304

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

الحكومة الموطدة

إقصاء المشايخ

تمهيد

كان من مقتضيات الانفراد بالسلطة، حرمان المشايخ من ذلك النفوذ الذي كان لهم بين الأهلين، في الزمن الماضي، والذي أرادوا أن يبنوا عليه - بالرغم من وهنه الآن، بل زواله - زعامة في وسعها الاجتراء على معارضة الباشا ومقاومته، وكان خليقا بهؤلاء المشايخ أن يفشلوا فيما ابتغوه، لأسباب مردها إلى طبيعة هذا النفوذ نفسه، الذي تولد في بيئة هيأت له القالب الذي أفرغ فيه، وحددت له المدى الذي ما كان يقدر على تجاوزه، فعجز هذا النفوذ عن سعة ما عمل المشايخ لإدخاله في دائرته الضيقة المحدودة، وذلك في وقت كان قد أصبح فيه الزمان غير الزمان، فاستبدلت بفوضى تشتت السلطة السالفة، حكومة توفر لها الاستقرار في وجه كل العقبات التي صادفتها في الداخل، أو الأخطار التي أتتها من الخارج، وتربع في دستها عاهل وجد لزاما عليه أن يجمع أسباب السلطة في يده هو وحده؛ كي يمهد لنقل باشوية مصر من مجرد مقاطعة عادية من أملاك الدولة العثمانية إلى باشوية وراثية، ناهيك بما طرأ على المشايخ أنفسهم من تبدل وتغير، جرد سوادهم من صفات الورع والتقوى والزهد في الدنيا، والاشتغال بأمور الدين الحنيف، وهي الصفات التي أوجدت نفوذهم في الزمن السابق، فصاروا الآن يؤثرون الدنيا على الآخرة، ويتنافسون على أماكن الزعامة والصدارة، السبيل الظاهر للتمتع بلذائذ الحياة، ولبلوغ الجاه والسلطان بين أقوامهم. وكان من جراء التكالب على هذه العروض الزائلة، أن دبت الخلافات والانقسامات بينهم، وذهبت ريحهم، وفقدوا إيمان الأهلين القديم بزعامتهم، واحترامهم لهم، ونزلت أقدارهم في أعين السلطات القائمة، وضاع المسوغ الذي كان لنفوذهم السابق، وسهل القضاء عليهم. (1) الأصل في نفوذ المشايخ

وكان مبعث زعامة المشايخ القديمة، الترتيب الذي وضعه العثمانيون لحكومة هذه البلاد منذ أن افتتحوها في القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي، وهو ترتيب مكن البكوات المماليك من الظفر بالسلطة الفعلية، بينما بقي للسلطان العثماني في آخر الأمر السيادة الرسمية فحسب، ممثلة في عماله وضباطه وعلى رأسهم الباشا الذي كان لا حول له ولا طول أمام طغيان العسكريين رؤساء الحاميات العثمانية من جهة، والبكوات المماليك من جهة أخرى. وكان على المصريين وحدهم أن وقعت ويلات هذا الترتيب، وقد ظلوا يتذوقون مرارته أجيالا طويلة.

ولما كان العثمانيون والبكوات المماليك - إلا من ندر من بينهم - يجهلون لغة البلاد. ومنعت الأوضاع اتصال المحكومين بالهيئات الحاكمة، فلم يكن للأهلين من ملجأ يلجئون إليه في نكباتهم سوى مشايخهم وفقهائهم، يناشدونهم المعاونة في تخفيف نكبتهم، ويرجونهم التوسط والشفاعة لدى البكوات لرفع المظالم عنهم، واستطاع المشايخ والفقهاء في حالات عديدة إسداء هذه المعونة، وكان لهؤلاء في ذلك العهد الغابر مكانة مرموقة لدى الهيئات الحاكمة لاشتغالهم بالدين دون سواه، واشتهارهم بالصلاح، ولظفرهم بمحبة الشعب واحترامه العظيم لهم، وهم الذين قاموا آنئذ بوظائفهم خير قيام، من حيث قراءة صحيح البخاري في الجوامع عند حدوث الملمات، والتوفر على البحث والدراسة، وتلقين الأهلين أصول العبادة والدين الحنيف في البنادر والقرى، والتدريس في الجامع الأزهر، والجوامع الأخرى الهامة في دسوق وطنطا والإسكندرية وغيرها، فتمتعوا بنفوذ روحي كبير على سواد الأهلين، وارتفعت مكانة هؤلاء المشايخ والفقهاء من ناحية أخرى؛ لأن البكوات المماليك نزعت نفوسهم إلى تبجيل العلماء وأهل الصلاح والتقوى، عادة الطوائف والجماعات التي لجهلها بقواعد الدين الصحيح وإهمالها لها تحرص على الاحتفاظ بمظاهر التمسك بالدين، ومن أولى هذه، إضفاء الاحترام والتبجيل على رجاله، ومن دلائل هذا الاحترام - ولا شك - قبول وساطة المشايخ والعلماء وشفاعتهم، ثم إن البكوات ما لبثوا أن وجدوا في ارتفاع مكانة المشايخ وازدياد نفوذهم الروحي بين الشعب، وما يتيح لهم استخدام هؤلاء كحلقة اتصال بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة.

ولا جدال في أن المشايخ قد أفادوا فائدة كبيرة من هذا التطور الذي حدث نتيجة لالتفاف الأهلين حولهم وتوسيطهم لدى الهيئات الحاكمة من جهة، ولتبجيل الهيئات الحاكمة، وعلى الأخص البكوات المماليك لهم، ثم توسيط هؤلاء كذلك لهم لدى الشعب؛ لمؤازرتهم في اجتياز الأزمات التي تعرضوا لها من جهة أخرى، فصارت لهم الجرأة عند اشتداد الخطوب بالأهلين على أيدي البكوات أن ينذروا ويتوعدوا البكوات، بل ويتهددونهم بتأليب الرعية عليهم إذا بدا منهم إهمال لنصحهم أو أبوا الاستماع لوساطتهم وشفاعتهم، وكسب المشايخ والعلماء من هذا الوضع مزايا عديدة، لعل أهمها عدم مساس السلطات الحاكمة المملوكية والعثمانية بنظام الوقف، أو الأوقاف التي حبست للإنفاق من ريعها على المساجد والسبل، ووجوه البر والصدقات، والمدارس وما إلى ذلك، وكان المشايخ أنفسهم هم المنتظرون على كثير من هذه الأوقاف، كما كانت هذه مصدر عيش لعديدين من الأهلين. قال الشيخ الجبرتي: «إن هذه الإرصادات والأطيان موضوعة من أيام الملك الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي في القرن الخامس، وجعلها من مصاريف بيت المال؛ ليصل إلى المستحقين بعض استحقاقهم من بيت المال بسهولة، ثم اقتدى به في ذلك الملوك والسلاطين والأمراء إلى وقتنا هذا، فيبنون المساجد والربط والخوانق والأسبلة، ويرصدون عليها أطيانا يخرجونها من زمام أوسيتهم، فيستغل خراجها أو غلالها لتلك الجهة، وكذلك يربطون على بعض الأشخاص من طلبة العلم والفقراء على وجه البر والصدقة ليتعيشوا بذلك، ويستعينوا به على طلب العلم، وإذا مات المرصد عليه ذلك، قرر القاضي أو الناظر خلافه ممن يستحق ذلك، وقيد اسمه في سجل القاضي ودفتر الديوان السلطاني عند الأفندي (من أفندية الروزنامة) المقيد بذلك، الذي عرف بكاتب الرزق، فيكتب له ذلك الأفندي سندا بموجب تقرير يقال له الإفراج، ثم يضع عليه علامته ثم علامة الباشا والدفتردار، ولكل إقليم من الأقاليم القبلية والبحرية دفتر مخصوص عليه طرة من خارج، مكتوب فيها اسم ذلك الإقليم ليسهل الكشف والتحرير والمراجعة عند الاشتباه، وتحرير مقادير حصص أرباب الاستحقاقات، ولم يزل ديوان الرزق الإحباسية محفوظا مضبوطا في جميع الدول المصرية جيلا بعد جيل، لا يتطرقه خلل إلا ما ينزل عنه أربابه لشدة احتياجهم، بالفراغ لبعض الملتزمين بقدر من الدراهم معجل، ويقرر للمفرغ على نفسه قدرا مؤجلا دون القيمة الأصلية، في نظير المعجل الذي دفعه للمفرغ، ويسمونها حينئذ داخل الزمام، ولم تزل على ذلك بطول القرون الماضية.»

ولعل من أهم المزايا المادية التي كسبها المشايخ كذلك من الوضع الذي صار لهم، بقاء النظام المعروف باسم مسموح المشايخ، وقد سبق الكلام عنه، وكاد الملتزمون يكونون جميعا من المشايخ وأغنياء القاهرة، وظلوا يحصلون من الفلاحين في الأرض الداخلة ضمن حصصهم، الضرائب التي كان المشايخ والملتزمون معفون منها، في مسموحهم.

واشتهر في العهد العثماني المملوكي طائفة من المشايخ، منهم من أعلام القرن الحادي عشر الهجري والسابع عشر الميلادي، الشيخ شمس الدين الشرنبابلي «شيخ مشايخ الأزهر في عصره»، والشيخ شمس الدين محمد البقري، وكان غالب علماء مصر إما تلميذه أو تلميذ تلميذه، واستحق طائفة منهم بما بلغوه من علم، وتحلوا به من صلاح وتقوى، ما صاروا يتمتعون به من نفوذ لدى الهيئتين الحاكمة والمحكومة على السواء، وتميز من بينهم عديدون في القرن الثاني عشر الهجري والثامن عشر الميلادي، كانوا ملجأ أصحاب الحاجات، يشفعون للناس، ويتوسطون لقضاء حاجاتهم لدى السلطات الحاكمة، ولرفع الظلم عنهم، اشتهروا بالزهد في الدنيا، والانقطاع للتدريس ونشر الهداية، فصاروا موضع احترام وتبجيل الأهلين، ويخشاهم البكوات وسائر الحكام ويهابونهم، منهم الشيخ سليمان المنصوري، المتوفى سنة 1169ه/1756م، وكان في عصره «أحد الصدور المشار إليهم، أتقن الأصول ومهر في الفروع، ودارت عليه مشيخة الحنفية، ورغب الناس في فتاويه، وكان جليل القدر، عالي الذكر، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة.» والشيخ سليمان المنصوري هو الذي تصدى لمعارضة محاولة كان قد أزمع عليها السلطان العثماني في عام 1735 للنيل من نظام الوقف، فوردت في أيامه من دار السلطنة مراسيم لإبطال بعض المرتبات التي جرت العادة بصرفها من ريع الأوقاف المرصدة على الخيرات والصدقات وما إليها، وقال القاضي: «أمر السلطان لا يخالف، ويجب إطاعته»، فكان جواب الشيخ: إن هذه المرتبات «فعل نائب السلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شيء جرت به العادة في مدة الملوك المتقدمين، وتداولته الناس، وصار يباع ويشترى، ورتبوه على خيرات ومساجد وأسبلة، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يعطل ذلك، وإن أمر ولي الأمر بإبطاله لا يسلم له ويخالف أمره؛ لأن ذلك مخالف للشرع، ولا يسلم للإمام في فعل ما يخالف الشرع ولا لنائبه أيضا.» وتم للشيخ ما أراد.

ومن المشايخ الذين ذاع صيتهم، واحتفى بهم البكوات المماليك والباشوات العثمانيون على السواء، وخشوا جانبهم، الشيخ محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني نسبة إلى بلده حفنا، وهي قرية من أعمال بلبيس، ولد على رأس المائة (1100ه/1688م)، وتوفي سنة 1180ه/1767م، كان «على غاية من العفاف ... كريم الطبع جدا، وليس للدنيا عنده قدر ولا قيمة، جميل السجايا، مهيب الشكل ... على مجالسه هيبة ووقار ... ومن مكارم أخلاقه أنه لو سأله إنسان أعز حاجة عليه أعطاها له كائنة ما كانت، ويجد لذلك أنسا وانشراحا، ولا يعلق أمله بشيء من الدنيا، وله صدقات وصلات خفية وظاهرة ... أقبل عليه الوافدون بالطول والعرض، وهادنه الملوك، وقصده الأمير والصعلوك، فكل من طلب شيئا من أمور الدنيا أو الآخرة وجده.» قال عنه محمد راغب باشا أحد الولاة العثمانيين في ذلك الوقت (1745-1748): إنه سقف على مصر من نزول البلاء، ونظيره قول بعض الأمراء (البكوات) حين قيل له: الأستاذ الحفناوي من عجائب مصر، قال: بل قل من عجائب الدنيا. تدخل في النزاع الدائر بين البكوات أيام مسعى علي بك الكبير للظفر بشياخة البلد، وكان هذا قد نفي إلى الصعيد، وأراد خصومه مطاردته، فعقدوا جمعية، وعزموا على تشهيل تجريدة، وتكلموا وتشاوروا في ذلك، فتكلم الشيخ الحفناوي في ذلك المجلس، وأفحمهم بالكلام، ومانع في ذلك، وقال: أخربتم الأقاليم والبلاد، في أي شيء هذا الحال، وكل ساعة خصام ونزاع، وتجاريد، علي بك هذا رجل أخوكم وخشداشكم؛ أي شيء يحصل إذا أتى وقعد في بيته، واصطلحتم مع بعضكم وأرحتم أنفسكم والناس، وحلف أنه لا يسافر أحد بتجريدة مطلقا، وإن فعلوا ذلك لا يحصل لهم خير أبدا، فقالوا: إنه هو الذي يحرك الشر، ويريد الانفراد بنفسه ومماليكه، وإن لم نذهب إليه أتى هو إلينا، وفعل مراده فينا، فقال لهم الشيخ: أنا أرسل إليه مكاتبة، فلا تتحركوا بشيء حتى يأتي رد الجواب، فلم يسعهم إلا الامتثال، فكتب له الشيخ مكتوبا وبخه فيه وزجره ونصحه ووعظه، وأرسلوه إليه، وقد مرض الشيخ بعد هذا الحادث بأيام ورمى بالدم وتوفي في 27 ربيع الأول 1181 / 23 أغسطس 1767.

نامعلوم صفحہ