مصر في مطلع القرن التاسع عشر

محمد فؤاد شكری d. 1392 AH
165

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

ومع ذلك، فقد أظهرت حملة «فريزر» محمد علي بمظهر السياسي المحنك بعيد النظر، فقد انتهز فرصة وجود قوات الإنجليز في البلاد، ليعمل على جذب إنجلترة إلى جانبه، وهو الذي قد تخطى العاصفة بسلام، وصار يهمه الآن أن يحاول الظفر بتأييد هذه الدولة التي ناصبه وكلاؤها العداء لقضيته؛ أي الفوز بالولاية الوراثية في الوضع الذي سبق ذكره، ولم تمنعه صداقة «دروفتي» ومساعدته له عن إقصاء نائبه «مانجان» وقت مفاوضاته مع مندوبي الجنرال «فريزر»؛ وذلك لأنه لم يفته أن هذه الدولة (إنجلترة) لها أسطول كبير، ولا تزال مسيطرة في البحر الأبيض، وعجز نابليون العظيم عن غزوها في عقر دارها أو هزيمتها، وفي وسعه فضلا عن ذلك كله، أن يجعل منها عميلا طيبا يجني من معاملاته معها ربحا محققا، بسبب حاجتها إلى منتجات وحاصلات باشويته لتموين قواتها الرابضة في شتى المواقع في البحر الأبيض، وإذا كانت إنجلترة قد ناصبته العداء بعد ذلك بسبب اصطدامه المعروف في الحرب الشامية مع الباب العالي وتمسك الإنجليز بخطة المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، فقد أتاحت حملة «فريزر» الفرصة لإرساء قواعد تلك السياسة التي حرص محمد علي من جانبه على اتباعها في مستقبل أيامه، ونعني بذلك كسب صداقة إنجلترة دائما.

وأما النتيجة المباشرة لحملة «فريزر» فيما يتعلق بباشوية محمد علي، فكانت تمكينه من الاستيلاء على الإسكندرية التي كانت خارجة عن حكمه، واطمأن بفضل ذلك إلى تحطيم هذه الحلقة التي ربطت بين باشويته والباب العالي، والتي أفاد هذا الأخير من وجودها، فاتخذ من الإسكندرية مكانا لتدبير مؤامراته ضد حكومته، كما وجد أعداء الباشا مرتعا خصيبا يحيكون فيه كذلك دسائسهم ضده، على نحو ما كان يفعل الوكلاء الإنجليز، فأغلق هذا الباب الآن بعد دخول الإسكندرية في حوزة محمد علي، أضف إلى هذا أن امتلاك الإسكندرية كان الخطوة الأولى التي خطاها محمد علي من أجل بسط سلطان باشويته على أرجاء القطر الذي تألفت هذه منه، حتى إذا قضى على المماليك نهائيا بعد ذلك بثلاثة أعوام تقريبا، ودخل الصعيد جميعه في حوزته، تم بسط سلطانه على هذه الباشوية: الأمر الذي كان لا مناص من حدوثه، إذا شاء محمد علي دعم أركان الولاية واستقرار حكمه بها. (1) الفزع من الغزو الفرنسي

وترتد أسباب حملة «فريزر» في أصولها البعيدة إلى الأغراض التي استهدفتها سياسة الإنجليز الإيجابية في مصر منذ جلائهم عنها، وقد تحدثنا عنها طويلا، ثم إنها ترتد في أصولها القريبة إلى تأزم العلاقات بين تركيا وبين روسيا وحلفائها الإنجليز، بالصورة التي أوضحناها، وفي كلا الحالين، كان منع تكرر الغزو الفرنسي لهذه البلاد هو مرمى رجال السياسة والحرب من الإنجليز، ولقد كان جلاء البريطانيين في مارس 1803 هو التضحية التي لم يجدوا مناصا من بذلها، إذا شاءوا المحافظة على السلم الذي قررته معاهدة «أميان»، على أمل أنه إذا تنفذت شروط هذا الصلح واستقر السلام، انتفى خطر الغزو الفرنسي على مصر، ولم تتجدد التجربة القاسية التي نشأت من نزول حملة بونابرت في هذه البلاد عام 1798، ولكنه سرعان ما تبين للإنجليز أن هذه التضحية ذهبت سدى، ودون مقابل، عندما استؤنفت الحرب مع فرنسا بعد شهرين فحسب من جلاء القوات البريطانية عن مصر، ولقد وجد من السياسيين الإنجليز - قبل أن يتحطم صلح «أميان» نهائيا - من كان يرى لتأمين سلامة إنجلترة وخاصة ممتلكاتها في الهند أن يستمر الاحتلال البريطاني لمالطة والإسكندرية ورأس الرجاء الصالح بصورة دائمة، أو على الأقل لمدة طويلة أخرى، بالرغم مما في ذلك من خرق لمعاهدة «أميان»، واستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه على ما ظهر من إصرار من جانب بونابرت القنصل الأول وقت إبرام الصلح على اشتراط إخلاء البريطانيين لمالطة والإسكندرية، فراحوا يؤكدون أنه ما فعل ذلك إلا ليفسح الطريق بين طولون والإسكندرية؛ لإرسال حملة فرنسية إلى مصر فيما بعد وعند أول فرصة سانحة، وكان من أثر تزايد شكوك الحكومة الإنجليزية في نوايا بونابرت بعد جلاء الجيش البريطاني عن الإسكندرية، ثم بسبب بقاء الجيوش الفرنسية في إيطاليا كذلك، أن رفض الإنجليز إخلاء مالطة، واحتدم النقاش حول مسألة مالطة بين بونابرت وبين «اللورد هويتوورث»

Whitworth

السفير الإنجليزي في باريس، واضطر الأخير إلى مغادرة باريس في 13 مايو 1803، وقطعت العلاقات بين فرنسا وإنجلترة، واستبد الخوف برجال السياسة والحرب الإنجليز من محاولة فرنسية جديدة لغزو مصر.

وكان مبعث مخاوف الحكومة الإنجليزية - سواء أكانت هذه المخاوف حقيقية أم وهمية، وما صار يساورها من شكوك في نوايا بونابرت من حيث عزمه على إجراء انقلاب في الشرق يقلب به الأوضاع رأسا على عقب، ثم فتح مصر مرة ثانية - أولا: استئناف العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا وتركيا بعد صلح «أميان»، ونشاط السياسة الفرنسية في القسطنطينية، وثانيا: قيام «سباستياني» بمهمته المعروفة خصوصا في مصر، ثم نشر تقريره المشهور في يناير 1803، وأخيرا: تحذيرات القواد الإنجليز: «هتشنسون» و«كافان» و«ستيوارت» الذين اعتقدوا أن الفرنسيين وقد كانوا يمتلكون البلاد في عهد حملتهم على مصر، فإنهم لن يتخلوا عن الرغبة في العودة إليها، وبسط سلطانهم عليها مرة أخرى، وكان عندما وصل تقرير «سباستياني» عن استطالة الاحتلال البريطاني للإسكندرية أن بعث «هويتوورث» - الذي اتفق وصوله إلى مقر سفارته في باريس حوالي هذا التاريخ - إلى «هوكسبري» وزير الخارجية في نوفمبر 1802، يؤكد كأمر مفروغ منه أن القنصل الأول بموافقة القيصر وتواطؤ الأتراك قد قرر إرسال حملة فرنسية جديدة إلى مصر، ويوصي لذلك بإرسال أسطول إنجليزي قوي لمراقبة طولون، وحراسة الأدرياتيك، ويقول: إنه لإحباط مشروعات بونابرت العدوانية لا معدى عن تمسك الإنجليز بمالطة والإسكندرية، فعززا اتهام «هويتوورث» للقنصل الأول بالتآمر مع الروس، بل ومع الأتراك أنفسهم على غزو مصر شكوك الحكومة الإنجليزية، وكان من أقوى العوامل التي دعتها إلى خرق معاهدة «أميان» من جانبها، ثم إن هذه الحكومة لم يعوزها الدليل على اعتزام بونابرت امتلاك هذه البلاد ثانية، عندما نشر القنصل الأول تقرير «سباستياني» في آخر يناير 1803، واتخذت من نشر هذا التقرير ذريعة لإصرارها على عدم إخلاء مالطة، قبل أن يدلي القنصل الأول بتفسيرات مرضية تزيل ما يساورها من قلق من ناحية سياسته.

ومع أن «سباستياني» نفسه - وقد عاد من بعثته إلى باريس - راح يؤكد للسفير الإنجليزي «هويتوورث» أنه ما كان ينوي بتاتا - عند حديثه عن الجيش البريطاني في مصر - إهانة هذا الجيش في تقريره، وقد كانت هذه إحدى المآخذ التي أخذها الإنجليز على هذا التقرير، ومع أن «تاليران» وزير الخارجية الفرنسية راح بدوره ينفي للسفير وجود أية مشروعات عدوانية ضد مصر لدى القنصل الأول، ويؤكد أن الحالة المالية في فرنسا تجعل السلم ضروريا ولا غنى لها عنه، ويعزو ما قد يكون قد تضمنه التقرير من مسائل جرحت شعور البريطانيين إلى حماس ضابط شاب، فسر وجود القوات البريطانية بالإسكندرية بمثابة إعلان للحرب من جانب إنجلترة على فرنسا، ثم صار يسأل «هويتوورث» عن نوع الترضية التي يطلبها لتسوية هذه المسألة، ومع أن بونابرت نفسه قد دعا السفير لمقابلته في قصر «التويلري» للمباحثة معه في موضوع معاهدة «أميان»، وأعلن إليه أن مصر لا تستحق دخول فرنسا في حرب بسببها، وأنه لا يفكر في أية مشروعات عدوانية ضدها؛ لأنه يعتقد أن هذه البلاد سوف تكون من نصيب فرنسا إذا حدث انهيار الإمبراطورية العثمانية، ووزعت أملاكها بين الدول، وأنه يصر على إخلاء مالطة والإسكندرية لصون السلام، فقد ذهبت سدى جميع هذه المساعي في انتزاع مخاوف الإنجليز من ناحية مشروعات بونابرت في الشرق، وجعلتهم هذه المخاوف والشكوك يقررون البقاء في مالطة، وإن وافقوا على إخلاء الإسكندرية لردها إلى حليفهم الباب العالي، تنفيذا لوعودهم له، واستبقاء لمودته، حتى لا ينضم إلى أعدائهم عند استئناف الحرب بينهم وبين فرنسا، ولقد كانت تلك الموافقة على إخلاء الإسكندرية مبعث ندم في الدوائر الحكومية وغيرها في إنجلترة، ولما كان بونابرت قد تحدث في مقابلته مع «هويتوورث» عن انتقال مصر إلى حوزة فرنسا عند انهيار الإمبراطورية العثمانية، فقد تزايد إصرار الإنجليز على التمسك بمالطة كخطوة لا غنى عنها لدرء أي خطر فرنسي يتهدد مصر، ثم تبعا لذلك أملاكهم في الهند، وكان «بيت»

الذي اعتزل الوزارة منذ مارس 1801، من أكبر مؤيدي هذا الرأي، كما كان أعضاء الوزارة التي شكلها بعده «أدنجتون»

Addington

من هذا الرأي، الأمر الذي أفضى إلى إنهاء صلح «أميان»، واستئناف الحرب بين إنجلترة وفرنسا، وكان التمسك باحتلال مالطة إذن هو الضمان الذي لجأت إليه الحكومة الإنجليزية لمنع ذلك العدوان الذي توقعت حدوثه على مصر كجزء من مشروعات بونابرت في الشرق.

نامعلوم صفحہ