مصر في مطلع القرن التاسع عشر
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
اصناف
في برست سوف يقصد إلى البحر الأبيض، حيث كان للفرنسيين بهذا البحر أطماع محققة، كما قطع بذلك «ألكسندر بول» نفسه في مراسلاته مع «نسلن»، وقد كتب هذا الأخير إلى «بول» في 3 أغسطس 1804، أن نابليون يبغي الاستيلاء على الجزائر، وأن الفرنسيين سوف يملكونها بعد انقضاء عام واحد بعد عقد الصلح، وأما فيما يتعلق بمصر، فهو (أي «نلسن») يوافق «بول» على آرائه بصددها، ولم يكن «بول» هو وحده الذي يساوره القلق من ناحية مصير هذه البلاد، بل اعتقد «هالويل» كذلك أن الفرنسيين يريدون الاستحواذ على مصر، وكان «هالويل» من الذين اشتركوا في معركة أبي قير البحرية، ويدين بولاء عظيم لنلسن.
وعندما غادر أسطول الأميرال «لاتوش تريفيل» طولون أخيرا في 17 يناير 1805، حار «نلسن» في أمره: هل يقصد هذا الأسطول إلى «كاجلياري» على شاطئ «سردينيا» الجنوبي؟ أو يقصد المورة؟ أو مصر؟ ثم لم يلبث أن رجح أن تكون مصر هي مقصده، فقصد «نلسن» بدوره إلى المورة، وبلغته إشاعات كاذبة عن قطع العلاقات بين فرنسا والباب العالي، اعتقد بسببها أن بونابرت بسبيل الاعتداء على ممتلكات الباب العالي، وحيث إن الأسطول الفرنسي لم يظهر في مياه المورة، فقد رجح «نلسن» ذهابه إلى مصر، فواصل هو رحلته مارا بكريت إلى الشاطئ المصري، واقترب من الإسكندرية 4 فبراير 1805، وكتب في اليوم نفسه إلى «صمويل بريجز» القنصل البريطاني بالإسكندرية: «إذا حضر الفرنسيون إلى هذا المكان قبلي، فلن يصلك بطبيعة الحال كتابي هذا إليك، وأما إذا لم يحضروا فمعنى هذا أن أسطولهم قد بعثرته الأنواء، ورداءة الجو التي تعرضوا لها منذ مغادرتهم طولون، وقد كتب إلى حاكم الإسكندرية حتى يحترس من زيارة هؤلاء السادة لمدينته؛ لأنه حيث مضى أسبوع الآن دون أن يصل هؤلاء إلى سردينيا أو نابولي أو صقلية، فاعتقادي أنهم في طريقهم إما إلى مصر وإما إلى المورة ... وحيث إن حاكم الإسكندرية قد أبلغ وحذر، فأملي أن يتخذ كل ما يمكنه من وسائل للدفاع عنها، خصوصا إعداد سفن لإغراقها كي يمنع دخول الأسطول الفرنسي في الميناء القديم، وحتى يمكن تنظيف الممر إلى الميناء، أكون قد أعطيت الوقت الكافي بفضل ذلك لإيقاع العدو في الفخ مرة ثانية.» وطلب «نلسن» من بريجز أن يبعث برسالته هذه إلى «مسيت»، وأن يرسل هو؛ أي بريجز إلى أمير البحر الإنجليزي كل ما لديه من معلومات نافعة.
وهكذا كانت الفكرة المسيطرة على ذهن «نلسن» أن الفرنسيين ينوون لا محالة غزو مصر، ومع أنه وصل أمام الإسكندرية في 7 فبراير 1805، ولم يجد أثرا لأسطول فرنسي في مياهها، وزوده «بريجز» بالمعلومات التي يريدها عن الحالة في هذه البلاد، واضطر إلى استئناف مطاردته لأسطول «لاتوش تريفيل» في أماكن أخرى، فقد ظل متشبثا بفكرته وأكد للسير «ألكسندر بول» أن المعلومات التي تلقاها من «بريجز» عن الحالة في مصر - أيام حكومة خورشيد - قد زادته اقتناعا بأن مصر هي المكان الذي تقصده تلك العمارة المسلحة التي خرجت من ثغر طولون في يناير.
يؤيد ذلك ما حصل عليه «نلسن» من معلومات من «بريجز» - بسطها بدوره إلى «بول» في كتابه إليه في 11 فبراير 1805 - وهذه تبين ضعف البلاد بسبب الفوضى السياسية المنتشرة بها، مما يجعلها فريسة سهلة للفرنسيين، بينما لم يكن بالإسكندرية ذاتها سوى ثلاث فرقاطات عثمانية، وحوالي ثلاثمائة جندي في حال سيئة؛ أي انعدام وسائل الدفاع عنها، حتى إنه ليكفي في رأي «نلسن» أن يستولي عليها ستمائة جندي دون أية صعوبة، وقد أبلغ القنصل البريطاني الكابتن «هالويل» أن حاكم الإسكندرية عندما ظهر الأسطول الإنجليزي ظنه عمارة فرنسية، فاستولى عليه اليأس تماما، والسبب في ذلك أن شيئا لم يصنع لتقوية تحصينات المدينة، بل بقيت هذه على ما كانت عليه عندما غادر الإنجليز الإسكندرية في 1803، ومن المنتظر إذا استولى الفرنسيون عليها أن يعمد هؤلاء إلى تحصينها بصورة تجعلها ممتنعة على كل غاز لها ، أضف إلى هذا أن الأتراك والمماليك في حرب مستمرة في الصعيد، وقد انحاز الأرنئود في هذا النضال ضد المماليك إلى جانب الأتراك، ومن المتوقع - كما اعتقد نلسن - إذا نزل الفرنسيون في البلاد أن ينضم الأرنئود أو على الأقل قسم كبير منهم إليهم، لا سيما وقد وعدهم «ماثيو لسبس» إذا رغبوا في حضور خمسة آلاف جندي فرنسي لمساعدتهم أن تبادر فرنسا بإرسالهم إليهم، ولن يكون هناك جيش تركي لصد العدو، وسوف تقع القاهرة بسهولة في قبضة الفرنسيين كما يحدث للإسكندرية، وفي استطاعة هؤلاء عند انضمام قسم من الأرنئود إليهم أن ينشئوا جيشا في مصر من ثلاثة عشر ألف مقاتل، بل وفي وسعهم إرسال سفن صغيرة محملة بالجنود من إيطاليا، تستطيع الإفلات من مراقبة الأسطول الإنجليزي، وبهذه الطريقة ينقلون إلى مصر عشرين ألف رجل يرحب بهم أهلها، ويتعذر بعد ذلك طردهم منها، ثم اختتم «نلسن» رسالته هذه بقوله: «وعندما نأخذ بعين الاعتبار ما لمصر من أهمية في نظر فرنسا، والضرر الذي سوف تلحقه هذه بنا باستيلائها على مصر، لا يبقى هناك لدي أدنى شك في أن مقصد الأسطول الذي غادر طولون في 17 يناير والشاطئ الفرنسي في 18 يناير، إنما هو الذهاب إلى الإسكندرية ... وبناء على ما لدي من معلومات، لا أشك بتاتا في أن مصر هي الهدف الأساسي الذي يقصده أسطول طولون.»
واستمرت هذه الفكرة ذاتها مسيطرة على ذهن «نلسن» طوال الشهور التالية، فيقول «فورتسيكو»
Fortescue - صاحب تاريخ الجيش البريطاني: «إن «نلسن» في عام 1806 ظل يعتقد بأن نابليون يريد احتلال مصر، ويرغب هو بسبب الغيرة فحسب أن يسبقه إلى ذلك.» وكان من أثر أقوال «نلسن»، و«ألكسندر بول» ذيوع هذه الفكرة عن توقع حدوث غزو فرنسي على مصر في الدوائر الإنجليزية المسئولة، ثم إنه كان من أسباب رسوخها ما صار يبعث به وكيلها في مصر الميجور «مسيت» من تقارير يؤيد ما ذهب إليه «نلسن»، وقد شاهدنا كيف أن «مسيت» استمر يصف في رسائله إلى حكومته منذ 1803 إلى أوائل 1807؛ أي قبل مجيء حملة «فريزر» الفوضى السائدة في مصر، والانقسامات التي أضعفت البكوات، وجعلتهم يعجزون عن دفع الغزو الأجنبي، ونشاط الوكلاء الفرنسيين ومساعيهم لدى هؤلاء البكوات ولدى الأرنئود ومحمد علي، كما أوضحنا كيف أنه صار يدعو لتدخل البريطانيين المسلح لمنع الفرنسيين من النزول في هذه البلاد، وصار يعتمد على هؤلاء البكوات أنفسهم في مؤازرة عمليات الإنجليز العسكرية، بالرغم من انقساماتهم وتفرقهم شيعا وأحزابا، ينحاز بعضها إلى الإنجليز والبعض الآخر إلى الفرنسيين، ويطاردهم محمد علي، فالميجور «مسيت» هو الذي ظل لا يرى أثناء هذه السنوات الأربع (1803-1807) في أي تغيير يحدث في ميدان هذه الفوضى الضاربة أطنابها في مصر سوى مبرر لأن يطلب من حكومته إما إرسال جند بريطانيين، أو فرقاطة للتجول في مياه الإسكندرية وعلى طول الساحل المصري إنقاذا للموقف، ولاحتلال الإسكندرية تمهيدا لاحتلال البلاد بأسرها، ولقد ترتب على أقوال «مسيت» وتأكيداته أن ساد اعتقاد المسئولين في لندن أن مصر - وقد عجز أصحاب السيادة عليها وهم العثمانيون عن دعم سلطانهم بها، وأنهكت النزاعات الداخلية قوى الطوائف المتنافسة على السلطة والحكم - فقد صارت فريسة سهلة للطامعين فيها، وهم الفرنسيون الذين أصبح من المنتظر انقضاضهم على البلاد في أي وقت، حتى إنه صار لزاما على إنجلترة أن تتأهب بين لحظة وأخرى لدفع هذا العدوان.
ثم تزايد فزع الإنجليز من الغزو الفرنسي، كما رسخ اعتقادهم بقرب وقوعه عندما حدث التفاهم بين نابليون والسلطان العثماني سليم الثالث في غضون عام 1806، وهو التفاهم الذي أوضحنا أسبابه وظروفه في فصول سابقة، وتوهم الإنجليز أن مصر هي ثمن هذا التفاهم الفرنسي العثماني، فيتمكن الفرنسيون الآن من تحقيق ما امتنع عليهم فعله في عام 1798؛ أي احتلال هذه البلاد بموافقة الباب العالي، وهكذا اتفقت أساليب الإنجليز في الحالين: التصميم على التدخل بالقوة المسلحة؛ لمنع نزول الفرنسيين في مصر، ثم طردهم منها عندما كان هؤلاء في عداء مع تركيا، وتقرير التدخل بالقوة المسلحة لدفع الغزو الفرنسي المتوقع، عندما كان الفرنسيون - الآن - أصدقاء للباب العالي.
وصح عزم الحكومة الإنجليزية على استخدام الضغط، ووسائل التخويف مع الباب العالي لحمله على فصم عرى التحالف مع تركيا، ثم التدخل تدخلا مسلحا لمنع نزول الفرنسيين في مصر، فصدرت التعليمات - إلى الأميرال «كولنجوود» وهي التعليمات التي أسفرت عن إرسال «داكويرث» إلى مياه القسطنطينية، ثم إقلاع حملة «فريزر» إلى الإسكندرية . (2) الغرض من إرسال حملة «فريزر»
ولم يكن قطعا الغرض من إرسال حملة «فريزر» فتح مصر وامتلاكها، ولكن احتلال الإسكندرية فحسب؛ لمنع نزول الفرنسيين في البلاد، ثم لتأييد الأحزاب الموالية للإنجليز في مصر، ولما لم يكن إذن الغرض من إرسال هذه الحملة فتح مصر واحتلالها، فقد اعتمد الإنجليز على احتلالهم للإسكندرية كخير وسيلة تمكنهم من دعم سلطان البكوات من أصدقائهم برئاسة الألفي، وتمهد لهم تعزيز نفوذهم في هذه البلاد، عن طريق هؤلاء وعلى أنقاض النفوذ الفرنسي، وتتضح هذه الحقائق من نص وروح التعليمات التي صدرت إلى الجنرال «فوكس»، وهي تعليمات اعتبرت سرية جدا، فقد جاء في هذه ما معناه: إن بعض التصرفات التي صدرت عن الباب العالي أخيرا، جعلت ضروريا ولا ندحة عنه اتخاذ إجراءات سريعة وفاصلة مع الحكومة العثمانية؛ ولذلك فقد كلفت بإبلاغكم أن تعليمات قد صدرت إلى اللورد «كولنجوود» نائب أمير البحر لإرسال قسم من الأسطول للإبحار، دون إضاعة لحظة واحدة إلى مضايق القسطنطينية، حتى يتخذ موضعا يتيح لأسطوله القيام بعمل عدواني ضد القسطنطينية في حالة عدم نجاح مساعي السفير «أربثنوت» لدى الباب العالي، ولقد كلفت كذلك بإبلاغكم أن تعليمات قد أرسلت إلى اللورد «كولنجوود» بتوجه الضابط المتولي قيادة هذا القسم من الأسطول في حالة بدء العمليات الحربية أن يرسل فورا إحدى سفنه لإبلاغكم ذلك، ومن واجبي تعريفكم أن رغبة حكومة جلالة الملك أن تبادروا حتى قبل أن تأتيكم هذه الإفادة من جانب «كولنجوود» باتخاذ كل الترتيبات، وإتمام كل الاستعدادات اللازمة لنقل جيش من خمسة آلاف جندي إلى مصر، وأنه بمجرد وصول إفادة «كولنجوود» إليكم تصدرون الأوامر اللازمة لوضع هذا الإجراء؛ أي إرسال الجيش إلى مصر موضع التنفيذ.
وليس غرض حكومة جلالة الملك من تقرير هذا الإجراء فتح مصر، وإنما الاستيلاء على الإسكندرية فحسب؛ لمنع الفرنسيين من وضع أقدامهم مرة أخرى في هذه البلاد؛ ولتمكين قوات جلالته الموجودة بالإسكندرية من إعطاء تأييدهم وحمايتهم لما قد يوجد من أحزاب في هذه البلاد قد تكون ذات رغبة صادقة في أن تكون لها علاقات ودية في كل الأوقات مع بريطانيا العظمى؛ ولذلك فإنه لا مناص عند اختيار قائد لهذه الحملة من بذل كل عناية ليس للتحقق من أنه صاحب مواهب عسكرية فحسب، بل وللتحقق كذلك من تمتعه بكل تلك المزايا التي تؤهله للقيام على خير وجه بما يعهد إليه من مهام مدنية وسياسية على جانب عظيم من الأهمية، الأمر الذي تستلزمه حتما طبيعة الخدمة أو المهمة المكلف بها.
نامعلوم صفحہ