مصر في مطلع القرن التاسع عشر

محمد فؤاد شكری d. 1392 AH
145

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

القديمة لدى البكوات، ومن واجبي إبلاغك أن «رفائيل» هذا من جزيرة «شيور» أي إنه من رعايا الدولة العثمانية، ولا حق له في حماية روسيا، ويشير «دروفتي» هنا إلى حادث محاولة القيصرة كاترين تحريض مراد وإبراهيم وغيرها من البكوات على نبذ السيادة العثمانية والخروج على طاعة السلطان والتحالف مع روسيا، وأوفدت لهذه الغاية «دي توناس» قنصلا لها بالإسكندرية 1788، وقد فشل هذا الأخير في مهمته، وقبض عليه الانكشارية في بولاق ثم بعثوا به أسيرا إلى القسطنطينية حيث لقي حتفه بها في السنة نفسها.

ولكن جهود الألفي في هذه الناحية لم تسفر عن شيء؛ لأنه لم يلبث أن اضطر إلى رفع الحصار عن دمنهور، ثم وافاه أجله بعد ذلك في يناير 1807 وهو في طريقه إلى الفيوم والصعيد بعد الانسحاب من دمنهور يبغي الانضمام إلى البكوات القبالي والترؤس عليهم.

ولقد تضافرت أسباب عدة على إرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، أهمها استماتة أهلها في الدفاع عنها، ثم وقف الذخائر التي كان يمد بها القبطان باشا معسكر الألفي، وامتناع القبطان عن محاولة الاستيلاء على رشيد بالرغم من إلحاح الألفي عليه في ذلك، أو الاستيلاء على غيرها من المواقع كدمياط ذاتها كما كان ينصح به «مسيت»، ثم انتهاز محمد علي فرصة استطالة الحصار لبذر بذور التفرقة والشقاق في معسكره وتحريض العصاة من الأرنئود والعثمانلي الذين كانوا قد انضموا إلى الألفي، ثم تحريض العربان على ترك خدمته، وقد ساعد على نجاح محمد علي في مساعيه هذه مسلك الألفي نفسه المنطوي على الغطرسة والكبرياء في علاقاته مع رؤساء الجند والعربان وسوء معاملته لهم، فقال «مسيت» في رسالته السالفة الذكر في 27 ديسمبر: إنه قد تفشى أخيرا بين جند الألفي روح العصيان والرغبة في مغادرة جيشه، وإن عددا من رؤساء العرب صاروا غير راضين عنه لما يلحقه بهم من إهانات بالغة ومخاطبتهم بالشتم دائما، بل إن «مسيت» يعرف كذلك أنه قد أرغم عددا من هؤلاء الرؤساء العرب على تسليم زوجاتهم له، كما أنه منعهم من جمع أية إتاوات من القرى المجاورة، ثم إنه علاوة على ذلك لا ينفك يطلب منهم علائف لفرسانه ومؤنا لأهل بيته، فالغضب منه في ازدياد، حتى إنه لو وقع عليه هجوم شديد الآن لصار تحطيمه أمرا مفروغا منه بسبب الروح المنتشرة بين جنده.

ثم كان من أسباب غضب الجند والعربان منه أنه عجز عن دفع مرتباتهم، زد على ذلك أن البكوات الستة والمماليك الذين كانوا قد حضروا من الصعيد لنجدته لم يلبثوا أن تركوه لعجرفته واستعلائه عليهم، وذلك منذ أوائل شهر أكتوبر، كما تركه على أثر مبارحة القبطان باشا للإسكندرية عدد من الأرنئوديين الذين كانوا في خدمته والذين تبين لهم فشل قضيته، ولم يلبث ترجمانه «ستافراكي» أن تركه هو الآخر في ديسمبر بعد أن اشتط الألفي في إساءة معاملته، وكتب الوكلاء الفرنسيون في 14-27 ديسمبر أن خازندار شاهين بك الألفي مع خمسة عشر مملوكا قد ذهبوا إلى القاهرة تاركين معسكر الألفي، ولم يشأ بكوات الصعيد إرسال أية نجدات إليه، وصار لذلك كله من المتوقع أن يرفع الألفي الحصار عن دمنهور؛ أي الإقرار بالعجز والفشل وانهيار كل آماله التي عقدها على امتلاك دمنهور التي أراد أن يتخذها مقرا لنشاطه يستطيع منه بفضل السيطرة على الأقاليم المجاورة لدمنهور والقريبة منها تزويد جنده وعربانه بالمؤن والأغذية وإمداد فرسانه بالعلائف اللازمة لخيولهم، وجمع الإتاوات لدفع المرتبات لقوات كانت تتألف من ستمائة من المماليك الفرسان، ومائتي جندي ثم ثمانمائة من المشاة الأرنئود والعثمانلي إلى جانب عدد من المدفعيين الأوروبيين لخدمة ستة مدافع، وذلك كله عدا ست قبائل من البدو يبلغ عدد رجالها حوالي الستة آلاف فارس، زد على ذلك أن وجوده حوالي دمنهور يجعله قريبا من المكان المنتظر أن تنزل فيه الحملة الإنجليزية على الشاطئ المصري، وهي الحملة التي استمر «مسيت» يؤكد له أنها سوف تأتي قريبا.

غير أنه حدث في أواخر نوفمبر ما أنعش آمال الألفي، وحمله على الاعتقاد بأنه إذا ما عجز نهائيا عن إخضاع دمنهور وأرغم مكرها على مغادرة البحيرة فسوف يكون في وسعه العودة بعد قليل لحصارها، واستقبال الإنجليز عند مجيء حملتهم، ثم الاستعانة بهم على تأسيس حكمه وطرد الأرنئود ومحمد علي من مصر نهائيا، هذا الحادث كان وفاة منافسه الأول عثمان البرديسي.

فقد كان عثمان البرديسي يشكو من أمد طويل من مرض المرة (أو الصفراء) وهو داء يتطلب العلاج والراحة وهما ما لم يتوافرا له منذ خروج البكوات إلى الصعيد، فأنهك التعب قواه، وزادت جراحه القديمة من آلامه، فاشتدت عليه العلة، ولم يجد طبيبا قادرا بالصعيد، فأشار عليه أحد أدعياء الطب بتناول شراب ممزوج بحامض كبريتي عجل بموته في منفلوط في 19 نوفمبر 1806 (8 رمضان 1221) في سن الثانية والأربعين، وفي الوقت الذي كان يتهيأ فيه لإرسال أحد رجاله إلى باريس بعد أن تكررت تأكيدات «دروفتي» له في الأيام الأخيرة باهتمام «بونابرت العظيم» بقضية البكوات، وأراد استعجال نجدته.

وقد حمل خبر وفاة البرديسي إلى محمد علي أحد المغاربة، وصل إلى القاهرة في 4 ديسمبر وكان معفرا منهوك القوى بعد أن جد في السير طوال خمسة عشر يوما منذ أن غادر منفلوط التي قال إنه لم يتركها إلا بعد أن حضر تشييع جنازة سليم بك أبو دياب الذي توفي في بني عدي وعثمان بك البرديسي في منفلوط، ثم ما لبثت أن جاءت الأخبار من وكلاء الباشا في المنيا وبني سويف تؤكد وفاتهما، وقال «دروفتي» وهو ينقل هذا الخبر إلى حكومته من الإسكندرية في 10 ديسمبر: إن الاعتقاد السائد هو أن وفاة البرديسي كانت نتيجة لفعل سم بطيء سرى في جسمه، ويشتبه أن الألفي نفسه كانت له يد في ذلك.

ونجم عن وفاة البرديسي آثار معينة في صالح محمد علي، ثم في صالح الألفي؛ ففيما يتعلق بصالح الأول، أن وفاة البرديسي قد أزالت خصما من الميدان يخشى بأسه بفضل ما كان له من سيطرة على إبراهيم بك وسائر زملائه من البكوات القبالي، ولأن وفاته حدثت في وقت كانت قد اشتدت فيه حروجة مركز محمد علي بسبب استئناف البكوات لحصار المنيا، بينما لا يزال الألفي يحاصر دمنهور، ولأن حامية المنيا كانت متمردة ويطلب جندها مرتباتهم المتأخرة، وصاروا في عصيانهم هذا شبه مستقلين بها عن سلطته، فأوقفوا السفن في النيل، وصادروا ما وجدوه بها من غلال وحبوب، وصاروا يجبون الضرائب من البلاد القريبة منهم، واستولوا على الميري، وهددوا كلما أنذرهم محمد علي بوجوب الطاعة بتسليم المنيا للبكوات، وأوفد الباشا منذ أواخر أكتوبر أحد كبار ضباطه إليهم لتهدئتهم ولكن دون طائل، وغادر حسن باشا مع جنده ملوي إلى بني سويف ينوون الذهاب إلى القاهرة لتمضية شهر رمضان بها - كما قالوا - أضف إلى هذا امتناع خورشيد عن الذهاب إلى الرحمانية في نوفمبر وتعالي صيحات الجند في كل مكان يطالبون بمرتباتهم، وبلغ من تأزم الموقف أن صار محمد علي يطلب من «دروفتي» نجدة من حوالي الخمسمائة أو الستمائة من الجند الفرنسيين من حاميات فرنسا الجنوبية أو من جيشها الموجود بمملكة نابولي، وكان الباشا منذ أن انتهت مسألة النقل إلى سالونيك بسلام قد بذل قصارى جهده لوضع حد لعصيان حامية المنيا خصوصا، فانتهز الآن فرصة ما وقع من ارتباك في صفوف البكوات بسبب وفاة البرديسي، وأرسل مبلغا من المال 300 كيس إلى رؤساء الحامية، ووجد هؤلاء أن من صالحهم الإذعان للطاعة، حينما كان كثيرون من الأجناد الذين انضموا إلى صفوف البكوات قد بدءوا ينفضون عنهم بعد وفاة البرديسي ، أضف إلى هذا أن ياسين بك الذي كان قد شق عصا الطاعة على محمد علي وانحاز إلى بكوات الصعيد (سليمان بك المرادي) بعد هزيمته على يد جماعة الألفي، ثم امتلك مدينة الفيوم عنوة بعد ذلك منذ سبتمبر، وخرج كاشف الفيوم نفسه على الباشا، قد بعث مع هذا الكاشف بعد وفاة البرديسي يطلبان الصفح من محمد علي، وعفا عنهما الباشا، وعادا إلى العمل تحت رايته من جديد ومعهما حوالي الستة آلاف رجل.

وأما فيما يتعلق بالألفي، فقد أذنت وفاة البرديسي بظفره بما كان يمني نفسه به من زمن بعيد وهو الرئاسة على البكوات جميعهم، وكان بكوات الصعيد قبل وفاة البرديسي في خلافات مستمرة: سليمان بك البواب منسحب مع مماليكه في ناحية قنا، ولا يرضى عن مسلكه زملاؤه الذين أنفذوا جندا لإخضاعه، وعثمان بك حسن معسكر على الضفة اليمنى للنيل أمام المنيا، والبرديسي نفسه قبل وفاته مع إبراهيم بك بمنفلوط، وبكوات آخرون بالقرب من بني سويف وبعضهم الآخر بأسيوط، ويسعى سليم كاشف المحرمجي في إنشاء حزب مناوئ لإخوانه، أضف إلى هذا أنه كان يعوزهم المال، ومنعتهم الأثرة من التضحية بمبلغ زهيد لا يزيد على المائة كيس لو أنهم ضحوا به لاستطاعوا - في رأي الوكلاء الفرنسيين - أن يأخذوا المنيا، ولساعد ذلك على جمع شملهم، وقد زادت وفاة البرديسي من حدة هذه الانقسامات والخلافات السائدة بينهم والتي مهدت للألفي طريق الانتفاع منها.

ذلك أن مماليك البرديسي اختاروا رئيسا لهم من بعده شاهين بك المرادي، وكان رجلا شجاعا، ولكنه لا ذكاء ولا رأي له، ثم إنه كان عدوا للألفي، وتسبب في قتل حسين بك الوشاش أحد أتباعه، ورفض إبراهيم وعثمان حسن الاعتراف به، ووجدا الفرصة سانحة لجمع كلمة المماليك، وقد أزالت وفاة البرديسي العقبة الكأداء التي حالت دائما دون الاتفاق مع الألفي، فبعثا إليه يبلغانه استعدادهما لقبول أي ترتيب أو تنظيم يطلبه، وسألاه الحضور إلى الصعيد ليبحث معهما الوسائل التي بها يستعيد المماليك سلطانهم السابق، وبادر هذا الأخير بإبلاغ النبأ إلى «مسيت» ووجد في وفاة خصمه وتقوية مركزه بين البكوات تبعا لذلك فرصة مواتية لتجديد مسعاه في القسطنطينية، واستنهاض همة السفير الإنجليزي بها للتوسط بينه وبين الباب العالي، فكتب إلى «مسيت» في 30 نوفمبر أنه جاءه خطاب من والده العزيز إبراهيم بك شيخ البلد يبلغه نبأ وفاة أخيه عثمان بك البرديسي الذي وإن أسف على فقده كأحد إخوانه، فإنه يعتقد كذلك أن الله سبحانه وتعالى قد انتقم منه لعداواته ضده، ثم استطرد يقول إنه يرجو أن يكون في هذا الحادث ما يجعل سهلا دخوله إلى القاهرة سريعا؛ حيث إن إبراهيم بك يرجوه أن يبذل قصارى جهده لتحقيق ذلك، ولما كان سائر البكوات قد انحازوا إليه الآن فقد قوي أمله في امتلاك القاهرة وإعادة الهدوء والسكينة إلى البلاد؛ وعلى ذلك فهو يبعث إلى «مسيت» - كما قال - خطابا باسم الوزراء العثمانيين يرجوه أن يرسله إلى صديقه (أي صديق الألفي) السفير الإنجليزي في القسطنطينية حتى يسلمه هو شخصيا إلى هؤلاء الوزراء، ثم أخذ الألفي يؤكد أن محمد علي لا يلقى نجاحا في إدارته وحكمه، وأن ظفره بالولاية من الباب العالي أو القبطان باشا إنما كان بفضل المال الذي نهبه من سكان القاهرة وأهل الريف على السواء، بل أن هذه المظالم التي ارتكبها قد جعلت الناس جميعا يستمطرون عليه اللعنات، وطلب الألفي من «مسيت» إبلاغ ذلك كله إلى السفير حتى ينقله إلى وزراء الدولة، ثم اختتم رسالته بقوله: ولما كنت أعرف أنك ترغب كذلك في رؤية الهدوء والسكينة يعودان سريعا إلى هذه البلاد، فرجائي ألا يحول فصل الشتاء أو أي سبب تافه قد تتذرع به الحكومة العثمانية دون العمل السريع.

نامعلوم صفحہ