مصر في مطلع القرن التاسع عشر

محمد فؤاد شكری d. 1392 AH
148

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

وعلى ذلك فقد شهدت الفترة التي تلت المناداة بولاية محمد علي صراعا عنيفا بين «مسيت» و«دروفتي»، بدأ كحلقة من حلقات التنازع بين إنجلترة وفرنسا على النفوذ في مصر وفي صورته الأولى غير المتكافئة؛ بسبب إيجابية السياسة الإنجليزية وسلبية تلك الفرنسية، ثم اتخذ طريقا جديدا بعد ذلك بفضل ما طرأ من تبدل على السياسة الفرنسية المحلية نقلها من سلبيتها السابقة إلى محاولة التدخل تدخلا إيجابيا في شئون البلاد والتأثير على مجريات الحوادث بها، فصار النزاع بين الفريقين متكافئا، واتخذ في مرحلته الحاسمة صورة النضال من أجل تأييد الألفي كما فعل «مسيت» أو تأييد محمد علي كما فعل «دروفتي».

وأفاد محمد علي من هذا الصراع فائدة كبرى، بفضل ما كان لنصيره «دروفتي» من صفات المهارة الفائقة والنشاط الجم، والجرأة البالغة التي ميزته عن خصمه، وضمنت له التفوق عليه، وجعلته يبتدع سياسة إيجابية محلية يمضي قدما في تنفيذها، ويتحمل وحده مسئوليتها، بينما كان «مسيت» بطيء الحركة، لا قدرة له على ابتكار الأساليب التي تمهد له طريق الفوز، أو تنفيذ الخطط التي يعهد بها إليه تنفيذا يكفل له النجاح، لا يتسع أفق تفكيره لإدراك ما يترتب على انقلاب مايو 1805 الذي أوصل محمد علي إلى الولاية من آثار لا غنى له عن إدخالها في حسابه إذا شاء رعاية المصالح الإنجليزية والحيلولة دون وقوع غزو أجنبي على مصر من ناحية فرنسا، هدف سياسة حكومته المباشر من كل نشاطها منذ جلاء جيشها عن مصر في 1803، بل فوت على نفسه وعلى حكومته الفرصة بسبب إصراره في عناد على مؤازرة المماليك والألفي، ومطالبته حكومته باحتلال الإسكندرية تمهيدا - كما أراد - لاحتلال مصر بأسرها، وذلك بدلا من تهيئة السبل لدعم أركان الحكومة القائمة وتقويتها بالدرجة التي تمكنها من الدفاع عن البلاد ورد الغزو الأجنبي عنها.

وقد خسر «مسيت» معركة تنازع النفوذ مع غريمه «دروفتي»؛ لأنه ألقى بثقله لترجيح الكفة الخاسرة كفة الألفي والمماليك عموما، وهم الذين فرقت بينهم الخلافات والأحقاد الشخصية، وسيطرت الأنانية على نشاطهم، ثم فات «مسيت» أن يدرك حقيقة على درجة عظيمة من الأهمية، هي أن الفصل في مصير هذه البلاد ارتهن في نظر الحكومة الإنجليزية بتطور النضال بينها وبين حكومة الإمبراطور الفرنسي، وعلاقة كل من هاتين الحكومتين بتركيا صاحبة السيادة الشرعية على مصر. وما كانت إنجلترة تريد احتلال مصر كجزء من خطتها العسكرية والسياسية الموضوعة وقتئذ، وما كانت لتؤثر بقاء قواتها في هذا البلد على استخدامها في ميادين أخرى إذا تبين لها أن مبعث الخطر الذي يتهددها ليس غزوا فرنسيا يقع على مصر ولكن سيطرة نابليون في أوروبا ذاتها.

ولقد أسدى «دروفتي» خدمات جليلة لمحمد علي أعانته بدرجة كبيرة على اجتياز الأزمات التي صادفتها حكومته في دور التجربة والاختبار الذي كان عليها أن تمر به، وكانت خصومة «مسيت» مبعث صعوبات عديدة له، وبينما حدث تنازع على النفوذ بين «مسيت» و«دروفتي» عرفنا أسبابه وأصوله انفسح ميدان للنشاط الأجنبي في مصر عرف محمد علي كيف يفيد منه قبل كل شيء لزيادة التفرقة والانقسام بين المماليك وشك حركة بكوات الصعيد في الوقت الذي وجب عليه فيه أن يكرس كل جهوده لتخطي أزمة النقل إلى سالونيك بسلام أولا، ثم التفرغ لملاقاة الإنجليز الذين جاءوا لاحتلال الإسكندرية في عام 1807 ثانيا. (1) خصومة «مسيت» لمحمد علي

وينتمي «أرنست مسيت» إلى أسرة السير جون «ستيوارت» الذي حضر المكيدة المعروفة ضد البكوات في أكتوبر 1801، ثم أوفد في بعثته التي سبق الكلام عنها إلى تركيا وإلى مصر في عام 1802 وتولى مهمة إخلاء الجيش الإنجليزي للبلاد في مارس من العام التالي، وقد عمل «مسيت» ياورا للجنرال «ستيوارت»، وأوفده الأخير لمقابلة الألفي عند بركة غطاس قبيل معركة دمنهور (20 نوفمبر 1802) وبعدها، ثم إنه عندما وصله أمر حكومته بإبقاء ضابط مقيم بالقاهرة بعد رحيل الجيش البريطاني من مصر للاتصال مع ممثل الباب العالي بها ومع سفير بريطانيا في القسطنطينية، بشأن كل الأمور التي قد تتعلق بما نجم عن إقامة الجيش بالبلاد؛ أي فيما يتعلق بحكومة الباشا العثماني من جهة وبنشاط المماليك من جهة أخرى، وتعطيل المكائد الفرنسية من جهة ثالثة، فقد وقع اختيار «ستيوارت» على الميجور «مسيت» لملء هذا المنصب، وأبلغ الباشا العثماني وقتئذ، خسرو محمد نبأ هذا التعيين في 21 يناير 1803، وبعث إليه بمسيت حتى يبلغه ما لدى ستيوارت من تعليمات بشأن الجلاء، ورغبة حكومته في وجود مقيم لها بالقاهرة للأغراض السالفة الذكر، وحتى يشرف «مسيت» في الوقت نفسه وبصورة مؤقتة على مصالح بريطانيا التجارية في مصر وعلى شئون رعاياها أو الأجانب الذين هم تحت حمايتها، وقد رحب خسرو باشا 9 فبراير بوجود مقيم بريطاني في مصر له الاختصاصات التي ذكرها الجنرال «ستيوارت»، وسره أن يقع اختيار الأخير على الميجور «مسيت» للقيام بهذه المهمة؛ وعلى ذلك فقد بقي «مسيت» ضمن أعضاء البعثة التي تركها «ستيوارت» في مصر قبل مغادرته البلاد، وكانت تتألف - على نحو ما سبقت الإشارة إليه عند بسط السياسة الإنجليزية الإيجابية في مصر - من الكابتن هايز والسيد بريجز إلى جانب «مسيت» نفسه، وكانت مهمة الأخير إلى جانب ما ذكرناه حسبما جاء في تعليمات «ستيوارت» إليه في 8 مارس الوقوف على آراء خسرو محمد الباشا العثماني، في المسائل التي هي موضع اهتمام حكومة لندن، وفي 9 مارس أبلغ «ستيوارت» اللورد «هوبارت» نبأ تعيينه الميجور «مسيت» الذي قام بوظائف سكرتيره وكيلا بريطانيا في مصر.

وقد اعتبر وجود هذه البعثة المؤلفة من «هايز» و«مسيت» و«بريجز» ذا منفعة كبيرة في وقت كان من المنتظر أن يزول فيه بعد رحيل الجيش البريطاني من مصر مبعث الخوف الذي ظل يردع العثمانيين والمماليك أثناء وجود الإنجليز عن الانغماس في خصومتهم ضد بعضهم بعضا أو يخشى فيه أيضا من أن يتناسى هؤلاء تلك النصائح الثمينة التي حرص على إسدائها إليهم دائما قواد الحملة وكبار رجالها لإنهاء نزاعاتهم والتوفر على تمكين البلاد من الدفاع عن نفسها ضد الغزو الأجنبي.

وأما «مسيت» فقد اتخذ مقره بالقاهرة إلى أن انتقل في فبراير 1804 إلى الإسكندرية، ثم ظل يشغل منصب الوكيل البريطاني في مصر حتى أبلغه «أربثنوت» السفير الإنجليزي في القسطنطينية في 5 يونيو 1806، أنه قد جاءته من إنجلترة أوراق اعتماده (أي اعتماد «مسيت») قنصلا عاما لحكومة جلالة الملك في مصر، وأنه (أي «أربثنوت») قد نال تثبيت هذا الاعتماد من الباب العالي.

ورسخ في ذهن «مسيت» لتأثره بآراء العسكريين والسياسيين الإنجليز الذين عنوا بموضوع الدفاع عن مصر بعد جلاء جيشهم عنها، ثم بما بذل من جهود سواء في القاهرة أو في القسطنطينية لإنهاء النزاع بين الباب العالي وبين البكوات المماليك لإمكان ترتيب هذا الدفاع، أن الأخيرين وحدهم هم الذين في استطاعتهم إذا استرجعوا سلطانهم القديم في حكم هذه البلاد رد الغزو الأجنبي الفرنسي عنها، ولم يفد تطور الحوادث شيئا في زحزحة «مسيت» عن اعتقاده، بل على النقيض من ذك كان يتزايد عناده بدرجة توفر الأدلة على أن المماليك لن ينجحوا في إنشاء حكومة ثانية في مصر، ويبدو أن هذا العناد قد استبد به حتى إنه أفقده القدرة على وزن الأمور وزنا صحيحا وجعله ينخدع بظواهرها في أحايين كثيرة، وكان - علاوة على ذلك - من أهم بواعث حقده على محمد علي.

وظهر عجز «مسيت» عند أول أزمة صادفته بعد تسلمه مهام منصبه في القاهرة، عندما طرد خسرو باشا من الولاية وأعلنت قائمقامية طاهر باشا، وقد كان ما حدث عصيانا ظاهرا على الباب العالي الذي أقصى ممثله الشرعي عن الحكم، ومع ذلك فقد كتب «مسيت» إلى «هوبارت» في 8 مايو 1803 يصف مركزه بأنه صار دقيقا؛ لأنه لا يدري هل يعتبر طاهر باشا عاصيا على الدولة أم من رعاياها المخلصين؟

بيد أن مقتل طاهر باشا بعد قليل أغنى «مسيت» عن الفصل في هذه المسألة، ولو أن الحوادث ما لبثت أن تلاحقت بسرعة بعد ذلك إثر بعضها بعضا حتى شهد «مسيت» تأسيس الحكومة الثلاثية في القاهرة من البرديسي وإبراهيم ومحمد علي، ومع أنه توقع أن تنفصم عرا الاتحاد بين البكوات وبين الأرنئود وزعيمهم محمد علي قبل مضي وقت طويل، فإنه لم يتخذ للأمر عدته؛ فلم يفلح في استمالة البكوات أصحاب السلطة في القاهرة، وهم الذين اعتقد «مسيت» أنهم على صلات وثيقة بالوكيل الفرنسي «ماثيو لسبس» ويؤيد عثمان البرديسي على وجه الخصوص المصلحة الفرنسية، ولم يفلح في كسب ثقة محمد علي والأرنئود وهم القوة العسكرية التي استندت عليها الحكومة المملوكية والتي دلت حوادث إخراج أحمد باشا والي المدينة وينبع من البلاد ودعوة البكوات أنفسهم لتسليم مقاليد الحكم في القاهرة على أنهم قوة ذات أثر في الموقف لا يجوز إغفالها، زد على ذلك أن البكوات بنزاعهم مع علي باشا الجزائرلي الذي تعين لباشوية القاهرة كانوا عصاة وثوارا على الباب العالي، ولكن «مسيت» بقي بالقاهرة، واستأثر بانتباهه الموضوع الذي شغله دائما وهو ترتيب الدفاع عن مصر، فقد علم بأن إنجلترة أعلنت الحرب في 16 مايو 1803 على فرنسا وهولندة والجمهورية الإيطالية ومملكة أتروريا ، فبعث بهذا الخبر إلى حكومة الهند، وصار - كما قال في رسالته إلى «هوبارت» من القاهرة في 8 يوليو يشير بشدة على البكوات بأن يضعوا قوات قادرة على الدفاع في كل من دمياط ورشيد، وبأن يشرعوا فورا في إصلاح قلعة أبي قير المهدمة، مبينا لهم ضرورة هذه الخطوات التي يتسنى عند اتخاذها دفع الغزو الفرنسي عن البلاد، وهو غزو من المحتمل وقوعه إذا أفلت الفرنسيون من مراقبة أسطول الإنجليز اليقظة.

نامعلوم صفحہ