233

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

وأما فيما يتعلق بمصر، فقد أخطأت إنجلترة خطأ جسيما منذ أن بنت سياستها على إمكان التعاون مع المماليك؛ لتأسيس نفوذها ودعمه في هذه البلاد، وذلك بالرغم مما كان هنالك من براهين كثيرة على أن هؤلاء لا يقدرون على الحكم ولا يصلحون له، ولم يفطن الإنجليز إلى أن القوة التي بوسعها مساعدتهم مساعدة فعالة، والتي سوف يكون المستقبل لها هي محمد علي، لا المماليك، ففاتهم مغزى الانقلاب الذي أوصل محمد علي إلى الحكم في مايو 1805، بل أنهم بدلا من مؤازرة هذه القوة الجديدة التي برزت من ميدان الفوضى السياسية الضاربة أطنابها في البلاد، سرعان ما راح وكلاؤهم يكيدون لها، فأساءوا به الظن وشكوا في نواياه، واعتبروه مبيعا لفرنسا، وجعلهم الفزع المتسلط عليهم من الغزو الفرنسي لهذه البلاد، يناوئونه سياسيا بكل ما أوتوا من جهد وحيلة، حتى إذا تأزمت علاقاتهم مع الباب العالي، واتتهم الفرصة لشن الحرب عليه وقتاله، ولم يكن خافيا أن التعليمات التي أعطيت لفريزر بمؤازرة الأحزاب الصديقة لإنجلترة وهم المماليك، كان معناها عند تنفيذها إخراج محمد علي من الحكم والولاية، ولم يكن الغرض من إرسال حملة «فريزر» إبعاد الفرنسيين من مصر والحيلولة دون غزوهم لها، ومع أنهم كانوا لا يريدون قطعا احتلال البلاد بأسرها، بل احتلال الإسكندرية فحسب، فقد اعتمدوا من ناحية أخرى على عودة البكوات إلى الحكم؛ ليبسطوا نفوذهم على البلاد عن طريقهم، ولا سبيل لتحقيق هذه الغاية إلا بطرد الأرنئود وإقصاء محمد علي من الباشوية، ولم يحل دون ذلك سوى غلط استراتيجية الإنجليز أنفسهم في المقام الأول، ثم عدم كفاءة ومهارة قوادهم العسكريين، وأخيرا انعدام كل فهم أو إدراك سياسي لدى المماليك، فبدلا من التعاون المنتظر بين الفريقين، ترك الإنجليز والمماليك أنفسهم ينهزمون فرادى على يد جيش محمد علي الذي خرج من هذا النضال وقد تزايدت قوته، وصار بفضل امتلاكه للإسكندرية سيد البلاد الحقيقي، وسهل عليه بعدئذ القضاء على كل العناصر المناوئة لسلطانه، وهكذا منيت سياسة الإنجليز في مصر بالفشل الذريع، وهو فشل يسترعي النظر، من حيث إنه أفضى بسبب الهزائم التي لحقت بهم من جراء امتناع المماليك - على وجه الخصوص - عن مساعدتهم إلى زيادة إقناع «كاسلريه » بضرورة سحب حملة «فريزر» من مصر، ولأن كل تلك الجهود التي ثابروا عليها دون هوادة منذ احتلالهم الأول لهذه البلاد، قد باءت جميعها بالفشل، وكان جلاؤهم عن الإسكندرية خاتمة المطاف لهذه السياسة.

ولقد كان - بلا جدال - دخول الإسكندرية في حوزة محمد علي، أهم النتائج التي أسفرت عنها حملة «فريزر»، فقد ظلت الإسكندرية حتى هذا الوقت خاضعة رأسا في حكومتها للقسطنطينية، فكانت لذلك بمثابة الحلقة التي تربط بين باشوية مصر وعاصمة الإمبراطورية العثمانية، والمنفذ الذي يبسط منه الباب العالي نفوذه على هذه البلاد كلما تسنى له ذلك، أو البؤرة التي يدبر فيها ضباطه ورجاله مكائدهم ضد الباشوات العثمانيين أو البكوات المماليك، إذا قوى شأن هؤلاء وأولئك لتقويض سلطانهم، فكان معنى انضمام الإسكندرية إلى الولاية ودخولها في نطاق باشوية القاهرة، أنه قد انفصمت الآن تلك الحلقة القديمة التي ربطت بينها وبين القسطنطينية، وأن انعدم ذلك الاتصال المباشر بين مقر السلطنة وبين باشوية محمد علي، وأنه قد تعذر على أعداء الباشا وضباط الباب العالي، أن يجدوا في مصر وكرا يحبكون منه دسائسهم ضد نفوذه وسلطانه، ولقد كان من أثر التجارب السابقة التي مرت بمحمد علي أثناء أزماته المتلاحقة مع الباب العالي منذ أن وصل إلى الحكم والولاية، وهي التجارب ذاتها التي جعلته يرفض أي اتفاق مع الإنجليز إلا على أساس جلائهم عن الإسكندرية، وحملته على أن ينشد لنفسه في مصر وضعا مشابها لوضع حكام وجاقات الغرب، وأن يسعى جهده أثناء مفاوضته مع الإنجليز لعقد محالفة معهم ضد أعدائهم وأعدائه على السواء من فرنسيين وأتراك، نقول: إنه كان من أثر هذه التجارب أن اعتبر محمد علي امتلاك الإسكندرية فتحا حقيقيا، وكان الإنجليز أنفسهم هم الأداة التي مكنته من ذلك، وقد أدرك المعاصرون قيمة هذا الفتح الثمين ، من حيث إيذانه بتوطيد حكم محمد علي ودعم أركان باشويته، فقال الشيخ الجبرتي عند الحديث عن الظروف التي خرجت فيها حملة «فريزر» من مصر - وكان حديثا مقتضبا موجزا لبعد الشيخ عن مقر المفاوضات، ولعدم إذاعة شيء عنها: «إن الباشا بجلاء الإنجليز ودخول الإسكندرية في حوزته، قد استقر واطمأن خاطره، وخلص له الإقليم المصري.»

الباب الثالث: ولاية محمد علي: استقرار الحكم‏

تمهيد‏

1 - سياسة محمد علي‏

2 - الحكومة الموطدة‏

3 - الحكومة الموطدة‏

4 - بسط سلطان الولاية‏

الباب الثالث: ولاية محمد علي: استقرار الحكم‏

تمهيد‏

نامعلوم صفحہ