208

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

Briggs

وشركائه مبلغ السبعين ألف بندقي الذي كان أودعه الألفي لديهم.

ومن ناحية أخرى فالجميع يترقبون باهتمام نهاية المفاوضات بين محمد علي والبكوات المماليك ونتائجها، وقد ذهب هؤلاء أخيرا إلى بني سويف للإسراع في عقد الصلح مع الباشا، وأوفد «دروفتي» إلى إبراهيم بك وسائر البكوات «مانجان» حتى يحملهم على إبرام الصلح المرغوب فيه كثيرا؛ لأن قطع العلاقات أو إذا استطالت العداوة بين الفريقين في هذه الظروف يترتب عليهما آثار سيئة حيث يخشى عندئذ من انضمام المماليك عموما إلى الإنجليز.» وبسط «دروفتي» مهمة «مانجان» للسفير في نفس اليوم الذي كتب له في رسالته السالفة 24 يونيو، فقال: إنه قد اضطر اضطرارا إلى إرساله إلى البكوات بالصعيد بسبب الظروف التي عرفناها، ولأن محمد علي صار يلح في لجاجة على «دروفتي» كي يذهب هو إليهم بشخصه مما جعل ذلك كله ضروريا إرسال «مانجان» إليهم، ثم استطرد يقول: «ولكني لم أخول «مانجان» أية سلطات أو أعطه أي ألقاب أو أجعل له ما قد يشعر منه بأنه في بعثة أو مكلف بمهمة رسمية، وقد طلب إليه أن يسدي النصح إلى المماليك حتى يجعلهم بعيدين عن الإنجليز أو يجعلهم - على الأقل - مترددين في موقفهم حتى يحين موعد الفيضان التالي، حتى تصبح عندئذ معاونتهم للعدو (الإنجليز) لا فائدة حقيقية لها ولا جدوى منها»، ثم أخذ «دروفتي» يبرر هذا التدخل في شئون الأحزاب المتنازعة دون انتظار لتعليمات حكومته التي بعث يطلبها منذ 14 يونيو فقال: وعلى كل الأحوال، فإن «مانجان» قد صار إرساله إلى مماليك بيت البرديسي الذين - كما يبدو لي - يهمنا ويهم الإمبراطور نابليون مصيرهم؛ لأنهم يسيرون دائما في الطريق التي رسمها مراد بك، وقد رفضوا باستمرار الاشتراك مع الألفي عدو الفرنسيين في تدابيره.

وأما «مانجان» فقد غادر القاهرة في طريقه إلى الصعيد ولما تمض أيام قلائل على إرسال «دروفتي» كتابه سالف الذكر إلى «سباستياني» في 14 يونيو ، فمر بالبرنبل حيث وجد بها وقتئذ معسكر ياسين بك، وكان شاهين بك المرادي وإبراهيم بك يعسكران على مسافة أبعد قليلا منها على الشاطئ المقابل، بينما أقام شاهين بك الألفي معسكره عند قرية زاوية المصلوب، وقد وجدهم «مانجان» منقسمين على أنفسهم، تصطدم مصالحهم وتختلف آراؤهم وغاياتهم ولا يجمع بينهم سوى الغضب من محمد علي، والنقمة عليه والكراهية له، ولو أنهم جميعا يخافونه ويخشون بأسه، ولا يعتقدون أنهم في مأمن من مكائده ضدهم، ولقد أثار سخطهم ودهشتهم في الوقت نفسه أن ينتصر جيشه على الإنجليز، فقال محمد بك المنفوخ - وهو من المرادية وصاحب نفوذ كبير على إخوانه: «إنه من المتعذر على أي امرئ أن يعقل كيف أجاز أوروبيون لأنفسهم أن ينهزموا على يد الأتراك»، وأكثر البكوات من عقد الاجتماعات لتدبر موقفهم، ولكن دون طائل، فكانوا ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس، ولاحظ «مانجان» أن الهوة التي فصلت بيت بيتي البرديسي والألفي من قديم لا تزال سحيقة، بسبب المنافسة والغيرة المتأصلتين بينهما، حتى تعذر اتفاق كلمة البكوات على شيء، فكل واحد منهم قد قر رأيه على قرار مخالف لقرار زميله، حتى صار كل معسكر من معسكراتهم منفصلا عن الآخر، وقل اتصال الرؤساء بعضهم ببعض، ويضرب «مانجان» مثلا على الانقسام السائد بين البكوات فيما حدث لشاهين بك الألفي الذي جمع زملاءه ذات مرة في خيمته وتحدث إليهم في ضرورة الزحف والنزول إلى دمنهور ونجح في إقناعهم بذلك، ولكنه سرعان ما نقض البكوات قرارهم في اليوم التالي، وصمموا على الوقوف وعدم الحركة انتظارا لما قد تجيء به الحوادث، وقد خلص «مانجان» من أحاديثه معهم إلى أن البكوات ما عادوا ينظرون إلى الجيش البريطاني بعين الجد والاعتبار السابقة، حيث كشفت عن ضعفه هزيمته الأخيرة في رشيد والحماد.

وهكذا تضافرت عوامل ثلاثة لشل حركة البكوات: منافساتهم وأحقادهم الشخصية، التي جعلتهم لا يثقون في بعضهم بعضا ومنعت اتفاقهم على رأي واحد، وغضبهم على الباشا وكراهيتهم له مما جعلهم لا يثقون في وعوده لهم ولا يريدون الصلح معه، ثم نظرتهم غير الطيبة للجيش البريطاني، وتقريرهم لذلك عدم الحركة ومغادرة أماكنهم حتى يقيم الجنرال «فريزر» الدليل على أن في وسعه الانتصار على جيوش محمد علي ومهاجمة القاهرة معقل هذا الأخير. وتلك جميعها عوامل من شأنها القضاء على كل خوف منهم، لا سيما وأن البكوات عدا هذه الخلافات الناشبة بينهم والمؤذنة بأفول نجمهم، كانوا أنفسهم يمرون وقتئذ في دور من الانحلال السريع، كان مظهره هذه الانقسامات ذاتها، كما نهض دليلا عليه انصرافهم وهم في محنتهم هذه عن العمل الجدي الذي يتطلبه تطلعهم إلى الحكم والسلطة إلى الانغماس في الشهوات، فقد استرعى نظر «مانجان» ما شاهده من انتشار الفوضى الضاربة أطنابها في معسكرات المماليك حيث كانت هذه تعج بالعلمات والمغنيات والغوازي اللواتي كن يلاحقن معسكراتهم ويتبعنها إلى كل مكان تنتقل هذه المعسكرات إليه.

وفي الوقت الذي أدار فيه «مانجان» مفاوضاته مع البكوات بالصعيد، كان محمد علي من جانبه لا يزال وهو بالقاهرة يسلك طريق المداراة والملاينة معهم حتى يذلل ما قد يقوم من صعوبات أثناء هذه المفاوضة، ويصطنع الكثير من الحكمة والأناة وطول البال في علاقاته معهم؛ كي يستميلهم إلى قبول الصلح معه، أو التزام الحياد على الأقل - كما ذكرنا - فقد وصلت في 14 يونيو مكاتبة من إبراهيم بك ومن الرسل مصطفى أغا وعلي كاشف الصابونجي ومصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر مضمونها الإخبار بقدوم البكوات، ثم أرسل إبراهيم بك يستدعي إليه ابنه الصغير وولد ابنته المسمى نور الدين، ويطلب لوازم وأمتعة، فرضي الباشا بتصديق الخبر عن قرب حضورهم إلى الجيزة، وبادر بإجابة إبراهيم بك إلى طلبه، وفي 20 يونيو سافر أولاد إبراهيم بك والمطلوبات التي أرسل يطلبها وصحبتهم فراشون وباعة متسببون وغير ذلك، ثم لم يلبث أن بعث إبراهيم بك بكتاب تسلمه الباشا بعد يومين يؤكد فيه من جديد بقاء البكوات على عهدهم ويعد بوصولهم إلى الجيزة قريبا لإبرام الصلح معه.

ولكنه حدث وقتئذ أن وصل إلى القاهرة كذلك تقرير «مانجان» الأول عن مهمته لدى البكوات بتاريخ 21 يونيو، وقد تحدث فيه صاحبه عن مقابلته لهم عند زاوية المصلوب فقال: إن هؤلاء قد أظهروا له تقديرهم للخطوة التي خطاها «دروفتي» نحوهم، وأكدوا أنهم لن يعملوا مع الإنجليز، بل إن شاهين بك الألفي صار يدعي أنه لم يبعث بمندوبيه أحمد بك وأمين بك إلى الإسكندرية إلا لاسترجاع مبلغ ستين ألف تالير أو ريال إسباني كان سيده المتوفى أي الألفي الكبير قد أودعها لدى بيت برجز وشركائه، وهم من تجار الإنجليز بالإسكندرية، ومع ذلك، فالبكوات دائما لا يثقون في محمد علي، ولا يريدون النزول إلى الجيزة خوفا من الكيد لهم وأن يكون الغرض من استقدامهم إليها إيقاعهم في شرك الفخاخ التي ينصبها لهم الباشا؛ ولذلك فهم يعتذرون عن نزولهم بحجة أنهم ينتظرون مجيء بعض البكوات الذين لا يزالون فوق المنيا، وكان في ضوء هذا التقرير إذن أن نصح «دروفتي» محمد علي عندما استشاره هذا في قيمة تصريحات البكوات عن رغبتهم في الصلح معه، وعزمهم على الحضور قريبا إلى الجيزة، بأنه من الخير كل الخير له ومن صالحه ألا يجعل البكوات يقتربون كثيرا من القاهرة، فبعث إليهم الباشا بأحد مندوبيه شريف أغا، يحمل إليهم إنذارا، يطلب فيه منهم بقاءهم حيث هم، وأن يوفدوا إلى الجيزة مندوبين مفوضين عنهم فحسب للمفاوضة في شروط الصلح بدلا من حضورهم بأنفسهم.

ولما كان البكوات قد آثروا بسبب انقساماتهم الجمود عن الحركة وتلبية نداءات «مسيت» و«فريزر» لهم، وعجزوا للسبب نفسه عن الاتفاق فيما بينهم على القيام بأي جهد مشترك للزحف على القاهرة وقتال محمد علي، وكان «مانجان» لا يزال بمعسكرهم يحاول منعهم من التعاون مع الإنجليز واستمالتهم إلى الاتفاق مع محمد علي، ويستخدم لتعزيز مساعيه لديهم حسين بك الزنطاوي خصوصا، فقد آثر البكوات عندما وصلهم إنذار محمد علي الاستمرار على سياسة المماطلة والمراوغة مع الباشا انتظارا - كما قر عليه رأيهم - لما قد تسفر عنه الحوادث، فأبدوا رغبتهم في أن يوفد الباشا وسطاء بينه وبينهم الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ محمد الأمير والسيد النقيب عمر مكرم؛ لإجراء الصلح على أيديهم كما قالوا، وقد حمل رسالتهم هذه غالب أغا إلى القاهرة، وأجابهم الباشا إلى رغبتهم، ولكنه بدلا من أن يذهب هؤلاء الثلاثة إليهم، استبدل بهم ثلاثة من الفقهاء وهم: الشيخ سليمان الفيومي والشيخ إبراهيم السجيني والسيد محمد الدواخلي، وقد غادر هؤلاء القاهرة يوم 2 يوليو إلى زاوية المصلوب، يحملون مراسلة إلى الأمراء القبليين بالصلح، ومزودين بسلطات كاملة لعقد الصلح معهم.

ولكن مساعي هؤلاء الفقهاء الثلاثة لدى البكوات لم تسفر عن نتيجة، فقد تمسك البكوات بشروط كثيرة تعذر معها الوصول إلى أي اتفاق بينهم وبين محمد علي، ولكنه وإن كان البكوات قد نكثوا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم أثناء مفاوضتهم السابقة في أبريل مع محمد علي بأسيوط، ولم يعقدوا الصلح معه، فقد استطاع «مانجان» من ناحيته أن يظفر منهم بوعد قاطع بالوقوف موقف الحياد وعدم التعاون كلية مع الإنجليز، وكان هذا كل ما أراده محمد علي والغرض المباشر الذي هدف إليه من توسيط «دروفتي» لديهم إذا تعذر الصلح نهائيا معهم، وقد عاد «مانجان» من مهمته إلى القاهرة في 17 يوليو، وفي اليوم التالي كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» ينبئه بما وصل إليه «مانجان» من نتائج بعد مفاوضته معهم، فقال: إن مساعي جميع الوفود التي أرسلها الباشا إلى البكوات أثناء وجود «مانجان» بمعسكرهم لم تأت بأية ثمرة؛ لأن البكوات تغالوا كثيرا في مطالبهم، ولأن رجاءهم قد انعقد في واقع الأمر على امتلاك القاهرة ذاتها، ولن يرضيهم سوى احتلالها، ولقد أظهر شاهين بك المرادي ومحمد بك المنفوخ وعبد الرحمن بك من بيت البرديسي، أنهم لا يأبهون كثيرا للاتفاق مع محمد علي، وأنهم إذا كانوا لا ينضمون إلى الإنجليز فمبعث هذا وحده أنهم لا يودون إغضاب الحكومة الفرنسية التي يريدون حمايتها لهم، ثم استطرد «دروفتي» يقول: «وقد كلفوا «مانجان» أن يؤكد لي تأكيداتهم التي أعطوني إياها كتابة، وفحواها أنهم لن يتحركوا أقل حركة قد يفيد منها الإنجليز في عملياتهم أو مشروعاتهم ضد مصر، ولو أنهم ينتظرون في الوقت نفسه أن تتدخل فرنسا لمؤازرتهم عند تقرير مصيرهم»، ولقد كان - حسبما جاء في تقرير «مانجان» - لمساعي حسين بك الزنطاوي الذي عرفه رؤساء جيش الشرق في مصر سفيرا لمراد بك، أكبر الأثر في جمع كلمة المماليك الصناجق على رفض المحالفة التي يلح في عقدها الإنجليز معهم، ثم إن محمد بك المنفوخ وعبد الرحمن بك قد بذلا قصارى جهدهما كذلك، ونجحا في حمل إبراهيم بك ورجاله على الانحياز إلى جانبهما، في موقفهما الذي اتخذاه من حيث تقرير الحياد التام، بل ويريد جميعهم الاجتماع في بني سويف انتظارا لحدوث الفيضان حتى يذهبوا منها إلى مظاعنهم المعتادة، ثم عاد «دروفتي» فكتب إلى «سباستياني» في 29 يوليو أن ضابطا بريطانيا قد ذهب في مهمة إلى معسكر شاهين بك الألفي بعد عودة «مانجان» من الصعيد ببضعة أيام يستحثه على النزول إلى الوجه البحري ولكن دون جدوى، بل إن هذا الضابط عندما يئس من شاهين الألفي ذهب إلى سائر البكوات في بني سويف يحثهم على الانضمام إلى الحزب الإنجليزي ولكن من غير طائل أيضا.

وهكذا تخلى البكوات عن النضال من أجل الفوز بالسيطرة والحكم، وهم الذين كان في وسعهم أن ينزلوا إلى ميدان القتال حوالي الألفين وخمسمائة من الفرسان المدربين والمجهزين بأكمل العدد، عدا آلاف البدو الذين درجوا على الانضمام إليهم، فكان قرارهم اتخاذ موقف الحياد التام، وذهابهم إلى بني سويف ليتوغلوا منها في الصعيد عند حدوث الفيضان، نصرا سياسيا لمحمد علي الذي وسط بنجاح الوكلاء الفرنسيين لديهم، فأتاح له هذا النصر الفرصة لإنجاز استعداداته لمناجزة الإنجليز.

نامعلوم صفحہ