مصر في مطلع القرن التاسع عشر
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
اصناف
وكان مراد وإبراهيم وأتباعهما قد غادروا أماكنهم بالصعيد، وتقدموا صوب القاهرة حتى وصلوا إلى حلوان في أوائل يوليو، وأشاروا على المشايخ بالحضور إليهم وزيارتهم؛ كي يشاع عند الأخصام أن الرعية والمشايخ معهم. وبدأ دخولهم القاهرة في 22 يوليو، واستقروا بها، وأعاد إبراهيم ومراد، وبخاصة الأخير، سيرتهما السيئة في ظلم الرعية، وبذل المشايخ قصارى الجهد لردعهما وأتباعهما، حتى حدث في يونيو 1795، أن اعتدى محمد بك الألفي (الكبير) على أهل قرية بشرقية بلبيس، كان للشيخ عبد الله الشرقاوي حصة فيها، فاستغاث هؤلاء به، ولما لم يفد توسط الشيخ لدى إبراهيم ومراد في رفع الظلم عنهم، أثارها ضجة كبيرة في وجه الطاغيتين، وألب عليهما المشايخ والأهلين، وخرجت المسألة من مجرد المطالبة بوقف اعتداءات محمد بك الألفي إلى التمسك بضرورة رفع المظالم عن الأهلين عامة، والسير بالعدل في حكم الرعية وتأمينهم على أرواحهم وأموالهم، فقفل المشايخ أبواب الجامع الأزهر وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت، ثم «ركبوا ... واجتمع عليهم خلق كثير من العامة، وتبعوهم وذهبوا إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة، بحيث يراهم إبراهيم بك، وقد بلغه اجتماعهم، فبعث من قبله أيوب بك الدفتردار، فحضر إليهم، وسلم عليهم، ووقف بين يديهم، وسألهم عن مرادهم، فقالوا له: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها، فقال: لا يمكن الإجابة إلى هذا كله، فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات، فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس ، وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك؟ والأمير يكون أميرا بالإعطاء لا بالأخذ، فقال: حتى أبلغ»، وانصرف، وتفاقم الحال عندما لم يصل المشايخ جواب، وقصد المشايخ إلى الأزهر؛ حيث باتوا فيه ليلتهم، وقد اجتمع عليهم خلق كثير، وخشي إبراهيم بك من العاقبة، فأرسل إلى المشايخ «يعضدهم ويقول لهم أنا معكم، وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي»، وراح يخيف مراد بك من نتائج هذه الحركة، فبعث مراد يقول: «أجيبكم على جميع ما ذكرتموه إلا شيئين: ديوان بولاق، وطلبكم المنكسر من الجامكية، ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم، وندفع لكم جامكية سنة تاريخه أثلاثا.» ثم إن مرادا طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم فذهبوا إلى الجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح على ما ذكر، وفي اليوم الثالث من بداية هذه الحوادث، حضر صالح باشا القيصرلي - الباشا العثماني - إلى منزل إبراهيم بك، واجتمع البكوات وحضر من المشايخ: محمد السادات، وعمر مكرم (وقد صار نقيبا للأشراف) والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري (الذي تولى سجادة الخلافة البكيرية بعد وفاة ابن خاله السيد محمد البكري الصغير في نوفمبر 1793)، والشيخ محمد الأمير، وقد منع هؤلاء العامة من السعي خلفهم. ودار الكلام، وطال الحديث «وانحط الأمر على أن البكوات تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسا موزعة، وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين، ويصرفوا غلال الشون وأموال الرزق، ويبطلوا رفع المظالم المحدثة والكشوفيات، والتفاريد والمكوس، ما عدا ديوان بولاق، وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس، ويرسلوا صرة الحرمين، والعوائد المقررة من قديم الزمان، ويسيروا في الناس سيرة حسنة.
وكان القاضي حاضرا بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، وفرمن عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها أيضا، وانجلت الفتنة، ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة، وهم ينادون: حسب ما رسم سادتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية.
وفرح الناس ، وظنوا صحته، وفتحت الأسواق، وسكن الحال على ذلك نحو شهر، ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة، ونزل عقيب ذلك مراد بك إلى دمياط، وضرب عليها الضرائب العظيمة، وغير ذلك.»
ووجه الأهمية في الحوادث التي ذكرناها، أن المشايخ قد قاموا بدور الوساطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة على خير وجه، وبالقدر الذي استطاعوه، أهلهم لهذه الوساطة، ما اشتهر عن سوادهم من ورع وصلاح وتقوى، وانصراف عن الدنيا، حبب الشعب فيهم، ورفع مكانتهم لدى الباشا العثماني، والبكوات المماليك، ثم جور هؤلاء الأخيرين بالرعية وعسفهم بهم.
على أنه مما يجدر ذكره من ناحية أخرى، أن هذه الوساطة كانت ذا أثر محدود، أفلحت في قضاء بعض حوائج الأهلين، ورفعت شيئا من المظالم عنهم، ولكنها لم تنجح في ردع البكوات وأتباعهم، أو إلزامهم بإقامة الحكومة العادلة الطيبة، فظل البكوات سادرين في غوايتهم، ولم تفد شيئا من هذه الناحية وعودهم وارتباطاتهم، لرفع المظالم، والرفق بالرعية، ولم يكن لتلك الحجة التي كتبت عليهم بذلك في يونيو 1795 أي أثر، بل اشتد بغي البكوات وعظم طغيانهم في السنوات الثلاثة التالية، حتى إن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، لم يجد فيما وقع من الحوادث في عام 1210 / 1795-1796 - والتي يعتني بتقييدها - سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء؛ أي البكوات المماليك، والمظالم، أو في العام التالي (1211ه/1797-1798) كذلك سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل، وموجبات ترادف البلاء المتراسل، وظل طغيان البكوات على أشده حتى جاء بونابرت بحملته المعروفة فقوض عروش سلطانهم. (2) اضمحلال نفوذ المشايخ
وقد فطن بونابرت إلى أهمية دور الوساطة الذي قام به المشايخ في العهد السالف، فعول على الاعتماد عليهم في تنفيذ سياسته (الإسلامية-الوطنية )؛ لإقناع الشعب بالرضى بالحكم الفرنسي، والإخلاد إلى السكينة وعدم المقاومة، والرضوخ لسلطان بونابرت، والتعرف بواسطتهم على آراء ومطالب الشعب من جهة، ثم الاستعانة بهم من جهة أخرى على إيجاز المشروعات التي يرى الفرنسيون ضرورة إنجازها، فكان المشايخ والعلماء العنصر البارز في الدواوين التي تشكلت على أيام الحملة الفرنسية.
وكان هذا الحكم الأجنبي تجربة جديدة، امتحن المشايخ في أثنائها امتحانا عسيرا، فكان هناك فريق آثر الهجرة إلى خارج البلاد، أو مغادرة القاهرة إلى الريف أو إلى الصعيد، أو الانزواء بعيدا عن الحوادث، منصرفين إلى القراءة والتدريس بالمساجد، كالشيخ شامل أحمد بن رمضان بن سعود الطرابلسي الذي هاجر إلى بيت المقدس، والشيخ محمد الحريري الذي ذهب إلى أسيوط، ثم كان هناك فريق اشترك في حركات المقاومة الفعلية، كالشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ إسماعيل البراوي، وقد اتهم هؤلاء في إثارة الفتنة في ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر 1798، وقد أعدمهم الفرنسيون، ثم الشيخ محمد بن الجوهري وطائفة من المشايخ الذين اشتركوا مع السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي (شاه بندر التجار) في ثورة القاهرة الثانية في مارس وأبريل 1800، وقد اختفى عقبها الشيخ الجوهري. ثم كان هناك فريق من كبار المشايخ والمتصدرين، وهم الذين شكل الفرنسيون منهم دواوينهم، المشايخ: مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي وعبد الله الشرقاوي وخليل البكري ومحمد المهدي، وموسى السرسي وأحمد الويشي ومصطفى الدمنهوري ويوسف الشبرخيتي، ومحمد الدواخلي والسيد علي الرشيدي (نسيب الجنرال منو) وإسماعيل الزرقاني، وإسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب، وعبد الرحمن الجبرتي صاحب «عجائب الآثار».
وقد اعتقد هؤلاء أن من الخير مداراة الفرنسيين ومسايرتهم، لعلهم يستطيعون الاستمرار في دور الوساطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، والشفاعة للأهلين عقب حوادث الثورات والفتن، ثم لم تلبث جماعة منهم أن وجدت في هذه الأوضاع الجديدة فرصة مواتية لكسب النفوذ، واستغلال هذا النفوذ لصالحهم الشخصي، فدأبوا على مداهنة الفرنسيين وتملقهم، والاعتماد على صداقتهم لهؤلاء في جمع الثروة وبسط نفوذهم وسلطانهم على أبناء أمتهم، ولم يفت سواد الشعب ما كان يبغيه هؤلاء المشايخ المتصدرون ويسعون إليه، فشهدت هذه الفترة - فترة الاحتلال الفرنسي للبلاد - تحولا ملموسا في موقف الشعب من المشايخ، وبخاصة المتصدرون منهم، كما شهدت بداية التغير الذي طرأ على أساليب عيشهم، وجعلهم ينصرفون عن الدين والعبادة والوعظ والإرشاد، ويتهافتون على الدنيا وعرضها الزائل، مما كان من أثره جميعا أن طفق المشايخ يفقدون رويدا رويدا ما كان لهم من زعامة روحية سابقة.
حقيقة ظل هؤلاء المتصدرون، يتوسطون ويشفعون، ولكن شتان ما بين وساطتهم وشفاعتهم في الزمن السابق، على أيام أحمد الدردير أو علي الصعيدي أو ابن النقيب أو الحفني، وبين وساطة وشفاعة محمد المهدي أو سليمان الفيومي أو خليل البكري، وكانت هذه متخاذلة، لا يأبه الفرنسيون لها، ولا يجيبون شيئا منها اللهم فيما كان يتفق منها ومصالحهم هم أنفسهم فحسب، وقبل أي اعتبار آخر، بل إن الفرنسيين ما كانوا يترددون في تعويق المشايخ الذين اشتهروا بمداراتهم وصداقتهم لهم، وإساءة معاملتهم عند كل مناسبة يقتضي حرصهم على سلامتهم وأمنهم أن يفعلوا ذلك، كما حدث من فرض الغرامات عليهم عقب ثورة القاهرة الثانية، أو تعويق أكثر أعضاء الديوان بالقلعة، وحبسهم مع غيرهم من المشايخ وقت تضييق الإنجليز والعثمانيين الحصار على القائد الفرنسي «بليار»
Belliard
نامعلوم صفحہ