مصر خديوی اسماعیل
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
اصناف
فلما اكتمل عددهم، وانتظم ذلك العقد الفخم، دوت المدافع من كل جهة، متتابعة الطلقات، مؤذنة، على ذينك الساحلين الإسلاميين، وبالقرب من ربوع توالت عليها وقائع الحروب الصليبية، بأن حادثة جلي، قلما سجلت التواريخ البشرية لها مثيلا أو شبيها، تمت في تلك الساعة، تحت أشعة تلك الشمس الذهبية الساطعة، وأمام عين الإله رب البرية كلها على السواء: ألا وهي حادثة تصافح الشرق والغرب، مصافحة أخوة وسلام؛ وتعانق الصليب والهلال، معانقة احترام ووئام!
ثم قام علماء الإسلام، وشيخهم في مقدمتهم، وأقاموا بالوقار والجلال، المخيمين أبدا على كل مظاهر العبادة الإسلامية، أدعية الشكر والحمد؛ وبعد الفراغ منها، ألقى شيخ الإسلام خطبة وجيزة، رائقة، شائقة، منع ضيق الوقت من ترجمتها لجمهور الحاضرين!
ثم تلا أحبار المسيحية علماء الإسلام، فأنشدوا نشيد الشكر اللاتيني المعروف باسم «التديئم»، المنسوب إلى القديسين أمبروزيس وأغسطينس؛ وشاركهم فيه كل من شاء من الجم المسيحي الحافظ له، وفي مقدمتهم الإمبراطور والإمبراطورة.
ثم تقدم المنسنيور باور، وألقى بصوته الجهوري، وعبارته الفرنساوية البليغة، خطابا جمله الحماسية شعلات عواطف أو شهاب نار فؤادية، أو هتفات قلب طافح حبا للإنسانية، شقت صدره، وانطلقت تدوي في الآفاق، ووجهه إلى الخديو أولا؛ فإلى الإمبراطورة؛ ثم إلى الإمبراطور؛ ثم لم يترك جدارة إلا ومدحها، ولا فضلا إلا وأثنى عليه.
فخص (إسماعيل ) أولا بثنائه، بصفته رب الحفلة، ومنبع ذلك الحبور العام؛ وتغنى بما له من فضل على إنجاز المشروع، ونشر معالم المدنية في قطره، وحفه الأديان كلها برعاية واحدة، رعاية الملك الكريم الذي يراها كلها جديرة بالعطف لإبقائها متماسكة متآخية، ثم خاطب الإمبراطورة أوچيني: فذكر ما وجده المشروع؛ من قوة في لطفها، وتعضيد في موالاتها، وتأييد في عواطفها؛ وما لاقاه في فرنسا، البلد الكريم، الذي هي عاهلته المبجلة، من إقبال، وتشجيع، وشد أزر، ثم خاطب الإمبراطور فرنتز يوسف: فشكره على أنه ما انفك معتقدا في نجاح المشروع، عاملا على غرس حب الإقبال عليه في قلوب رعاياه؛ وذكره بزيارته لبيت المقدس، وقبر المخلص، ليستخلص من ذلك، دعاء له بطول بقائه مجدا في خير الرعية المعهود أمرها إليه، ثم انتقل إلى الكلام عن دي لسبس، الرجل الذي دخل في التاريخ، حيا: فوفاه حقه من المدح والثناء بقدر ما يستطيع فم بشري أن يفعل ذلك، وخص بالذكر من شاركوه في عمله، أولئك الذين قضوا نحبهم شهداء انكبابهم على تحقيق الأمنية الكبرى، فوارتهم الرمال التي كانت بالأمس الصحراء المحرقة، فأصبحت بفضل مجهوداتهم مزارع تذكر الرائي بما كانت عليه أرض غسان في مصر الفراعنة، من اليناعة والخصب، وختم خطبته بنداء وجهه، أولا، للشرق، ثم للغرب، ذاكرا لكل فضائله ومميزاته، وحاضا كلا منهما على عدم فصم عروة، في المستقبل، ربطهما الله بها في ذلك اليوم، المثلث البركات!
فقوبل خطابه بهتاف مستطيل؛ وكان له من القلوب أجمل موقع! ثم شرع في الافتتاح، وانتشر الأقوام يتفرجون على الأعمال العظيمة، التي تمت على يد الشركة، في هذه القناة المزرية بأعمال الفراعنة الغابرين.
ولما كان المساء، وحانت ساعة الطعام، مدت الموائد متتابعة لستة آلاف مدعو، فأكل الكل من أنواع المآكل الفاخرة، وشربوا من الخمور اللذيذة الثمينة، ما لم يخطر على فكر بشر، ولا سمعت بمثله أو رأت نظيره الأجيال؛ حتى إذا دقت الساعة الثامنة، بدت الزينات تجلل شاطئي آسيا وإفريقيا؛ وتجعل الليل ساطعا كنهار جميل، وتجلت «المحروسة» بأنوار، خيل معها للرائين أنها أصبحت شمسا تتألق؛ وأخذت، بين كل دقيقة وأخرى، تطلق قنبلة في الفضاء، تستقبل الموسيقات دويها بعزف شجي؛ ثم ختمت ذلك جميعه بحراقة هائلة، تفجرت في كبد السماء، كأنها بركان، ولكن بركان فرح وجذل وابتهاج، لا بركان ويل وهول وثبور!
وبينما مظاهر كل هذا الهناء والسرور تتوغل في الليل البهيم، فتحوله إلى ليل نعيم لم تحلم بمثله الأحلام، طفقت تنتشر بمصر والإسكندرية، وتهمس في ذات باريس أنباء سوء مدهشة؛ شرع الحساد والأوغاد يروجونها، ليحولوا فرح العالم المتمدين إلى حداد أليم.
فسمع الملأ، وهو مأخوذ، أن الإمبراطورة، لما تحققت أن فتح الترعة للملاحة وهم وخيال وجنين مخيلة مريضة لن يتحول إلى مولود حي أبدا، عادت إلى فرنسا؛ وأن الإمبراطور عاد إلى ترييسته؛ وأن صخرا هائلا، لم يستطع إزالته، قام سادا في وجه السفن؛ وأن حريقا هائلا التهم ستين بيتا بالإسماعيلية فدمرها؛ وأن جمهور المتفرجين - وقد أظهرت لهم الوقائع الراهنة أنهم أتوا من عموم أصقاع العالم ليروا في بساطة قلوبهم، بلدا خلق صناعة لا أمل له في حياة مستقبلة، ومزمعا أن يعود صحراء كما كان - رجع يضرب أسدريه باكيا على خيبة آماله؛ وأن مهندسي الشركة هربوا، وأن دي لسبس فقد رشده، وجن؛ وأن كبير المقاولين، المسيو لاڨاليه، صعق يأسا، فانتحر!
والسبب في رواج هذه الأنباء السيئة، والإشاعات المشئومة، هو أن المسيو دي لسبس رأى أن يجري مقاييس عميقة، في تلك الليلة عينها، لكي يطمئن تمام الاطمئنان على خلو الترعة من كل عائق يعوق الملاحة فيها، من غد، فأمر أن تعمل تلك المقاييس بين كل عشرة أمتار وعشرة؛ لا بين كل مائة متر ومائة، كما كانوا يفعلون في السابق، فكشف نفاذ أوامره عن صخر لم تكن المقاييس الأولى أظهرته، فاتخذ، في الحال، الإجراءات اللازمة لإزالته، وما زال يعالجه حتى فرغ من أمره.
نامعلوم صفحہ