد في حماسة القلوب والتهاب الأرواح، وتحمل على توقع إجراء تطلبه النفوس.

نامعلوم صفحہ