مصر خديوی اسماعیل
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
اصناف
نظر العامة نفسها نظر الإكبار، والإجلال، والتعظيم، إلى بقايا ذلك الماضي الخصيب المجيدة؛ وتحولهم، شيئا فشيئا عن شعور الاحتقار، الذي كان متأصلا في قلوبهم لأهل تلك العصور، المدعوة عندهم «كفرية» لرغبتهم في الدلالة على مبلغ ازدرائهم إياها.
غير أن هذا التحول كان بطيئا؛ وكثيرا ما كان يقع للعملة أنفسهم المشتغلين تحت إدارة مارييت باشا أن يبدوا امتنانهم لنفس بقايا من كانوا ملوك أجدادهم في سالف الأيام.
فيروى من هذا القبيل أن مارييت باشا لما عثر على مومياء الفرعون «مري إن را» من الأسرة السادسة، في جهة إهرام دهشور، كلف بعض أولئك العملة بنقلها إلى متحف بولاق؛ ولما كان لا بد لهم من الذهاب بها، في بادئ الأمر، إلى البدرشين، لاستقلال القطار الحديدي في محطتها، لم يجدوا طريقة لاجتياز المسافة بين المكانين خيرا من وضع جثة ذلك الفرعون على ظهر حمار، عرضا، وسوق الحيوان بها، وأطرافها متدلية من كلا جانبيه بشكل مهين - ولما بلغوا بها محطة البدرشين، وأرادوا أن «يخلصوا» عليها، ليسافروا بها إلى بولاق، وقع ناظر تلك المحطة في حيرة عميقة؛ لأنه لم يكن قد سمع بكلمة «مومياء» في عمره؛ فلم يعرف ما هي حينما سموها له، ولم يجد لها تسعيرة، بل ولا ذكرا ضمن الأشياء التي تشحن الواردة في تعريفته. أخيرا قطع لهم جميعا تذاكر في الدرجة الأولى، واعتبر مومياهم فردا منهم، فلما وصل بها حاملوها إلى كوبري بولاق وأرادوا أن يجتازوه بها أوقفهم رجال الدخولية، ليحصلوا منهم رسما عليها، ولكنهم لم يدروا ما هي، ولا في أي صنف من الأصناف تقع؛ حتى فتح الله على أحدهم، فقال: «ألا ترون أنها فسيخة؟» فقال رفاقه: «حقا! هي فسيخة!» وأخذوا عليها مكس فسيخة.
21
فلتنفخ العظمة البشرية، أية كانت بعد ذا، أوداجها! فما أحراها بالدرس الذي ألقاه المسيو ماسبيرو خلف مارييت باشا على الأمير الألماني الصغير والمتغطرس غطرسة إمبراطورية، افتخارا يحسبه البالغ من السن حوالي المائة والخمسين عاما، أمام موميا ذلك الفرعون الراقدة عليها آلاف السنين! إذ قص عليه ما أصابها من امتهان، لا في بلاد غريبة، يعذر فيها الناس على جهلهم إياها، بل في البلاد ذاتها، التي كان صاحبها حاكمها المطلق، حيث كانت الحياة تعنو لجلاله؛ والقلوب، قبل الأبصار، توجف خشوعا لهيبته؛ والركب تخر أمامه ساجدة! وعلى أيدي أحقر الملأ من سلالة أولئك الخاشعين الساجدين!
وربما كان للخنزير الذي كان أليف مارييت باشا في مسكنه بصحراء سقارة ودهشور دخل في بطء سير التحول عن احتقار العصور الفرعونية «الجاهلية» في نفوس مجاوريه وفعلته، فإنه كان من شأن ذلك الحيوان «النجس» في عرفهم أن يحملهم على الاشمئزاز، وعلى مزج صاحبه ومواضيع بحثه في عاطفة النفور عينها التي كانت توجبها نجاسته، لا سيما، بعد أن وقع له، يوما، شديد القيظ، أنه خرج يلتمس فيئا؛ فسارت به قدماه إلى رحبة مسجد مجاور، فرأى فيه «الميضا»؛ فحسن لديه الاستحمام فيها، فخاضها بلذة، وأبطأ في التمتع ببرودتها اللطيفة، حتى جاء المصلون، ساعة العصر، ليتوضأوا؛ فوجدوه منفردا بمياهها، فحملوا عليه حملة منكرة، وأخرجوه مهينا مضروبا، واضطر مارييت إلى نقض بناء تلك «الميضا» لأنها نجست، وإعادته ثانية، بحجارة غير التي احتك فيها خنزيره الأليف.
22
وكان من لطائف ذلك الخنزير، أيضا، أن لوردا إنجليزيا ذهب، مرة، مع اللادي قرينته، لزيارة مارييت باشا في مقامه الصحراوي؛ فأمسكهم على الغداء، فما جلسوا على المائدة إلا وأتى الخنزير، كأنه كلب ظريف، وأخذ يحتك بالجالسين، طالبا منهم نصيبه في الطعام، فثارت عوامل الاشمئزاز العميق في صدر اللادي، وأبدت استغرابها من «أن رجلا كمارييت يتخذ مثل ذلك الحيوان القذر أليفا له، دون غيره من الحيوانات الجديرة بذلك»، ولإظهار اشمئزازها، عمليا، غرست أسنة شكوها في ظهر ذلك المسكين، فما كان منه إلا أنه دخل تحت المائدة، وصدمها بظهره، فقلبها بصحونها وطعامها على حضرة اللادي، فأتلف لها ملابسها.
23
وبلغ من غيره مارييت باشا على ادخار الآثار الفرعونية واكتنازها، والضن بها على غير المتحف الذي أنشأه، أنه استصدر من الحكومة المصرية أمرا ساميا يحظر تحظيرا باتا، التنقيب عليها وبيع أي شيء كان منها إلى الأجانب؛ ونقل أي أثر يكون من مكانه، إلا بمعرفة رجال الآثار؛ وتصدير أي بقية من بقايا الماضي بمصر إلى أي قطر من الأقطار الخارجية - وكان نهب الآثار القديمة، قبل ذلك، مباحا: فملأ بها سارقوها المتاحف الغربية الكبرى - فضمن بذلك بقاء الكنوز المصرية التاريخية لمصر والمصريين، دون سواهم؛ ولم يعد في استطاعة أحد أن يزين ببعض منها غير المتحف المصري، والميادين المصرية، إلا تهريبا وتحايلا. كما وقع للكونت لپيك وهو في الصعيد، فإن بعضهم عرض عليه مشتري موميا في سركوفاچها، كان قد عثر عليها، بدون اطلاع رجال الآثار، في أحد مدافن الملوك، التي كانت لا تزال تحت التنقيب، فتعرفها لپيك من الرسومات التي عليها، ولإدراكه قيمتها التاريخية، اشتراها بثمن جيد، ولكن الصعوبة كلها كانت في التمكن من تصديرها إلى فرنسا، مع تيقظ عيني مارييت ولا كأنهما أعين (أرجس ) حارس بستان (الهسپريد) في الميثولوچيا اليونانية، وزادت تلك الصعوبة، بعد أن فشا خبر المشتري وبلغ أذني «الأجرس» المصري، وصدرت أوامره إلى ذوي الشأن بمديرية قنا، بمنع لپيك - ولو أنه فرنساوي مثله - من مقتناه، وإعادة الثمن الذي دفعه به إليه - وكان عشرين ألف فرنك، على ما أظن - وإرسال الموميا بسركوفاچها إلى المتحف، فعمد لپيك إلى من صنع له سركوفاچا كالذي فيه الموميا، برسوماته وألوانه، ولو أنها غير متقنة، ووضع فيه جذع شجرة، وسمر عليه غطاءه، ثم سلمه - كأنه يصدع بالأمر، ومقابل إعادة العشرين ألف فرنك إليه - إلى رجال السلطة في المديرية - وكانوا من الجهل في ذلك الموضوع بمكان عظيم - ورجاهم، فقط، ألا يرسلوه إلا بصحبته، حينما يئوب إلى مصر، عساه أن يتمكن من نيل تصريح من الحكومة المصرية بتصديره إلى فرنسا، فوعدوه - وكان هو في الأثناء قد سفر، سرا، السركوفاچ والموميا الحقيقيين إلى القصير، برا، ومنها إلى السويس، بحرا، فإلى بورسعيد ومرسيليا - فلما تيقن أن ما اقتناه أصبح في فرنسا، قام من الأقصر إلى مصر، ومعه السركوفاچ الكاذب، فاستلمه مارييت أمامه، مبتهجا، ولكن نظره ما لبث أن وقع على غطائه، إلا وقطب حاجبيه؛ لأن عينه الخبيرة أدركت التقليد، حالا، ففتح السركوفاچ بيد مضطربة، وإذا به يرى جذع الشجرة داخله بدل جثة محنطة! فالتفت إلى لپيك وعوامل الاستغراب والغيظ والاستهزاء تتناوبه، وهو لا يدري أيها يبدي، فقابل لپيك نظره بقهقهة ضحك عالية؛ وقال: «لم يعد، يا صديقي، من وسيلة، سوى أني أرد إليك العشرين ألف فرنك التي دفعت إلي؛ فهاكها؛ لأن ما اشتري بها، حقا، أصبح في فرنسا!» فأدرك مارييت أن مواطنه ضحك عليه، ولما كان ممن يستطعمون ملح السخرية الظريفة أكثر مما تستفزهم السخرية إلى الغضب، انضم إلى لپيك في ضحكه، وانقضى الأمر بينهما على سلام!
نامعلوم صفحہ