وكانت الأحكام في عهدهما كما كانت في أيام أسلافهما من الظلم والاستبداد. وبلغهما بعد مدة أن «إسماعيل بك» عاد من «الآستانة» وجاء «حلوان»، فبعثا فرقة من المماليك فتكت بكل من كان معه من أهله ورجاله. أما هو فتمكن من النجاة باختبائه في بعض الكهوف ثلاثة أيام. ثم خرج طالبا الشلال، اجتمع هناك بصديقه «حسن بك الجداوي» وسارا معا وأويا إلى الجنادل في السودان.
فاختلف «مراد بك» و«إبراهيم بك» على إرسال حملة للقبض على الهاربين. فارتأى أحدهما وجوب التجنيد، وخالفه الآخر حتى آل الأمر إلى الخصام، وخروج «إبراهيم بك» مغتاظا من القاهرة إلى المنيا في الصعيد، فأرسل إليه «مراد بك» بعض الاختيارية يسكنون من غضبه، فأرضوه وأعادوه إلى مركزه في القاهرة، إلا أن العلاقات الودية ظلت متكدرة بين الاثنين. ولم تمض مدة حتى خرج «مراد بك» إلى المنيا غيظا من زميله؛ لأنه اتحد مع خمسة من بيت عدوهما القديم وهم البكوات: «عثمان الشرقاوي» و«أيوب الصغير» و«سليمان» و«إبراهيم الصغير» و«مصطفى الصغير».
ولبث «مراد بك» بعيدا عن القاهرة خمسة أشهر وإبراهيم يظن أنه لا يلبث أن يسكن غضبه ويعود إليه. فلما استبطأه، أرسل إليه الاختيارية كما فعل ذاك معه، فأبى «مراد بك» ورد الاختيارية خائبين، ثم جند جندا من أتباعه المماليك وسار على الضفة الغربية للنيل حتى أتى «الجيزة» - مقابل مصر القديمة - وعسكر هناك وهم بقطع النيل، فعلم «إبراهيم بك» بذلك، فجند في الجهة المقابلة على البر الشرقي ليمنعه من المرور ولبث الجانبان على تلك الحال ثمانية عشر يوما لا يتحاربان إلا على سبيل المناوشة بإطلاق مدفع أو مدفعين ولم يقتل إلا رجل أو فرس. فمل «مراد بك» من تلك الحال، فعاد إلى المنيا.
أما «إبراهيم بك» فكان كثير الرغبة في مصالحة زميله، فأنفذ إليه بعد خمسة أشهر من خروجه وفدا ثانيا من كبار البلاد ومشائخها يطلبون إليه الرجوع إلى القاهرة، فوافقهم لكن اشترط عليهم أن يسلموه الخمسة البكوات المتقدم ذكرهم حال وصوله إلى القاهرة، فقبلوا بذلك الشرط، فنزل معهم. فعلم أولئك البكوات سرا من «إبراهيم بك » بما اشترطه «مراد بك» فخرجوا من «القاهرة» نحو القليوبية على نية الشخوص إلى الصعيد عن طريق الأهرام فاتصل ذلك «مراد بك»، فجعل عند الجسر الأسود قرب الأهرام عصابة من العربان تترصد مرورهم، ولم يستطيع صبرا على ذلك، فقطع النيل ببعض رجاله، فالتقى بالمنهزمين عند رأس الخليج، فتلاحموا، فجرح «مراد بك»، ونجا أولئك فلاقاهم العربان عند الجسر، فأسروهم، وجاءوا بهم إلى «مراد بك» فنفاهم إلى المنصورة و«فرسكور» و«دمياط» تفريقا لكلمتهم. وبعد مدة يسيرة عادوا واجتمعوا في آخر سنة 1197 واتفقوا أن يفروا إلى الصعيد، ويجمعوا إليهم عصابة يقاومون بها عدوهم. ولم يباشروا ذلك حتى توسط شيخ الجامع الأزهر في أمرهم وحصل العفو لهم من «مراد بك» فصفح عنهم وأعادهم إلى القاهرة بكل إكرام وأعاد إليهم رتبهم وامتيازاتهم. (1-4) حملة عثمانية لحرب المماليك
مضى بعد ذلك ثلاث سنوات على «إبراهيم بك» و«مراد بك» وهما على وفاق وسكينة يقتسمان إيراد البلاد بينهما بالسواء، لا يقدمون عنه حسابا، أو إذا قدموه كان حبرا على ورق، فوشى بهما «محمد باشا» والي مصر إذ ذاك إلى السلطان وبما كان فيه من الاستئثار بمالية البلاد. فأمر السلطان «عبد الحميد» - الأول - سنة 1199ه أن يرسل إلى مصر جيشا لإيقافهما عند حدهما فسار الجيش في عمارة بقيادة «حسن باشا قبطان»، فوصلت الإسكندرية في 25 شعبان سنة 1200، فخاف البكوات خوفا شديدا واجتمعوا اجتماعا عاما في الديوان، وتباحثوا فيما يجب إجراؤه، فكثر اللغط، واختلفت المقاصد والآراء، فلم يقروا على شيء وأخيرا ارتأوا طلب توسط «محمد باشا». ولما عرضوا عليه رأيهم رفض.
فطلبوا من الشيخ «أحمد العروسي» شيخ الجامع الأزهر، والشيخ «محمد المهدي» الذي بقي في زمن الفرنساوية كاتم سر الديوان - وغيرهما - أن يسيروا إلى «رشيد» ويستعطفوا القبطان باشا.
فركبوا من «بولاق» في زورق فاخر، وما زالوا حتى بلغوا رشيدا، فلاقاهم القبطان باشا بما يليق من الاحترام أما هم فلعلمهم أن الأميرين «إبراهيم ومراد» لا يثبتان على رأي خافوا إذا طلبوا العفو، وحصلوا عليه أن ينكثا ذلك فتكون الملامة عليهم، فقال الشيخ العروسي : «يا مولانا إن رعية مصر ضعفاء، وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس!» فقال الباشا: «لا تخشوا بأسا، فإن أول ما أوصاني به مولانا السلطان هو قوله: «إن الرعية وديعة الله عندي وأنا أستودعك ما أودعنيه الله تعالى».» فدعوا له بطول العمر ثم قال لهم: «كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران يسومانكم سوء العذاب؟ لماذا لا تخرجونهما من دياركم؟» فأجابه أحدهم بقوله: «يا سلطانم هؤلاء عصبة شديدو البأس لا نقوى على دفعهم!»
فطيب خاطرهم ووعدهم بالحماية. وبالحقيقة أن هذا الوفد تصرف بالحكمة لأنهم لم يكادوا يخرجون من حضرة القبطان حتى سمعوا بقدوم «مراد بك» ومعه عشرة من البكوات وبعض الكشاف والمماليك. ثم شاع أنهم نزلوا في الرحمانية عند منشأ الترعة المحمودية الإسكندرانية؛ وسبب ذلك أن «مراد بك» بعدما أرسل الوفد خطر الدفاع بالسيف، فجمع إليه ذوي شوراه، وفاوضهم، فأقروا على الدفاع وأن يسير «مراد» لذلك ويبقى إبراهيم للمحافظة على القاهرة.
فسار «مراد بك» بمن معه، ونزلوا الرحمانية - كما قدمنا - فلاقتهم الجنود العثمانية، وجرت بينهما واقعة لم تطل إلا يسيرا. فانذعرت جنود المماليك من قنابل العثمانيين التي كانت تتدافع بين حوافر الخيل فتشتت شملهم وفاز العثمانيون. ففر مراد بك ومن معه حتى أتوا القاهرة، فاجتمعوا «بإبراهيم بك» وخرجوا جميعا إلى الصعيد، ومكثوا ينتظرون هجمات العثمانيين.
فلما رأى «محمد باشا» الوالي خلو القاهرة من المماليك جمع إليه الوجاقات ونزل بهم من القلعة لاستقبال الجنود العثمانية.
نامعلوم صفحہ