مصر في مطلع القرن التاسع عشر
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
اصناف
ثم إن حاكم الإسكندرية أحمد خورشيد لم يلبث أن عقد مع القناصل اجتماعا حوالي 4 مايو، قرروا فيه قطع المواصلات مع القاهرة، وذلك بتحطيم الجسور عند بحيرة المعدية والسد، وحراسة الممرات والمسالك المؤدية إلى المدينة؛ خوفا من أن ينتهز المماليك فرصة الاضطرابات الناجمة عن الانقلاب الأخير، فيغيرون عليها.
ومما يجدر ذكره أن خورشيد باشا عند بداية الحوادث التي انتهت بفرار خسرو من القاهرة كان قد غادر الإسكندرية متجها صوب القاهرة، حتى يرقب - عن كثب - تطورها، فكان قريبا من بولاق عند خروج خسرو في 2 مايو، وأسرع بالعودة إلى الإسكندرية مع أتباعه، عندما تبين له أن زمام الأمور قد أصبح في يد طاهر باشا، وكان أول عمل له بالاشتراك مع قناصل الدول ومع أمير البحر العثماني في مياه الإسكندرية، تعزيز الدفاع عن المدينة بإقامة البطاريات في كل مكان، وقطع كل اتصال مع رشيد.
ثم أخيرا عقد ذلك الاجتماع الذي تحدثنا عنه والذي تقرر فيه قفل المواصلات مع القاهرة، فصارت القاهرة معزولة عن الإسكندرية، إلى جانب عزلتها عن سائر أقاليم الوجه البحري والصعيد، الوجه البحري بسبب نشاط خسرو باشا خصوصا وقتئذ (مايو)، والصعيد بسبب ما كان للبكوات من سيطرة في تلك الأقاليم، وهكذا كتب «مسيت» من القاهرة إلى حكومته في 14 مايو؛ أي بعد أقل من أسبوعين من إعلان القائمقامية الجديدة، «إن حكومة طاهر باشا لا تتعدى القاهرة ومساحة بسيطة من الأرض حولها.»
على أن «مسيت» قال كذلك في رسالته هذه: «إن طاهر باشا لا يمكنه بحال أن يدعي - إلى جانب ما تقدم - أنه يتمتع بسيطرة وسلطة كاملتين داخل أسوار القاهرة ذاتها»؛ وذلك لأن طاهرا لم يلبث أن واجهته نفس الصعوبات التي واجهت خسرو من قبل والتي كان مبعثها - في واقع الأمر - خلو الخزانة من المال، وكان طاهر في حاجة ملحة إلى المال لسد نفقات الإدارة وهي نفقات متزايدة بسبب الظروف الاستثنائية التي اقترنت بالانقلاب الأخير، ثم لدفع مرتبات الجند، وللإنفاق على التجريدة التي أعدها بقيادة أخيه حسن بك لمطاردة خسرو باشا .
وقد بدأت هذه سيرها في النيل من بولاق وفي البر كذلك منذ 18 مايو، فاشتط طاهر في طلب المال، وفرض المغارم على أنصار خسرو باشا وعلى رأسهم السيد أحمد المحروقي كبير التجار، وكان هذا قد حاول مع ابنه الهرب مع خسرو، فلحق به الأرنئود وأرجعوه قسرا بعد أن «عروه وشلحوه هو وأتباعه وابنه، وأخذوا منهم نحو عشرين ألف دينار».
ثم فرض طاهر باشا علي المحروقي بعد ذلك ستمائة كيس بعد أن تشفع له المشايخ، وأخرج طاهر عنه، وكان قد حبسه في القلعة مع نفر من أنصار خسرو وهم: أغاة الإنكشارية ومصطفى كتخدا الرزاز كتخدا العزب ومصطفى أغا الوكيل وأيوب كتخدا الفلاح وأحمد كتخدا علي باش اختيار الإنكشارية كما أن «طاهرا» سرعان ما تشاجر مع الشيخ السادات، وكان الشيخ قد تشفع في أحد المقبوض عليهم وهو «مصطفى أغا الوكيل» فنكث طاهر بعهده بدعوى مصادرة مكاتبة من خسرو إليه وأنزله من بيت الشيخ، ولكنه أمام غضب السادات وافق على أن لا يقتله ولا يطلقه.
وفرض طاهر باشا على مصطفى أغا مائتين وعشرين كيسا، واستمر طاهر في مظالمه، فسجن في 13 مايو «يوسف بك» كتخدا خسرو باشا وألزمه بدفع غرامة كبيرة، وفي 15 مايو «قبضوا على أنفار من الوجاقلية أيضا المستورين وطلبوا منهم دراهم، وعملوا على طائفة القبط الكتبة خمسمائة كيس بالتوزيع»، وفي 17 مايو «قبضوا على جماعة منهم وحبسوهم، وكذلك عملوا على طائفة اليهود مائة كيس»، وفي 19 مايو «قبضوا على المعلم ملطي القبطي من أعيان كتبة القبط وفرموا رقبته عند باب زويلة، وكذلك قطعوا رأس المعلم حنا الصبحاني أخي يوسف الصبحاني - من تجار الشوام - عند باب الخرق».
وفي 22 مايو أفرج عن يوسف بك بعد أن دفع ثمانين كيسا، ونزل من القلعة إلى داره، وفي ليلة 25-26 مايو خنقوا - بالقلعة - أحمد كتخدا علي ومصطفى كتخدا الرزاز.
وهكذا كانت قائمقامية طاهر باشا سلسلة من حوادث الفتك والمظالم، وبلغ من اضطراب الأحوال، وضعف سلطان الباشا بالرغم من أعمال المصادرة والحبس والقتل، أن القاهرة ذاتها خضعت لسلطة رئيس الجند الأرنئود المباشر الذي قال عنه «مسيت» إنه صار يفرض الإتاوات على الأهلين باسمه «ويدعي لنفسه درجة مساوية للباشا ومنفصلة عن درجة الباشا نفسه.»
وكان اعتماد طاهر باشا الظاهر في دعم أركان قائمقاميته على الأجناد الأرنئود الذين تم الانقلاب بزعامته على أيديهم، فآثرهم على الإنكشارية، وكان جماعة من هؤلاء قد جاءوا إلى القاهرة منذ 23 أبريل، قبل الانقلاب الذي طوح بحكومة خسرو باشا، وكانوا في طريقهم إلى جدة بسبب فتنة «الوهابيين» في الحجاز، ومع أن هؤلاء ظلوا ساكنين هادئين في المكان الذي أنزلوا فيه بجامع الظاهر خارج الحسينية، «وحصلت كائنة محمد باشا خسرو وهم مقيمون على ما هم عليه»، ولم يشتركوا في حوادثها، فقد اعتبرهم طاهر باشا من جماعة خسرو وأنصاره؛ لأن الأخير من العثمانلي الذين يعتمدون على الإنكشارية «فخذ السلطنة».
نامعلوم صفحہ