294

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

فإن القادم منهم إذا ورد، استعدوا لقدومه، فإن كان ذا قدر ومنزلة، أعدوا له منزلا يليق به، ونظموه بالفرش والأدوات اللازمة، وخصوصا إذا كان حضر في أمر مهم، أو لتقرير المتولي على السنة الجديدة، أو بصحبته خلع رضا وهدايا، فإنه يقابل بالإعزاز الكبير، ويشاع خبره قبل وروده إلى الإسكندرية، ويأتي المبشرون بوروده من الططر، قبل خروجه من دار السلطنة بنحو شهر أو شهرين، ويأخذون خدمتهم وبشارتهم بالأكياس، وإذا وصل هو أدخلوه في موكب جليل، وعملوا له ديوانا ومدافع وشنكا، وأنزل في المنزل المعد له، وأقبلت عليه التقادم والهدايا من المتولي، وأعيان دولته ورتب له الرواتب والمصاريف لمأكله هو وأتباعه، لمطبخه وشراب حانته، أيام مكثه شهرا أو شهورا، ثم يعطى من الأكياس قدرا عظيما، وذلك خلاف هدايا الترحيلة، من قدور الشربات المتنوعة، والسكر المكرر، وأنواع الطيب كالعود والعنبر، والأقمشة الهندية والمقصبات، لنفسه ورجال دولته.

وإن كان دون ذلك، أنزلوه بمنزلة بعض الأعيان، بأتباعه وخدمه ومتاعه، في أعز مجلس، ويقوم رب المنزل بمصروفهم ولوازمهم وكلفهم، وما تستدعيه شهوات أنفسهم، ويرون أن لهم المنة عليه بنزولهم عنده، ولا يرون له فضلا، بل ذلك واجب عليه، وفرض يلزمه القيام به، مع التآمر عليه وعلى أتباعه، ويمكث على ذلك شهورا حتى يأخذ خدمته، ويقبض أكياسه، وبعد ذلك كله، يلزم صاحب المنزل أن يقدم له هدية، ليخرج من عنده شاكرا ومثنيا عليه عند مخدومه وأهل دولته، أقضية يحار العقل والنقل في تصورها.»

وإلى جانب هذا، كان على الباشا أن يمد وكلاءه بالقسطنطينية، بالمال الوفير، للإنفاق منه بسخاء، لسد نهم الباب العالي، الذي طالما ذكر محمد علي كلما تحرجت الأمور بينه وبين الديوان العثماني، أنه يعرف الطرائق المثلى التي يمكن بها اجتياز الأزمات في القسطنطينية، فهو بحاجة إلى البذل والعطاء عند تجديد تقريره على الولاية، أو لرد كيد خصومه، أو لإنهاء المسائل التي يهمه أن يتم حلها في صالحه، كمسألة يوسف كنج التي مرت بنا، أو لكسر حدة غضب الباب العالي منه، بسبب تباطؤه في تنفيذ أوامره، ومماطلته وتسويفه، في المسائل التي يرى من صالحه كذلك المماطلة والتسويف فيها، كعدم إنفاذ جيشه إلى الحجاز حتى يطمئن على ولايته ويفرغ من دعم أركانها.

وعلاوة على ذلك، فقد وجب عليه الاحتياط للمستقبل دائما في علاقاته مع الباب العالي، وقد عرفنا أن هذه لم تقم أصلا على تبادل الثقة بين الفريقين وأوجد محمد علي باشويته في نطاق إمبراطورية كان الذهب - على نحو ما شهد به المعاصرون - السلاح البتار والفيصل القاطع في كثير من عظائم الأمور، والدرع الواقية لصاحبها عند اشتداد الخطوب، ولطالما اشترى الباشوات العصاة في الدولة الجيوش المرسلة للقضاء عليهم، وكثيرا ما كان هؤلاء يدفعون سرا من مالهم معاشا للسلطان نفسه ولأعضاء ديوانه، وتلك كانت الطرائق التي تذلل بها الصعوبات في القسطنطينية والتي قال محمد علي - كما أسلفنا - إنه خبير بها.

ثم إنه كان لا ندحة عن الاحتفاظ بجيش قوي، يدين بالطاعة للباشا، ومتأهب للقتال دائما، يسيره ضد البكوات المماليك، أعدائه الداخليين، أو ضد الغزاة أعدائه الخارجيين، سواء كان هؤلاء من البريطانيين - كما وقع - أم من الفرنسيين، كما كان من المتوقع وقتئذ أن يحدث، أم من العثمانيين، وهم الذين خشي الباشا دائما كيدهم له وغدرهم به، ولا مناص كذلك من إنشاء هذا الجيش القوي، عظيم العدة والعدد، إذا أراد من ناحية أخرى كسب رضاء الباب العالي، وتجريده من الذرائع التي قد يتذرع بها لإعلان سخطه ونقمته عليه، ولقد ظل الباب العالي يلح على باشا مصر إلحاحا عظيما منذ 1807، أن يقاتل الوهابيين، ويسترجع الحرمين الشريفين منهم، وتزايد هذا الإلحاح في السنوات التالية، حتى بلغت لجاجة الباب العالي منتهاها في عام 1810، وآثر محمد علي للأسباب التي عرفناها - إنفاذ حملة إلى الحجاز، على الاصطدام مع صاحب السيادة الشرعية عليه، وشمر عن ساعد الجد والعمل لبناء ذلك الأسطول الذي أراد أن يجعله نواة لأسطول مصر التجاري من جهة، والذي ينقل قسما من الجيش والمهمات إلى الحجاز، ويبسط سلطان الباشا في البحر الأحمر من جهة أخرى، وقد تطلب ذلك كله نفقات طائلة.

واعتلى محمد علي أريكة الولاية، وخزانتها خالية من المال، وتعيش الحكومة من يومها لغدها، ولا سبيل إلى سد نفقات الإدارة العادية، ناهيك بما كان يحتاجه الولاة الذين سبقوه من أموال لتدبير شئونهم مع الجند تارة ومع الديوان العثماني تارة أخرى؛ إلا باللجوء إلى الفرض والإتاوات والغرامات وأخذ السلف الإجبارية من الأهلين، والقروض من التجار الأجانب، ولقد تقدم كيف أن خورشيد باشا ترك الولاية وهو مدين بثلاثة آلاف كيس متأخر مرتبات الجند، وقروضا استدانها من مختلف التجار، وتعهد محمد علي بسدادها، ولم يجد محمد علي مناصا هو الآخر، بسبب خلو خزانته من المال من اللجوء إلى نفس الأساليب التي لجأ إليها أسلافه في الولاية.

وكان من بين القروض العديدة التي عقدت، أو بالأحرى التي أرغم الأجانب القاطنون بالبلاد على إقراض الحكومة إياها، قرضان كانت لهما قصة، وجرت بشأنهما مفاوضات كثيرة: أحدهما قرض «بتروتشي» قنصل السويد، وقنصل إنجلترة كذلك، إلى وقت جلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية، وقد سبقت الإشارة إلى قصة هذا القرض الذي بلغت قيمته ستين ألف قرش عثماني، فقد شكا «بتروتشي» إلى القائم بالأعمال السويدي بالقسطنطينية، وأمر الباب العالي في أكتوبر 1807 بسداد هذا الدين، ورد أملاك «بتروتشي» إليه، تلك التي كان قد صادرها محمد علي، إذا صحت دعوى قنصل السويد هذا، وأما القرض الآخر، فلم يكن لمحمد علي يد فيه، وإن صدر له الأمر بسداده.

فقد اضطر خسرو باشا أثناء ولايته إلى الاستدانة من «روشتي» قنصل النمسا مبالغ على دفعات بلغت قيمتها 230858 قرشا عثمانيا، أعطى عنها ناظر قصره «كيلارجي باشي» وخازنداره إيصالات «لروشتي» عند حدوث الانقلاب الذي طرد خسرو من الولاية، وسجلت هذه الإيصالات بالمحكمة، ومع أن دفتردار ذلك العهد شرع يدفع بناء على أوامر الباب العالي المبالغ التي أبرز أصحابها إيصالات عنها، موقعا عليها من خسرو باشا نفسه، فقد وجد أصحاب الإيصالات الموقع عليها من الخازندار والكيلارجي باشي صعوبات عديدة في أخذ حقوقهم، وكان «روشتي» من بين هؤلاء، فعمد إلى توسيط سفير النمسا في القسطنطينية لدى الباب العالي، بارون «شتورمر»

Stürmer

وكانت دعوى السفير في وجوب سداد هذا الدين، أن خسرو باشا لم يستخدم الأموال التي استدانها من «روشتي» في الإنفاق على شخصه، ولكن لدفع مرتبات الجند وتقديم الهدايا للقواد الإنجليز الذين بقي جيشهم بالبلاد بعد خروج الحملة الفرنسية منها، فلم يغادرها البريطانيون إلا في مارس 1803، ثم لمواجهة مطالب الإدارة التي عجزت الخزانة العامة عن سدها؛ ولذلك فإن هذا الدين دين على الحكومة وهي ملزمه بوفائه، وسلم الباب العالي بوجهة نظر السفير، فأصدر أمرا إلى حكومة الباشا بالقاهرة في أكتوبر 1807 بسداد الدين ولكن دون جدوى، فاستأنف «روشتي» المسعى، وجدد «شتورمر» احتجاجاته لدى الباب العالي، وشهد «ستفاناكي»

نامعلوم صفحہ