181

مصر خديوی اسماعیل

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

اصناف

فأصدر البرلمان البريطاني قانونا في آخر سنة 1832 حدد بمقتضاه يوم أول أغسطس سنة 1834 لتحرير عموم الأرقاء في دائرة الممتلكات البريطانية؛ وخصص مبلغ عشرين مليونا من الجنيهات لدفع تعويضات منه إلى موالي الأرقاء المحررين.

فما أتى عام 1841 إلا وكانت بريطانيا العظمى قد حررت نيفا واثني عشر مليون رقيق في أملاكها الهندية الشرقية وحدها.

فلم تشأ الدول الأوروبية أن تتأخر عنها في ذلك المضمار الشريف، فأبطلت حكومة السويد الرق في سنة 1846 وسنة 1847؛ وأبطلته حكومتا فرنسا والدانيمرك في سنة 1848؛ وحكومة هولندا في سنة 1862 بدون تعويض لموالي الأرقاء؛ وأبطلته باقي الدول، بالتدريج، حتى إسبانيا نفسها؛ ومع أن الولايات المتحدة الأميريكية قررت إبطال النخاسة منذ سنة 1808 وأصدرت قانونا في سنة 1820 اعتبرتها، بموجبه، ضربا من ضروب القرصنة، فإن مبدأ الرق لم يبطل فيها، تماما، والعمل به لم ينقطع كلية، إلا بعد أن قامت الحرب الأهلية عليه بين ولايات الشمال وولايات الجنوب، وفازت الأولى - وكانت ضد مبدأ الرق - على الثانية المتحيزة له، فأجبرتها على الرضوخ لإرادتها.

ولما لم يعد يبقى من رق في العالم إلا في البلاد الإسلامية، للأسباب التي سبق لنا ذكرها، تحولت مجهودات مبطليه والمطالبين بإبطاله، إلى تلك البلاد؛ وكان قد غاب عن أنظارهم أن الرق في الإسلام غيره في النصرانية، وأن پسكال كان قد قال، منذ نيف ومائتي سنة: «ما هو صواب في هذه الجهة من جبال الپيرنيات قد يكون غلطا في الجهة الأخرى منها!»

فشرعوا يؤلفون الجمعيات لإبطال الرق في الدول الإسلامية، وينتدبون الوفود لمقابلة عواهلها، ومفاتحتهم في هذا الشأن؛ ويحضون دولهم على التداخل في الأمر، ووضع حد «لذلك العار الإنساني الذي لا يطاق».

فحملت الحكومة الإنجليزية السلطان عبد المجيد، بما كان لها عليه من أياد، بسبب تداخلها بينه وبين تابعه (محمد علي)، وإذلالها هذا بين يديه، على وضع فقرة في الفرمان الذي أصدره إليه في سنة 1841 مؤداها: «أن أبطل صيد السود، فإنه عمل لا يتفق مع مبادئ العدالة والإنسانية!»

على أن لا إنجلترا ولا عبد المجيد كانا يقصدان، من مثل هذا القول، حض (محمد علي) على إبطال النخاسة. أما إنجلترا، فإنها، من جهة، كانت تجهل فظاعة النخاسة في السودان - لأن تلك الفظائع لم تعرف في أوروبا إلا بعد رحلات ليڨنجستن، وبيكر، وستانلي؛ ونشر هؤلاء الرحالين الأفاضل البيانات التفصيلية عنها - ولأنها، من جهة أخرى، كانت تشعر بأنه لا يحسن أن يخاطب بإبطال النخاسة أمير مسلم، بينما أن معظم الدول الأوروبية والأميركية المسيحية لا تزال مجيزة لها، وأما عبد المجيد، فلأنه كان يعلم أن إبطال صيد السود يقضي، حتما، بإبطال الخصيان، ولم يكن في وسعه الاستغناء عنهم.

فغاية ما فهمه (محمد علي) من الفقرة التي زيدت في فرمان سنة 1841 هو أن إنجلترا والسلطان يخشيان منه عودا إلى صيد السود لتجنيدهم على غير علم منهما، في جوف البلاد، وأنهما يأبيان عليه ذلك، ولا يبعد أن فهمه كان في محله. غير أنه كان قد صمم تصميما باتا على عدم إعادة الكرة على الدولة العثمانية، وكان قد اختبر، من جهة أخرى، قلة صلاحية السود للجندية في غير السودان، فلم يكن يهمه البتة، قنص السود، لاتخاذ جيش منهم؛ ولا همه، يوما في حياته، اقتناصهم لاسترقاقهم، واتخاذ خصيان منهم. بل كان يهمه، بالعكس، عمار السودان وتقدمه، كما دل سفره إليه في سنة 1839، وزيارته لأبعد أصقاعه، حتى الفازوغلي، بالرغم من أن سنه كانت فوق السبعين؛ وإقامته محطات عسكرية على ضفتي النيل؛ وإنشاؤه مدينة الخرطوم عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق؛ وإعلانه حرية الملاحة على النيل الأبيض؛ وإبطال تجارة الرقيق؛ وكما دل، أيضا، تشجيعه رجال العلم كسپيك، وجرانت، وبلتزوني، وغيرهم، على جوب البلاد واستكشاف أسرارها.

ولكن رجال الحكومة المصرية وموظفيها، في أيامه، وأيام خلفائه الثلاثة الأول، بل في أيام (إسماعيل) ذاتها كانوا يدبرون الغزوات في أعالي النوبة والسودان، ويشنون الغارات على قبائل السود، فيصطادون منها ما يمكنهم صيده، ويبيعونه في أسواق الرقيق بالخرطوم والقاهرة وغيرهما، فيصيبون، من ورائه، أرباحا طائلة.

فحدا ذلك (بسعيد باشا) إلى السفر بنفسه إلى السودان في نوفمبر سنة 1857 بصحبة جيش عدده خمسة آلاف رجل، تخلى عن معظمه حالما جاوز الحدود المصرية، ولم يصطحب منه، إلى بربر، سوى خمسمائة فارس - فقابل في بربر وجهاء البلاد، وأظهر لهم نياته في تحسين أحوال السودان وتشجيع وسائل العمران فيه؛ وأعلن رغبته في إبطال تجارة الرقيق، ثم قام إلى الخرطوم، فبلغها في 10 فبراير سنة 1858؛ وبعد أن أوشك أن يعزم على التخلي عن السودان برمته، ليأسه من إصلاحه، قبل رجاء من رجاه في تغيير عزمه هذا، من الوجهاء، وأمر بإجراء عدة تعديلات إدارية، كجعل كل مديرية مستقلة عن الأخرى، لا ترجع في أحكامها إلا إلى مصر؛ وعدة إصلاحات، كتنظيم البريد بين الخرطوم ومصر على الهجن بطريق كروسكو؛ وكتخفيض الضرائب على الأطيان والسواقي، ومنع الجند من جمعها، وإناطة ذلك بمشايخ البلاد على أن لا يجمعوها إلا بعد الحصاد؛ وكترتيب عقد ناد من الأعيان في الخرطوم، كل سنة، للنظر في راحة البلاد؛ وإنشاء محطة عسكرية على نهر سوبت لمراقبة تجار الرقيق، وقطع دابر النخاسين، ولما عاد إلى مصر، فكر في إنشاء سكة حديدية تجمع بين القطرين، وتسهل مراقبة سير الأحكام واعتدالها، مهما بعدت الشقة، بين الولايات ولكنه لم يتمكن من إبراز فكره هذا إلى حيز الوجود، كما أن إعلانه إبطال الرقيق لم يجد نفعا ولا أفادت المحطة العسكرية على نهر السوبت شيئا؛ لأن البلاد لم تكن ناضجة لإبطاله، ولا راضية به؛ ولأن الحياة الاجتماعية لم تكن لتستغني عنه.

نامعلوم صفحہ