مصر في مطلع القرن التاسع عشر
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
اصناف
ويعتزم الباشا إنفاذ الجند إلى الحجاز والزحف على جدة وينبع، بمجرد أن يتحقق لديه أن في وسعه أن يطمئن اطمئنانا كاملا من ناحية الفرنسيين؛ نظرا لأنه قد بلغه أنه لم يعد لهؤلاء مجال لمد فتوحاتهم والتسلط على بلدان أخرى في أوروبا بعد تغلبهم على النمسويين في الحرب.
وأن ما يقوم به محمد علي من إعداد ما تحتاجه حملته المزمعة على الحجاز، من خيول وبغال وجمال، وقرب للماء، وأكياس وغلال، وما يتكلفه هذا كله من نفقات، يوازي في أهميته وضرورته المحتمة، ما يبذل الباب العالي من جهد في قتاله مع الدول الأجنبية وما يتحمله من نفقات بسبب ذلك.
وصفوة القول حيث إنه؛ أي الباشا قد غرق في الدين حتى أذنيه، فمن الواضح الجلي أنه يتعذر عليه - بل ومن المستحيل - تحصيل المبلغ المطلوب وإرساله، وهو لذلك يسأل ولي النعم (السلطان) عفوه وصفحه الجميل، وإعفاءه من هذا التكليف.»
وقد أدرك محمد علي أن تباطؤه في الخروج إلى الحجاز، ثم تقاعسه عن إمداد الباب العالي بحاجته من الغلال، وسائر أنواع الحبوب للمعاونة على كسر حدة المجاعة في القسطنطينية، أو بما يلزم ترسانة القسطنطينية من مهمات، لمؤازرة تركيا في مجهودها الحربي، ثم أخيرا امتناعه من إرسال «قلمية الكشوفية، وإمدادية تجهيزات السفر الحربي»، لمساعدة يوسف ضيا على الخروج بحملته إلى الحجاز، أدرك محمد علي أن ذلك كله من شأنه أن يغير عليه الباب العالي، وأنه وإن كان قد حرص على ترديد عبارات الخضوع والولاء، فالواقع أنه يقف موقف العصيان من الدولة والتمرد على السلطان العثماني، وأنه لا مناص من تبلور علاقاته مع الباب العالي، إن عاجلا أو آجلا، بصورة لا بد مفضية إلى الاصطدام، إذا استمر التسويف واستطالت المماطلة.
وقد تنازع محمد علي في هذه المرحلة عاملان محددان: الإقبال على نجدة الدولة، أو الانصراف إلى تحقيق مشروع استقلاله الذي سبق الحديث عنه، وكان معنى الإقبال على نجدة الدولة، سد مطالبها التي لا تفرغ، وإرهاق موارده المحدودة، وهو الذي كان في أزمة مالية مزمنة للأسباب التي كثيرا ما أشرنا إليها، وحرمانه من تلك الأرباح الوفيرة التي يجنيها من تجارة القمح، وتكليفه ما لا طاقة له به وقتئذ من أجل إنفاذ جيش كبير لإخماد حركة الوهابيين في الحجاز، في وقت لما يفرغ فيه من نضاله المستميت مع البكوات المماليك الذين يهددون بخصومتهم العنيدة باشويته ذاتها، وذلك كله دون أن يكون لديه ضمان ما، بأن الباب العالي سوف لا يقلب له ظهر المجن، ويقصيه من باشويته، بينا أن تحقيق مشروع الاستقلال بنيل الحكم الوراثي في مصر، ينهي كل مخاوفه من ناحية الباب العالي، ويزيد من دعم حكومته ويمكن سفائنه - وقد بدأ محمد علي ينشئ أسطولا تجاريا، بمناسبة الاستعداد لحملة الحجاز المزمعة يعمل في البحرين الأبيض والأحمر - من نقل تجارته وغلاله عبر البحار بأمان تحت راية وجاقه، ولا تتعرض لمصادرة أعداء الباب العالي لها؛ لأن الباشا في وسعه - على الرغم من الحرب الدائرة بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية - أن يعلن حياده، وفضلا عن ذلك، فقد كان من مزايا عدم الاستجابة لرغبات الباب العالي، أن يتوفر الباشا أولا وقبل كل شيء على إنهاء عصيان البكوات المماليك، وإخضاعهم لسلطان حكومته، فيدخل الصعيد بغلاله الوفيرة في حوزته، فتنشط تجارته وتكثر أرباحه تبعا لذلك، وينبسط سلطان باشويته على الأقاليم الداخلة في نطاقها، فتقوى هذه الباشوية، وتتدعم أركانها، بالدرجة التي تساعده على الاستقلال الذي ينشده.
ثم إن انصرافه عن مقاومة الحركة الوهابية، من شأنه أن يزيد هذه الحركة استفحالا، لا سيما وقد انهزمت جيوش الدولة على أيدي الوهابيين، ورسخت أقدام هؤلاء، وكثرة إغارتهم على أملاك الدولة المتاخمة لهم، وبدأ يتغلغل نفوذهم في اليمن، وقد يكون الوهابيون إذا عظمت قوتهم مصدر خطر على باشويته، وهم الذين ما فتئوا يبثون الدعوة في مصر ذاتها، منذ أن استولوا على مكة فلغط الناس في خبر الوهابي واختلفوا فيه، فمنهم من جعله خارجيا وكافرا، وهم المكيون ومن تابعهم وصدق أقوالهم، وطائفة من التجار الذين استولى الوهابي على قوافلهم، وعطل تجارة البن من مخا خصوصا باستيلائه على السفن المحملة به من اليمن، ومن الناس من قال بخلاف ذلك لخلو غرضه، وما إن وصل الخبر مع ركب الحجاج العائدين إلى القاهرة في يونيو 1803 بسقوط مكة المكرمة في أيدي الوهابيين، حتى صار الناس يتناقلون هذا الخبر ويتحدثون فيه سرا فيما بينهم، على نحو ما لاحظ «مسيت» وقتئذ، وأثبت الشيخ الجبرتي صورة ما جاء في أوراق تتضمن دعوة الوهابي وعقيدته، وقد ظلت الأنباء تترى بعد ذلك عن انتصارات الوهابيين في الحجاز، وإغارتهم على أملاك الدولة في أطراف العراق والشام وفلسطين واليمن، وكان آخر هذه ما أبلغه محمد علي نفسه إلى الباب العالي من استيلائهم على قلعة المويلح.
ولكن استفحال حركة الوهابيين، كان من شأنه كذلك أن يشتت جهود الدولة ويضعفها ويقعد بها عن مناوأة محمد علي إذا هي شاءت مناوأته، ويعجزها عن حربه وقتاله إذا هي أرادت إقصاءه من باشويته، واضطر الباشا إلى الاصطدام معها وقتالها، وفضلا عن ذلك، فقد كان من رأي محمد علي أن الوهابي في شق عصا الطاعة على الدولة لم يأت أمرا إدا، بل قد خطا الخطوة التي يفكر الباشا نفسه في خطوها، وأنها إذا تحرجت العلاقات بينه وبين الباب العالي لدرجة انقطاعها وإعلان الباشا لعصيانه السافر وتمرده، لأفاد هذا الوضع المستحدث في إنشاء صلات تجارية وثيقة مع الوهابي، وكان من بين الحوافز على إنشاء أسطوله التجاري في السويس توقع هذا الاحتمال نفسه.
ولم يكن محمد علي قطعا يريد في هذه المرحلة إنفاذ جيش إلى الحجاز، بل إن هذه الاعتبارات جميعها، كانت مبعث ذلك المسعى الذي بدأه مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين وقتئذ، من أجل الظفر بتأييد دولتي إنجلترة وفرنسا لمشروع استقلاله، فقد استأنف مفاوضته مع الأولين منذ سبتمبر 1808، وهي المفاوضة التي أسفرت في آخر الأمر - في مايو 1810 - عن عقد تلك المعاهدة التجارية التي رفضت الحكومة الإنجليزية التصديق عليها، بينما هو قد تحدث إلى «دروفتي» منذ أبريل 1810 في موضوع استقلاله.
بيد أن فشل هذه المفاوضات من جهة، واندفاع محمد علي في حرب مع الباب العالي، من المقطوع به من جهة أخرى أنه لن يخرج منها ظافرا، لمعارضة الدول له، ولأنه كان في وسع المماليك أن يفيدوا منها للم شعثهم والتألب عليه من جديد بالرغم من انتصاره عليهم في معارك اللاهون والبهنسا في يوليو وأغسطس 1810، قد جعل الباشا يتريث في الأمر، ووجد أن لا ندحة له في النهاية عن تهيئة جيشه وإكمال استعداداته للخروج إلى حرب الوهابيين، ولقد كان من مزايا استرضاء الباب العالي إمكان الحصول من صاحب السيادة الشرعية عليه على ذلك الوضع الذي أخفق في نيله عن طريق التحالف أو الاتفاق مع إنجلترة وفرنسا.
وعلى ذلك، فقد بادر بعد التماس إعفائه من دفع المبالغ المطلوبة منه، برسم قلمية الكشوفية، وإمدادية تجهيزات السفر الحربي يؤكد للباب العالي صدق رغبته في إنفاذ الجيش إلى الحجاز، ويعد وعدا قاطعا بإرسال كميات كبيرة من الغلال إلى ميناءي السويس والقصير، مع بضعة آلاف من الجند المهيئين لهذه الحملة، وذلك سواء كان واليا الشام وبغداد قد قاما بالمعاونة المطلوبة منهما أم لم يفعلا ذلك، ثم إنه ينبئ الباب العالي بتجهيزاته البحرية من أجل بناء السفن اللازمة لنقل الجند والعمل في البحر الأحمر، ومن بين هذه الفرقاطة التي عرفت باسم أفريقية والتي عهد إلى قبطانها إسماعيل جبل طار بالذهاب بها إلى مالطة ثم إلى إنجلترة، لتسليحها ثم الدخول بها بعد ذلك إلى البحر عن طريق رأس الرجاء الصالح والدوران حول أفريقية، ثم إن الباشا لم يلبث أن وسط قبو كتخداه في الآستانة للاتفاق مع السفير الإنجليزي هناك بصدد شراء سفينة إنجليزية من مالطة للعمل في البحر الأحمر، ولما كان هذا الأخير قد اقترح عوضا عن الشراء إعارة إحدى سفن الإنجليز من الهند بطاقمها؛ لأن حكومته ترفض بيع سفائنها، فقد اعترض الباب العالي على ذلك، وقر الرأي على جلب هذه السفينة من جزر بحر إيجة أو المواني العثمانية أو أخذها من الأسطول العثماني نفسه، على أن يتأكد لدى الباشا فعلا بمشاورة المختصين أن في استطاعة هذه السفينة إتمام رحلتها حول أفريقية دون صعوبة.
نامعلوم صفحہ