مصر خديوی اسماعیل
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
اصناف
فضرب عنقها؛ وغمس الضابط منديل رأسها في دمها المتدفق، وأرسله في أول ساعات الصباح إلى سليم أغا - هدية دامية من محبوبته إليه - وكان سليم أغا قد قضى ليله كله، هاجسا، فلما ألقي إليه المنديل، علم بأن مأساة وقعت؛ وأن خديجة باتت رهينة القبور!
11
تلك كانت سلطة المديرين ورؤساء الضبط في العاصمتين والثغور؛ وإلى هذا الحد كانت أعمار الناس رهينة إشاراتهم وأهوائهم.
فانتزع (إسماعيل) منهم هذه السلطة، ولئن لم يفصل بين وظائف القضاء والإدارة فصلا تاما إلا في أواخر حكمه، وبعد إنشاء المحاكم المختلطة، إلا أنه من جهة، منع رجال الإدارة من توقيع عقوبات إعدامية لم تصدر بها أحكام؛ وخص رجال القضاء، دون سواهم، بإصدار تلك الأحكام، فكانت النتيجة أن القسوة والفظاعة اللتين اشتهرت بهما عصور الحكم المصري السالفة، إن لم تبطلا في عهده بطلانا تاما، فقد قلتا إلى درجة كادتا تدخلان معها في حيز العدم؛ ومن جهة أخرى، فإن جهوده منذ تبوأ العرش في سبيل إنشاء محاكم نظامية في البلاد، تقبض على كل السلطة القضائية وفروعها فيها - وهي جهود ما فتئ الرأي العام واقفا عليها - أدت إلى تطور فكري في اختصاصات القضاء ووجوب فصله عن الإدارة، لا يزال يتقوى وينضج حتى أيامنا هذه؛ ولو أن تلك الجهود لم تثمر سريعا بسبب مقاومة الدول الغربية، لا سيما فرنسا، لها؛ ولا تمكنت من تكييف ثمرها، التكييف المرغوب فيه، بسبب تلك المقاومة عينها، وسنرى ذلك جليا في الباب الخاص به.
وأما منزليا، فقد عمل (إسماعيل) على تغيير عقلية رعاياه: (أولا) بما أدخله إلى حياتهم البيتية من عادات معيشة غربية، حملت الكثيرين منهم، لا سيما سراتهم، على أن يستبدلوا ما كانوا عليه - كأجدادهم - من طرق جلوس وأكل ونوم واستقبال ضيوف، بطرق جلوس الغربيين وأكلهم ونومهم واستقبالهم لضيوفهم، عملا بالقول المألوف: «إن الناس على دين ملوكهم!»
فإن (إسماعيل) طلق، بتاتا، النظام الشرقي في ذلك جميعه؛ وأقبل يجلس ويأكل وينام ويستقبل ضيوفه، على الطريقة الغربية المحضة. أما جلوسه، فكان دائما على أرائك مرتفعة، فإذا ما شاء الكلام، مدد رجليه على مقعده، حسب عادة الشرقيين، أو نهض وشرع يخطر في الحجرة، ذهابا وإيابا، كجده العظيم، مكثرا من الإشارات اليدوية. أما أكله، فكان على الطريقة الفرنجية البحتة، يدعو إليه، عادة، وزراءه وبعض ضيوف أوربيين؛ ويقدر المدعوون الدعوة جدا؛ لأنه كان لمطبخه شهرة كبيرة في محلها، فالأصناف المقدمة كانت من ألذ المأكولات وأشهاها، وكانت أنبذته من خيرة الخمور الفرنساوية وأشهرها، ولا سيما من النوع المعروف باسم «شاتوايكيم». أما آنية مائدته، فكانت من أفخر ما يكون، مذهبة الحافة تذهيبا خفيفا، ومنقوش عليها حرف «أ» بالذهب الخالص، وكان كثير المحادثة أثناء تناوله الطعام، عملا بالحديث المأثور. على أن محادثته كانت بالفرنساوية دائما، بسبب الضيوف المدعوين إلى مائدته، وكان هو مركز المحادثة؛ لأن وزراءه لم يكونوا - معظمهم - يفهمون الفرنسية إلا قليلا، وكان كلامهم أقل من فهمهم.
12
وأما نومه، فكان دائما على أسرة متخذة من المعادن الثمينة، في حجر يدل رياشها على أنها معدة للنوم، فقط، وأما مقابلاته، فإنها كانت سهلة وبسيطة. يدخل الناس إليها، جماهير، ويجلسون على أرائك، فيحادثهم في مختلف المواضيع ، ويقدم لهم السجاير بدل الشبكات، والقهوة بدل الشربات. على أنه كان يتضايق من المقابلات الرسمية، لا سيما في أخريات أيامه.
لذلك، بعد أن كان الرقاد، في مصر، على طراحات أو على فرش الأرائك، أصبح على أسرة متنوعة، من السرير الحديد إلى السرير البرونز والنحاس الأبيض والأصفر إلى السرير الفضة.
قال إدون دي ليون، بعد أن زار سرايات إسماعيل باشا المفتش، عقب سقوطه: «لاحظت دليلا جديدا على تحول العادات الشرقية إلى المجاري الغربية في هذا القطر، حتى عند الذين لم يتفرنجوا في عقليتهم وأخلاقهم. ذلك الدليل هو إبدال الأرائك بأسرة النوم».
نامعلوم صفحہ