ولم يبق من مناظري «إبراهيم كخيا» و«رضوان بك» إلا «إبراهيم قطامش» و«علي كخيا الطويل» فالأول مات من الحزن بعد مدة قصيرة، والثاني هاجر من تلقاء نفسه تاركا الدار تنعي من بناها، فصفا الجو لإبراهيم كخيا، فتولى مشيخة البلد وسمى «رضوان بك» أميرا للحج ثم جعلا يتبادلان هذين كل سنة، وعاد كل منهما إلى ميله الطبيعي: «إبراهيم» إلى مطامعه، و«رضوان» إلى ملاهيه. فأخذ «إبراهيم كخيا» يفسد الأحكام، ويستخدمها لاسترجاع ما بذله للحصول عليها، فلم يغادر وسيلة إلا استخدمها في سبيل مطامعه من قتل وهتك.
فابتدأ بسليمان قاتل «علي بك الدمياطي»، فحجر عليه في القلعة، ولم يفرج عنه حتى استرجع منه ما كان أعطاه من النقود، ثم باغت من بقي من الأغنياء في القاهرة، ووضع يده على ممتلكاتهم بعد أن قتل بعضا منهم، وبقي البعض الآخر فاستولى في يوم واحد على أموال ثمانين بيتا من بيوت القاهرة، ووضع يده على محصولات البلاد والجمارك والقرى والمخازن حتى الحوانيت الصغيرة، فلم يبق ولم يذر.
وكان «كيور أحمد باشا» قد استدعي إلى الآستانة، وولي حكومة قبرص فأقيم مقامه باشا آخر سنة 1156ه فعامله «إبراهيم كخيا» بالاحتقار، فحقد عليه. ثم اتفق غياب «إبراهيم» في قافلة الحج إلى مكة، فاغتنم الباشا غيابه. وتواطأ مع «حسين بك الخشاب» على مكيدة يعدانها لإبراهيم. فاتفق على أن يقوم الخشاب بقتل «إبراهيم» ورفيقه «رضوان» وأن يكافئه الباشا على ذلك بمشيخة البلد .
فلما رجع «إبراهيم» سعى «الخشاب» في إنجاز وعده، ففاز بالقبض على الاثنين، فسجنهما في القلعة، فولاه الباشا مشيخة البلد، لكنه لم يهنأ بها لأن دعاة «إبراهيم كخيا» اتحدوا وهجموا على «حسين بك» والباشا، وأخرجوا المسجونين، ففر الخشاب إلى مصر العليا واختبأ من إبراهيم في بلاد النوبة. أما الباشا، فاستدعي إلى الآستانة وعاقبه السلطان عقابا انتهى بالموت. (3-3) نشأة علي بك الكبير
وكان في حوزة «إبراهيم كخيا» أكثر من ألفي مملوك، من جملتهم «علي» الذي سيلقب بعلي بك الكبير ويكون له شأن عظيم لهذا التاريخ، وسترى في سيرته أنه من أفراد الدهر حزما وبطشا وحكمة. وكان «علي» سلحدارا بين مماليك «إبراهيم كخيا» وكان إبراهيم يحبه كثيرا ويجل مواهبه حتى جعله ناقل سيفه. ومما زاده تعلقا به أنه اصطحبه إلى الحرمين في قافلة. وكان قد صار كاشفا فسار قائدا لتلك القافلة، فلاقاهم في الطريق عصابة من اللصوص، فدفعهم «علي» بقلب لا يهاب الموت، فلقبوه بالجني. ولما رجع «إبراهيم كخيا» إلى القاهرة عزم على مكافأة «علي» برتبة بك، لكن صغر سنه ودسيسة الخشاب حالا دون ذلك.
ثم عقب ذلك مشاغل أكثر أهمية زاد الأمر تأخيرا وذلك أنه جاء القاهرة خبر وصول باشا جديد إلى الإسكندرية بدلا من الباشا الذي أخرج منها، وكان من عادة رجال الحكومة في مصر إذا علموا بمجيء باشا جديد أن يبعثوا وفدا يلاقونه في الإسكندرية، وفيهم العيون والجواسيس فيحيطون به يستطلعون مقاصده ونواياه ويطلعون على ما في يده من الأوامر السلطانية، فإذا رأوا تلك الأوامر سليمة ومقاصده حسنة رحبوا به وفتحوا له الطريق حتى يصل بولاق، فيحتفل الأمراء بلقائه. أما إذا تبينوا من أحواله غير ذلك، وبلغوا الأمراء بالقاهرة فيجتمعون ويقرون إعلانه أن يقف حيث هو، ويكتبون إلى ديوان الآستانة بعدم موافقة ذلك الباشا الجديد، وأن بقاءه في مصر مخل بالنظام العمومي أو ربما حمل الرعية على الثورة. ثم يطلبون استبداله بآخر أكثر موافقة للبلاد منه.
فلما اتصل بهم خبر قدوم هذا الباشا واسمه «راغب محمد باشا» سار شيخ البلد بنفسه لاستقباله ومعه البكوات فخلع على كل واحد منهم خلعة كالمعتاد، ثم اجتمعوا جميعا بجلسة رسمية وأقسموا على الطاعة والإخلاص لأمير المؤمنين، وأحب الأمراء «راغب باشا» محبة عظيمة لأنه عرف كيف يعامل شيخ البلد، فأحبته الرعية ومالوا بكليتهم إليه فقضى بين ظهرانيهم سنتين كلهما سلام وطمأنينة حتى أجمع البكوات على استبقائه بينهم زمنا. وهم في ذلك، ورد إلى الباشا خط شريف أن يسعى جهده في قطع دابر البكوات، وفي جملتهم شيخ البلد ومن يلوذ به، فاستنتج الباشا من نص ذلك الخط أن ديوان الآستانة مشتبه بتصرفه في مصر وأنه وشي إلى جلالة السلطان بأن اتفاقه مع بكوات مصر ليس إلا لعزمه على استخدامه في مآربه بالاستقلال بحكومة مصر وإخراجها من طاعة الدولة العلية، فوقع في حيرة وتردد بين أن ينفذ الأوامر الشاهانية مع ما فيها من الخطر، أو أن يعصيها، أو يؤخرها، فيعرض حياته للخطر ويؤيد التشكيات التي تقدمت بحقه.
وبعد أن نظر في المسألة من سائر وجوهها، فضل الفتك بأصدقائه البكوات، فتواطأ مع عصابة من رجاله أنه متى اجتمع البكوات في مجلسه، فليكونوا على استعداد للهجوم عليهم معا عند أول إشارة.
ففعلوا ما أمرهم به، لكنهم لم يفوزوا كل الفوز لأن ثلاثة من البكوات تمكنوا من النجاة، وفي مقدمتهم شيخ البلد بعد أن جاهدوا الجهاد الحسن وأوسعوا الباشا تعنيفا على فعلته هذه التي لم يكونوا ينتظرونها من بعد ما أظهروه نحوه من اللطف والإخلاص. فبرأ ساحته باطلاعهم على الفرمان السري الوارد له بهذا الصدد. فكفوا عن الانتقام منه، لكنهم عزلوه. وكتبوا إلى الآستانة يطلبون بدله، وعينوا ثلاثة بكوات في مكان الثلاثة الذين قتلوا بتلك المكيدة.
واغتنم «إبراهيم كخيا» هذه الفرصة لترقية «علي» كاشفا فرقاه إلى رتبة بك، فشق ذلك على أحد البكوات المدعو «إبراهيم بك» شركسي المولد يعرف «بإبراهيم بك الشركسي» وكان من دعاة «إبراهيم كخيا» لكنه تظاهر عند ذلك بعداوته، ونمت بينهما الضغائن ولم تنته إلا بقتل «إبراهيم كخيا» بعد ذلك بخمس سنوات بيد «إبراهيم بك الشركسي» المذكور سنة 1168ه. وفي تلك السنة، توفي السلطان «محمود بن مصطفى». (4) سلطنة عثمان بن مصطفى
نامعلوم صفحہ