مصر في مطلع القرن التاسع عشر
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
اصناف
ولم يكن من المنتظر حينئذ أن يعنى الإمبراطور في شئون مصر بغير ما كان متصلا ب «سره» مباشرة، وذلك في السنوات التي كان لا يزال الأمل يحدوه في أثنائها إلى إرسال حملته على مصر؛ أي إلى الوقت الذي عاد فيه فاشلا من غزوته لروسيا في عام 1812، ثم تألبت عليه الأمم في أوروبا، ولم يكن من المنتظر كذلك أن يوافق الإمبراطور على «استقلال» محمد علي، أو يرضى بأن يوطد هذا دعائم حكومته في مصر، بالدرجة التي تمكنه من مقاومة الغزو الفرنسي الجديد عند حدوثه، وكان كل ما اهتم به جمع المعلومات الصحيحة عن حقيقة الموقف في هذه البلاد، من حيث قيمة الموارد التي لدى محمد علي وتحت تصرفه، وعلاقاته مع البكوات المماليك، مبعث الضعف العام الذي يلازم حكومته، ما دام هؤلاء في عداء مستمر له، ثم نشاط تجارته مع الإنجليز، وبيعه غلاله لهم، وهي التي يمونون بها قواعدهم، فيحطمون رويدا رويدا ذلك «النظام القاري» الذي فرضه نابليون لتضييق الخناق عليهم اقتصاديا تمهيدا لهزيمتهم.
ولذلك، فقد شهدت هذه الفترة (1808-1811) تبدلا في جوهر السياسة الفرنسية نحو مصر. حقيقة ظل الوكلاء الفرنسيون حريصين على التمسك بمظهر صداقتهم لمحمد علي، ولكن هذه كانت صداقة في غير العلاقات الشخصية بين الباشا و«دروفتي» مثلا، لا يمكن أن توصف بأنها كانت خالصة أو منبعثة عن رغبة صحيحة في مؤازرة محمد علي، فلم يكن غرض الوكلاء الفرنسيين من التظاهر بها سوى مقاومة النفوذ الإنجليزي، ومنع تصدير الغلال خصوصا إلى أعدائهم، وحمل الباشا على تصدير غلاله إلى قواعدهم هم، في البحر الأبيض لا سيما إلى كرفو، ثم الحرص على كتمان «سر نابليون»، وتضليل الباشا عن معرفة نوايا الإمبراطور، عندما أوقفه الإنجليز على حقيقة هذه النوايا، وحذروه من مشاريع الفرنسيين، وعزم إمبراطورهم على غزو هذه البلاد، وإخراجه من حكومتها.
ولقي الوكلاء الفرنسيون عنتا كبيرا في «تكييف» مسلكهم، في ضوء التعليمات التي أتتهم من حكومتهم، وعندما مرت الشهور، دون أن يتحقق شيء من مشروع الحملة الفرنسية المنتظرة على مصر، وتحتم عليهم المثابرة على نفي ما أذاعه الوكلاء الإنجليز عنها، وإقناع محمد علي بأن أمتهم لا تزال صديقا له، وأن الإمبراطور لا يريد به شرا، وأن الإنجليز يبيتون النية على غزو بلاده والغدر به.
ولما كان الباشا متحذرا من نوايا الدولتين معا، فرنسا وإنجلترة، ويعول على حسن استعداده وقوته هو وحده؛ للذود عن البلاد إذا حاولت إحداهما غزوها، ويؤثر التجارة مع الإنجليز لما يناله منها من مال يتيح له فرصة إكمال استعداداته العسكرية وتحصين عاصمته وثغوره، وتقوية جيشه، وشهد هو الآخر الشهور والسنوات تمر دون أن يتهدده خطر مباشر من جانب فرنسا، وصار من المتعذر على نابليون، بسبب مشاغله العديدة والخطيرة في أوروبا، أن يقدم على غزو مصر، حتى ولو ظل صحيح العزم على فعل ذلك؛ فقد صار من صالحه أن يستمر على علاقات طيبة مع الفريقين، يبيع غلاله للإنجليز، ويرضى بتصدير غلاله إلى كرفو تارة، ويبذل الوعود الطيبة للفرنسيين دائما، ويمني النفس، نتيجة لتمسكه بصداقة الفرنسيين، أو بالأحرى لاتباعه معهم سياسة لحمتها استرضاؤهم، وسداها تطييب خاطرهم، بأن يقبل هؤلاء على معاونته في تحقيق مشروع استقلاله.
وأما هذه الحقائق جميعها فتتضح من تتبع سير الحوادث في هذه الفترة. (6) نشاط «دروفتي» و«سانت مارسيل»
وقام على تنفيذ سياسة الإمبراطور نحو مصر، ورعاية المصلحة الفرنسية بها، والمواءمة بين «المصلحة» المحلية، وبين صوالح «الإمبراطورية» العليا، «دروفتي» في القاهرة، و«سانت مارسيل» في الإسكندرية، وقد تراسل هذان، إما مع السفارة الفرنسية في القسطنطينية، وإما مع حكومة الإمبراطور في باريس، وكثر رويدا رويدا اتصال هذين بالحكومة في باريس ل «أهمية» المسائل التي عرضت لهما، ولما تلقياه من أوامر تطلب منهما هذا الاتصال المباشر، بسبب ما أبداه الإمبراطور من اهتمام خاص بهذه المسائل، التي كانت ذات صلة وثيقة ب «سره».
وقد أشار وزير الخارجية الفرنسية، بصورة أو بأخرى، إلى هذا «السر»، عندما كانت التعليمات التي صار يبعث بها إليهما - ولا سيما إلى «دروفتي» - تتطلب منهما قبل كل شيء آخر تزويد الحكومة بمعلومات دقيقة عن الموقف في مصر عموما، وعن نشاط العلاقات القائمة بين محمد علي والإنجليز خصوصا.
ويبدو اهتمام حكومة باريس بتطور الحوادث في مصر في أن وزير الخارجية لم يلبث أن بعث من فونتنبلو إلى «دروفتي» في 16 أكتوبر 1807، يشكره على التقارير التي أرسلها إليه، والتي كان آخرها بتاريخ 2 مارس من العام نفسه، تنبئه بما وقع من حوادث بين جند الباشا والمماليك، وتبين له الأثر الذي أحدثته وفاة كبيري زعماء المماليك؛ البرديسي والألفي، ولكنه لما كان لم يصل الوزير أية تقارير أخرى، بعد رسالة «دروفتي» بتاريخ 2 مارس، واعتقد أن السبب في ذلك هو مصادرة الإنجليز لها، وقد ظل هؤلاء أصحاب السيطرة في البحر الأبيض، فقد أشار عليه لضمان وصول تقاريره إلى باريس، أن يتوخى إرسالها بطريق مأمون، ومن صورتين، ثم أوصاه بأن يستمر على تزويده بالمعلومات الوافية، والدقيقة «عن كل الوقائع والحوادث التي يرى «دروفتي» أنها من نوع يوجب اهتمام الحكومة بها».
ثم عاد الوزير «شامباني»، فأبدى دهشته في رسالة بعث بها إلى «دروفتي» من باريس في 17 أبريل 1809، من أن هذا الأخير لم يثابر على الكتابة إليه، على زعم أن في كتابته إلى السفارة الفرنسية في القسطنطينية غناء عن إرسال تقاريره إلى باريس، فطلب إليه المواظبة على الكتابة إليه. ولما كان «دروفتي» قد أبلغه، ضمن الوقائع التي ذكرها في تقاريره للوزير بتاريخ 18 يناير، 8 أبريل، 12 يوليو، 10 أغسطس 1808، أنه قد تهرب من التدخل بين الباشا والبكوات المماليك، في المفاوضات الجارية بين الفريقين من أجل الصلح، ورفض مصاحبة محمد علي في الرحلة التي انتوى القيام بها لزيارة مختلف المواني المصرية، ثم أبلغ الوزير احتجاجاته لدى محمد علي على سماح هذا الأخير للسفن المحملة بالبضائع الإنجليزية بالدخول إلى الإسكندرية، وأنه اضطر عند فشله إلى سؤال القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية «لاتور-موبورج»
Latour-Maubourg
نامعلوم صفحہ