مصر خديوی اسماعیل
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
اصناف
أما البحرية، فإنها بعد كارثة ناڨارين التي ذهبت بعمارة (محمد علي) لم تعد إلى بجدتها القديمة أبدا. وبالرغم من أن الباشا العظيم أعاد على يدي سيريزي بك المهندس البحري الفرنساوي الشهير جانبا كبيرا منها إلى الوجود لشعوره بالاحتياج إليها في حروبه مع الدولة العثمانية - والكل يعرف أن (إبراهيم) الهمام توجه بحرا مع جميع أركان حربه إلى يافا ليقابل فيها جيشه الزاحف إلى سوريا عن طريق العريش، وأن معظم المدفعية المصرية التي دكت أسوار عكاء دكا نقلت على ظهور السفن الحربية، وبالرغم من أن (محمد سعيد) تربى تربية بحرية، لتعلق فكر والده العظيم بإعادة بحريته إلى أحسن مما كانت عليه أيام بهجتها وعزها القديمين بعامل اقتناعه بحقيقة قول تميستكل، البطل اللاتيني القديم من أن «البر لمن ملك البحر»، فإن البحرية المصرية إما لأنها كانت بنت العجلة التي لم تدع مجالا ووقتا كافيا لجفاف الأخشاب المستعملة في بنائها، فباتت تلك الأخشاب عرضة للتسوس بسهولة، بفعل المياه والرطوبة، وإما لأن معالم عمارات الدول المتمدينة جمعاء تغيرت بعامل البخار مذ حل في الملاحة محل القلوع، دون أن تتغير معالمها هي، ما فتئت آخذة في الانحطاط، وذاهبة إلى البوار رويدا رويدا، حتى كادت تبيت في خبر كان، في أواخر أيام (سعيد)، ولولا أن هذا الوالي أنشأ أسطولا بخاريا نيليا ليكون دوما تحت طلبه إذا ما احتاج إلى نقل جنوده البرية عليه من جهة إلى أخرى بسرعة في البقاع التي لا سكة حديدية فيها، لصح القول أنه ترك البحرية المصرية لخلفه أثرا بعد عين.
فتناول (إسماعيل) باهتمامه الفائق الأسطول الخشبي غير المدرع، المخلف عن جده، وأقبل يصلح مختله، ويجدد معداته، ويحسن معالمه، حتى جعله سلاحا يعتد به، وعدة يهاب مفعولها.
ثم شرع ينشئ جواري أخرى طبقا لمقتضيات الأيام، فعمر فرقاطتين - إحداهما «اللطيف» صاحبة حادثة الشحط في قناة السويس قبل افتتاحها، والتي احترقت فيما بعد وهي في البحر على بعد 60 ميلا من السويس - وكورڨتتين وسلوپين وأربع مدفعيات، وعشر بريديات، وثلاثة يختات، ومائة وخمسة عشر مركبا شاطئيا.
وأوصى - كما سبق القول - معامل طولون على بناء ثلاث فرقاطات مدرعة، مقدمة لابتناء غيرها إذ آنس عن بنائها سكوتا، ولكنه ما رأى - بعد حادثته مع تركيا بسببها - أن تقوية عمارته قد تدخله في مشاكل كان في غنى عنها ، لنفاذ مشاريعه وبلوغه مراميه، وقد لا يجد تعضيدا من دول الغرب في حلها لمصلحته، وطبقا لرغائبه، إلا وحول بحريته كلها من حربية إلى تجارية، فضمها إلى الباقي من الشركة «العزيزية»، وأنشأ من كلتيهما البحرية الخديوية التي أخذت تسير مراكبها على البحرين الأبيض والمتوسط، وعلى النيل في فصل الشتاء، فأنشأت خدمة أسبوعية بين الإسكندرية والأستانة خصت بها عشرا من سفنها، وخدمة خمسة عشر يومية بين السويس وأقصى الممتلكات المصرية في شرق أفريقيا، على المحيط الهندي، خصت بها عشر سفن أخرى، وخدمة ثالثة، خمسة عشر يومية أيضا، من شهر نوفمبر لغاية شهر مارس على النيل بين القاهرة وأسوان، وبسبب عدم وجود عدد كاف من المصريين الخبيرين في الفنون البحرية استخدم فيها عدد كبير من الأجانب، فكان معظم الربانين وكل رؤساء الدفة منهم، كما أن جميع المهندسين كانوا من الإنجليز.
فلما جعل (إسماعيل) إصلاح جنديته وبحريته في مأمن من الطوارئ، وأوجد عنده الاختيار زمرة من الرجال الأفاضل الذين يركن إليهم في المهمات العلمية الشائقة، أقبل ينفذ أغراضه التوسيعية الرافعة، ودخل بقدم ثابتة في سبيل تحقيق الشطر الثالث من خطته.
ففي سنة 1865 احتلت عساكره المصرية فاشودة احتلالا رسميا، فسدت بذلك طريق النيل الأبيض في وجه أصحاب الزرائب في بحر الغزال وخط الاستواء.
وأصحاب الزرائب تجار - منهم كثيرون أوروبيون - كانوا يذهبون بعصابات مأجورة منهم إلى بلاد (السود)، فيحفرون خنادق يضعون داخلها بضائعهم وأسلحتهم ورجالهم، ويحيطونها بزرائب من شوك، ثم يشرعون في جمع السن والريش، مقايضة بالخرز والحراب والأساور، وغيرها من الأشياء المرغوب فيها في تلك الجهات، ويخزنون ما يجمعونه في زرائبهم، ويبقون على ذلك إلى أن يلقوا فرصة في البلاد، فيهاجمون أهلها ببنادقهم ، فما يسمع السود صوتها إلا ويفرون كالأنعام، مملوئين رعبا وخوفا، فيغنم التجار، ويسبون ويعودون إلى زرائبهم.
وكان التجار الأوروبيون قد باعوا زرائبهم إلى وكلائهم العرب منذ سنة 1860، فوضع جعفر باشا صادق - حاكم السودان السابق ذكره - الضرائب على الزرائب، ثم احتكرها من الحكومة السيد أحمد العقاد، شريك السيد موسى العقاد - وكلاهما من أشهر أصحابه - بخمسة آلاف جنيه في السنة، على أن لا يتجر بالرقيق، ولا يغزو بلاد العبيد، ولكنه لم يف بوعده وتعهده، وما زال رجاله يتجرون بالرقيق، ويغزون العبيد، حتى أصبحت بلاد خط الاستواء وبحر الغزال فوضى، وأهلها في غاية الضيق والشدة.
فرأى (إسماعيل) أنه لا يمكن إصلاح الحال، وإبطال تجارة الرقيق معا، إلا إذا ضم بلاد بحر الغزال وخط الاستواء إلى أملاكه السودانية، فعول على ذلك وبادر إلى تنفيذه. «وانتدب في سنة 1869 السير صموئيل بيكر باشا لتلك المهمة، وكان قد ذهب إلى السودان في أيام موسى باشا حمدي قاصدا اكتشاف منابع النيل الأبيض على نفقته الخاصة، والقيام بمفرده بالعمل الخطير الذي كانت الجمعية الجغرافية الإنجليزية قد أرسلت الرحالتين سبيك وجرانت سنة 1858 لإتمامه عن طريق زنجبار، فاكتشف الرجلان بحيرة ڨكتوريا نيانزا في 28 يولية سنة 1862، وسمياها على اسم ملكتهما، أما بيكر، فإنه فضل الذهاب عن طريق الخرطوم ليستطرد الاكتشاف من جندوكورو بالبر - حيث كانت وصلت في سنة 1841 آخر حملة أرسلها (محمد علي) للوقوف على منابع النيل - وذلك على رجاء أن يلتقي بالرحالتين المذكورين، فيكون نجدة لهما، ويشاركهما في فخار الاكتشاف، فخرج من الخرطوم في 18 ديسمبر سنة 1862 بمركبين كبيرين وذهبية، ومعه خمسة وأربعون رجلا مسلحون بالبنادق، وخمسون من الخدم والبحارة، وتسعة وعشرون من الجمال والخيل والحمير، ومقدار كبير من الحبوب، وبضعة صناديق من أساور النحاس والخرز الملون، الرائجة هناك بدل العملة، فوصل جندوكورو في 2 فبراير سنة 1863 وحط رحاله، وأخذ يتأهب للسفر برا، وإذا بالرحالتين سبيك وجرانت قد أقبلا في 15 منه، فأخبراه باكتشاف بحيرة ڨكتوريا، وأنه لا يزال أمامه بحيرة أخرى ليكتشفها، أخبرهما الأهلون بها. وأعطياه خريطة سيرهما، وجميع ما علماه عنها، ثم استطردا السفر شمالا إلى أوروبا، وسار بيكر جنوبا في البر الشرقي بقصد اكتشاف تلك البحيرة، فأتى عليها في 14 مارس سنة 1864 بعد معاناة مشقات كبيرة وأخطار جمة، لا سيما بسبب تجار الرقيق المنتشرين في تلك البلاد، وقد أتاها أولا من الجنوب، ثم جال فيها بمراكب السود، فأتى شماليها، ورأى مصب النيل الآتي من بحيرة ڨكتوريا، ومخرج النيل الأبيض الذاهب شمالا، وسماها إدوارد نيانزا على اسم ولي عهد بريطانيا العظمى في ذلك الحين، ثم عاد إلى جندوكورو، وسار منها بذهبيته ومركبيه حتى وصل الخرطوم في 3 مايو سنة 1865، فأقام فيها إلى 30 يونية، وخرج منها في ذلك اليوم إلى بربر، فسواكن، فبلاد الإنجليز، فوصلها في أكتوبر سنة 1865.»
17
نامعلوم صفحہ