مصر في مطلع القرن التاسع عشر
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
اصناف
بينما عهد بالقيادة البحرية إلى الكابتن «بنيامين هالويل» ومجموع قواتها حوالي 5100 رجل، ولما كان السفير الروسي «ديتالنسكي» قد غادر القسطنطينية في الظروف التي سبق ذكرها، ووصل إلى مالطة، وتأيد إعلان الحرب بين تركيا وروسيا منذ 22 ديسمبر 1806، وعلم الجنرال «فوكس» بخروج «أربثنوت» السفير الإنجليزي من القسطنطينية في طريقه إلى جزيرة «تينيدوس»، فقد أصدر «فوكس» أوامره بإبحار الحملة في 18 فبراير، وأقلعت من «مسينا» في 6 مارس 1807. (3) تسليم الإسكندرية
ومنذ شهر يناير 1807 صار من المقطوع به في مصر أن البريطانيين يعتزمون إرسال حملة إلى مصر، فكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» من الإسكندرية في 22 يناير، أنه علم بوصول فرمانين إلى محمد علي، أحدهما يطلب فيه الباب العالي أن يكون موقفه من الأمة الفرنسية ووكلائها ومسلكه مع هؤلاء خصوصا بشكل لا يجعلهم يرسلون أية شكاوى بتاتا إلى سفيرهم بالقسطنطينية، والآخر يأمره بأن يحصن كل موقع معرض للغزو حتى يتسنى الدفاع عن البلاد، وقد جزم «مسيت» بأن الباب العالي قد طلب من محمد علي في هذا الفرمان الثاني أن يقاوم الإنجليز بكل ما لديه من قوة وجهد، إذا حاول هؤلاء النزول في مصر دون أن يكون لديهم خط شريف من السلطان العثماني يأذن لهم بذلك، ثم يستطرد «مسيت» فيقول: وينهض دليلا ساطعا على أن الباب العالي كان يخشى في وقت غير بعيد من وقوع الغزو على مصر، كل تلك الخطوات التي يتخذها الباشا في القاهرة، والأوامر التي أصدرها لحاكم رشيد لإصلاح القلعة التي مهمتها الدفاع عن مدخل فرع النيل الغربي (قلعة جوليان) وإمدادها بحاجتها من المؤن والذخائر، زد على ذلك ما يجري من استعدادات في الإسكندرية، وفي 4 فبراير وصل من أزمير مركب عثماني تحمل خبر إعلان الحرب بين روسيا وتركيا، وفي اليوم التالي وضعت ثمان قطع من المدافع الصغيرة عند رأس التين، وصدرت الأوامر بعدم خروج الأدلاء أو المرشدين من الميناء لمقابلة السفن في عرض البحر، كما تلقى أصحاب السفن أمرا بعدم نقل القناصل أو مأموري القنصليات والتراجمة، ثم جمع بعد ظهر اليوم نفسه رؤساء الأهالي في الجوامع وأبلغوا أن روسيا قد أعلنت الحرب على تركيا، ودعوا إلى تسليح أنفسهم للدفاع عن البلاد، ووعد أمين أغا بإعطائهم الأسلحة والذخائر، كما سأل أحد شيوخ العربان إمداده بأربعمائة من الرجال؛ للدفاع عن الإسكندرية.
وفي 20 فبراير علم «مسيت» من «أربثنوت» نفسه أن السفير الإنجليزي قد غادر القسطنطينية، وفي اليوم التالي كتب إلى «وندهام» أن باشا مصر محمد علي قد وصلته أوامر قاطعة من الباب العالي بالامتناع عن محاربة المماليك، وتطلب منه إرجاع أملاكهم الخاصة إليهم، والاتحاد معهم؛ لمقاومة نزول أي جند أجانب في هذه المقاطعة، ثم إن الباب العالي قد دعا البكوات في الوقت نفسه إلى قبول الشروط التي كلف الباشا بعرضها عليهم، وأن يضموا قواتهم إليه ليعينوه على صد هجوم أعداء السلطان الكثيرين على هذه البلاد، وكان من رأي «مسيت» أن البكوات لن يجيبوا هذه الرغبة؛ حيث إنهم يبغون امتلاك مصر دون منازع، وكما كان الحال سابقا، ومع ذلك، فإنه حتى يحول دون تخاذل البكوات وقبول فريق منهم لعروض الباشا عليهم، فقد أوفد إليهم رسولا ينقل إليهم خبر قطع العلاقات بين إنجلترة وتركيا، ويطمئنهم إلى انتظار أيام أسعد في المستقبل؛ حيث إن هذا الحادث لن يترتب عليه إلا كل ما فيه النفع والفائدة لهم، واعتقد «مسيت» أن من الميسور دائما تحطيم أية معاهدة قد يعقدها البكوات مع محمد علي إذا غزا الإنجليز هذه البلاد، وأغرى البكوات بنبذها نظير تمكينهم من أخذ القاهرة، ثم اختتم «مسيت» رسالته بما يدل على مبلغ نجاحه في استمالة أمين أغا ومشايخ الإسكندرية إلى قبول فكرة الغزو البريطاني لمدينتهم، فقال: «ولما كانت هذه الحكومة لم يبلغ إليها رسميا قيام الحرب مع بريطانيا، ففي وسعي الإبحار إلى مالطة دون أن ألقى عراقيل تمنعني من ذلك، ولكن حاكم الإسكندرية أمين أغا، وكبار العلماء بها، قد أكدوا لي تأكيدا قويا أنه لن يتعرض لي أحد بشيء مهما كانت الظروف والأحوال؛ ولذلك فقد قررت البقاء في مصر حيث لا يزال بقائي بها نافعا؛ لتقوية الميول الودية التي لدى جملة قبائل من العرب نحونا الآن؛ لأن خدمات هؤلاء قد يفيد منها جيش بريطاني يحضر إلى مصر فائدة جوهرية في عملياته العسكرية.» وفي اليوم نفسه (21 فبراير) كتب «مسيت» إلى «فوكس» يوضح له موقف البكوات المنتظر، بما لا يخرج عما ذكره لأربثنوت ويستحثه على تنفيذ ما لديه من تعليمات - إذا كان قد طلب إليه إرسال حملة إلى مصر - دون أي إمهال؛ حيث إن السرعة والعمل النشيط من شأنهما إنجاز فتح البلاد دون إراقة أي دماء؛ لأن حامية الإسكندرية لا تبلغ ثلاثمائة رجل، ولأن الأهلين يرغبون من زمن طويل في أن يحتل الجنود البريطانيون بلادهم، وهم لن يقاوموهم إذا حضروا.
وقد وصلت إلى الإسكندرية في 20 فبراير سفينة إنجليزية قيل إنها غادرت القسطنطينية في 6 فبراير وعلى ظهرها جماعة غادرت العاصمة العثمانية وقت مغادرة السفير الإنجليزي لها، وقال «دروفتي» الذي نقل هذا الخبر إلى «سباستياني» في 2 مارس: إن الإنجليز يذكرون أن حملة سوف تحضر إلى مصر، ويشيعون أن لدى حكومتهم أغراضا معينة بالنسبة لمصر، وأنها تتوقع أن تلقى معاونة من جانب البكوات، ثم من جانب الأهلين، في نظير تخليصهم من مظالم وطغيان الأرنئود، ولأن الحملة البريطانية عند حضورها سوف تضعهم تحت حكم إمارة أوروبية، الأمر الذي يرجوه الأهالي من مدة طويلة، وأما هذه السفينة فقد أنزلت في الإسكندرية قنصل سالونيك، ورجال السفارة البريطانية في القسطنطينية، وصار «مسيت» و«صمويل بريجز» يتوقعان - حتما - وصول حملة إنجليزية إلى الشواطئ المصرية.
وفي 13 مارس وصلت السفينة الحربية «ويزارد»
Wizard
إلى الإسكندرية، تحمل أخبار قرب وصول الحملة الإنجليزية، وفي اليوم التالي كتب «مسيت» إلى الجنرال «فريزر» أنه قد تلقى رسالته المؤرخة في 5 مارس، والتي يطلب القائد فيها منه مقابلته هو والكابتن «هالويل» قبل عملية إنزال الجنود إلى البر، ثم اعتذر من عدم قدرته على تلبية هذه الرغبة؛ لضعف صحته، ثم لاعتبارات هامة تلزمه بالبقاء في الإسكندرية، أوضحها «مسيت» في قوله: «إن الوكلاء الفرنسيين قد صاروا يبذلون قصارى جهدهم، منذ أن عرف في هذه البلاد خبر مغادرة السفير البريطاني للقسطنطينية؛ ليقنعوا حاكم الإسكندرية وأهلها بقبول دخول قوة من الأرنئود إلى المدينة؛ لتقوية الحامية، ولكنه لما كان لم تبلغ هذه الحكومة (بالإسكندرية) أية أنباء رسمية عن قطع العلاقات بين بريطانيا العظمى والباب العالي ، فقد تمكنت من إحباط هذا المشروع، بأن أوضحت للحاكم (أمين أغا) أنه إنما يلغي كل سلطاته تماما إذا هو سمح للأرنئود بالدخول إلى المدينة، ولقد كان كافيا لجعل الأهلين يأخذون برأيي في عدم السماح بدخول الأرنئود أن أذكر ما أنزله هؤلاء من كوارث على أهل كل مكان ذهبوا إليه، فإذا غادرت الإسكندرية لم يعد هناك شك في وقوع الحرب لا محالة، وعندئذ سوف يستعيد الوكلاء الفرنسيون ذلك النفوذ الذي فقدوه مع أمين أغا بفضل ما أثاروه في نفسه من اشمئزاز وكره لهم، بسبب صلفهم وعجرفتهم، ويتدفق الجند من كل مكان على الإسكندرية، وحامية هذه المدينة في الوقت الحاضر على درجة كبيرة من الضعف، ثم إن السكان يميلون إلى الإنجليز بدرجة طيبة، مما يجعلني عظيم الرجاء في أن يستولى الجنود الذين تحت قيادتكم على المدينة والحصون دون إطلاق رصاصة واحدة.»
ثم استطرد «مسيت» يوضح الخطوات التي سوف يقوم بها عند ظهور الأسطول، ويدلي بآرائه فيما يجب على الجنرال «فريزر» اتخاذه من ترتيبات لإنزال جند الحملة ومباشرة العمليات العسكرية، فقال: «وسوف أذهب لمقابلة الحاكم بمجرد ظهور الأسطول، وأبذل كل جهدي لإقناعه بأن يبعث إليكم بمن يتفاوض معكم، فإذا فشلت في مسعاي هذا فسوف أرجوه أن يأذن بانسحابي مع البعثة (القنصلية)، وأرجو ألا يمانع في ذلك، ولما كنت مع ذلك غير متأكد من أنه سوف يأذن لي بمبارحة الإسكندرية، فإني أجد من الواجب علي أن أدلي إليكم ببعض آراء قد تساعدكم على رسم خطة لإنزال الجنود، ففي أبي قير يجد الأسطول مكانا أمينا، ويستطيع الجنود النزول إلى البر دون أن يتعرض لهم أحد؛ لأن القلعة في حالة تهدم، وليس بها سوى عشرين من الجند فحسب، ويمكن الحصول على الماء في كل مكان من هذا الساحل، وفي أكثر أجزاء الصحراء الرملية والممتدة بين أبي قير والإسكندرية بحفر الآبار على عمق أقدام قليلة لا سيما في الجهات التي توجد بها تجمعات النخيل، ولا يليق بي التقدم بأي نصح فيما يجب اتباعه بصدد الطريقة التي يجري بها الزحف من أبي قير إلى أسوار الإسكندرية، ويكفي أن أذكر أنه إذا قرر العدو اتخاذ مواقعه على هذه الأرض المسماة بالخطوط الفرنسية، فهم سوف يعجزون تماما عن الصمود أمام قوة من الجند البريطانيين تشن عليهم هجوما بالسونكي، ويبدو لي أن من الممكن القيام بعملية ثانوية قوية لشغل العدو، وذلك بإنزال عدد من ألف ومائتي جندي إلى ألف وخمسمائة عند مرابط العجمي، وهي بقعة يعرفها الكابتن «هالويل» معرفة جيدة، ويوجد بين جزيرة مرابط والإسكندرية خط دفاع ممتد من الميناء حتى بحيرة مريوط يتألف من خندق وسياج من الأوتاد (متاريس) للدفاع، وتعززه قلعة الحمامات من جهة اليسار، وبطارية من مدفعين في الوسط، وبطارية من مدفع واحد من جهة اليمين، ويبدو من نافلة القول ملاحظة أن الأتراك ليسوا أصحاب دراية في فن المدفعية.»
ثم تحدث «مسيت» عن ثمرة نشاطه مع مشايخ الإسكندرية، ونجاح مساعيه أخيرا على وجه الخصوص لجذب الشيخ المسيري لتأييد المصلحة الإنجليزية: فقال: وإني لأذكر بمنتهى الارتياح وأعظمه أن الشيخ محمد المسيري وهو رجل متمتع بنفوذ لا حد له على سكان هذه المدينة، قد أرسل إلي هذا الصباح (15 مارس) يجدد تأكيداته التي أعطاها لي مرارا وتكرارا، بأنه إذا حدث وغزا البريطانيون مصر، فإن أهل الإسكندرية سوف يتلقونهم بصدور مفتوحة، وأنهم أبعد ما يكونون عن مقاومتهم.
وحرص «مسيت» على إبلاغ شاهين بك الألفي بقرب وصول الحملة الإنجليزية، وحثه على القدوم من الصعيد لاستقبالها، وإذاعة هذا النبأ بين زملائه البكوات، فكتب إليه في 15 مارس أن سفينة حربية إنجليزية قد دخلت إلى ميناء الإسكندرية يوم 13 مارس، وأعلنت أن أسطولا إنجليزيا في طريقه إليها؛ ولذلك فقد صار وجود شاهين بك ضروريا، وطلب «مسيت» من شاهين أن يبعث بوفد من أنصاره إلى الإسكندرية، وأن يذيع هذا النبأ بين زملائه القواد وأن يقول لهم: إن بريطانيا العظمى تحارب تركيا، وذلك حتى تجعل الأمراء يدخلون القاهرة.
نامعلوم صفحہ