مصر خديوی اسماعیل
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
اصناف
ثم أكب على وضع الترتيبات، وأصدر الأوامر، وتحرير الدعوات التي صمم عليها.
وكان قد أجاب دعوته من عواهل أوروبا كل من لم يحل دون مجيئه حائل، فوعده بالحضور: أوچيني إمبراطورة الفرنساويين؛ وفرنتز يوسف إمبراطور النمسا وملك المجر؛ وفردريك ڨلهلم ولي عهد التاج البروسياني، وقرينته بنت الملكة ڨكتوريا؛ وهنري أمير هولندا، والأميرة قرينته؛ ولويس أميرالهس، ومن لم يتمكن من المجيء، أمر سفيره بالأستانة أن يقوم مقامه، أو انتداب أحد كبار رجال دولته لذلك.
أما السلطان فلم يدع مطلقا، ولا حسن لديه أن يدعو نفسه؛ ولا كلف أحدا من كبار رجال دولته بتمثيله، بل اكتفى بالإيعاز إلى سفير إنجلترا لديه بذكر اسمه لدى فتح الترعة.
على أن ذلك لم يكن كبيرا في عيني (إسماعيل) إلا من وجهه المستحسن، فراق لديه جدا تغيب عبد العزيز؛ لأن وجود السلطان على رأس ذلك الاحتفال كان من شأنه الهبوط بخديو مصر إلى الوراء، وبمصر إلى درجة ولاية عثمانية محضة؛ بينما أن عدم وجوده كان برهانا محسوسا على جلوس الخديو في مصاف الملوك، وعلى استقلال مصر عن تركيا، حتى فيما لها من العلاقات بالدول الأجنبية، لا سيما إزاء بقاء احتجاجات الباب العالي السلف ذكرها، حبرا على ورق.
ولكي يكون العيد عيد العلم، كما هو عيد تلاقي العظمات البشرية، دعا (إسماعيل) جمهورا غفيرا من رجال الأدب والعلم، والفنون، والتجارة الكبرى، والاستغلال الفني، ومراسلي الجرائد الغربية المهمة كلها، بل ذات مراسلي الجرائد التي من الطبقة الثانية والطبقة الثالثة في الأهمية - لما كان للأدب والعلم والصحافة وباقي ما ذكر من رفيع المنزلة لديه.
على أن كثيرين ممن لم يشتهروا في شيء ولم تكن لهم، نسبيا، حيثية ما على الإطلاق، بل كانوا أي فلان من الناس، تمكنوا من حشر أنفسهم في زمرة أولئك الرجال الأكارم: إما لمنزلة شخصية لهم في أعين المدعوين من أرباب الحيثيات؛ وإما لتمكنهم بوسائل متعددة، من الحصول على أوراق دعوة بأسمائهم، ويقال: إن عدد هؤلاء المتطفلين زاد على ثلاثة آلاف.
أما الإمبراطورة أوچيني، فإنها سبقت موعد الاحتفال، وقدمت إلى العاصمة المصرية في الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر، فأنزلها (إسماعيل) في قصر الجزيرة، وقام بشئون ضيافتها، قياما فاق كل ما اعتاده الملوك وأعاظم عواهل العالم من نوعه.
وكان قد ذكر بعضهم أمامه، قبل حضورها، أنه لا بد لها من زيارة الأهرام، وأن الطريق، إلى ذلك الأثر الفرعوني العظيم، لا تزال على ما كانت عليه في عهد زيارة عبد العزيز له، فسرعان ما أمر (إسماعيل) بتمهيدها، وجعلها مسلوكة للعربات وغرسها بأظل أنواع الشجر! وسرعان ما نفذت أوامره، وسخر وزير الأشغال العمومية، ومدير الجيزة الأيدي، بلا انقطاع، في العمل! فأنشئت تلك الطريق في أقل من ستة أسابيع، كأن ملوك الجن قد اشتغلوا فيها وتفننوا، وبات العالم الشيق إلى زيارة الأهرام مدينا بها للإمبراطورة أوچيني؛ كما أن السياح في الأراضي المقدسة مدينون لزيارة غليوم إمبراطور ألمانيا السابق لها بالطريق السلطانية الجميلة الممتدة ما بين حبرون (الخليل) وبيت المقدس - بفرعها الآتي إلى بيت المقدس من عين كارم - ونابلس، والناصرة، وطبرية! لأن عبد الحميد إنما أنشأها لراحته!
وبعد أن قضت أوچيني أسبوعا في مصر، لم تنفك الأعياد والابتهاجات تتوالى فيه تحت قدميها، ساحرة، آخذة بالألباب، على أنواع وبكيفيات لا يزال الشيوخ في عهدنا هذا يتحدثون بها، ويعدونها، في مخيلاتهم الملتهبة، مزرية بذات ابتهاجات الجنة، المعدة للصالحين، قامت للسياحة على النيل، والتفرج في الصعيد على أثار الفراعنة المصريين.
وسافر (إسماعيل) معها، بشخصه، متطوعا في خدمة جلالها الجميل وجمالها الجليل، فحفها بصنوف من الأبهة والفخفخة، ونثر تحت قدميها الملكيتين من أنواع الترف والملاذ، ما لم يقع في خلد ذات (كليوبترا) في أبهى أحلامها الذهبية، وليالي حياتها «العديمة المثيل».
نامعلوم صفحہ