ولكن الثقافة الأولى - ثقافة التضحية وقتل الأمير أو كاهن المطر والزرع - لا تزال قائمة بين الزنوج في أفريقيا إلى يومنا هذا، حتى إن الكاهن يطلب إلى قومه أن يقتلوه إذا أحس الضعف؛ لأنه يعتقد أن ضعفه هو ضعف للأرض والزرع، وأن من المصلحة أن يتولى شاب الحكم بدلا منه لكي يزيد البركات، ثم يجب ألا يبرح من أذهاننا أنه حين يقتل يعد نفسه قد انتقل للعالم الآخر وأن حياته هناك متصلة بحياته هنا على نحو ما فهم الفراعنة تماما حين استعدوا للعالم الثاني بالتحنيط. •••
والآن نذكر شيئا آخر لا يقوم على المشابهة ولا على الاستنتاج؛ لأن المطابقة واضحة فيه، فقد ذكر روسكو في كتابه عن قبيلة البوجندا أن الملك في إحدى قبائلها يؤدي شعائر خاصة يوم تتويجه؛ فإنه يتناول قوسا لها وتر قد نزع من جسم آدمي ثم تقدم له السهام فيشد أوتارها لكي «يرمي بها الأمم».
ويقول روسكو في وصف ما رأى: «لما شدت القوس سلمت للملك ومعها أربعة سهام فرماها جميعها عن القوس، كل واحد منها في جهة من الجهات الأربع وهو يقول ما ترجمته: إني أضرب الأمم وأغلبها. ويذكر اسم واحدة من الأمم وهو يرمي بالسهم في ناحيتها، ويهرع أتباعه فيحملون إليه السهام التي تحفظ في الجعبة إلى احتفال آخر... لأن هذا الاحتفال كان يكرر في بداية كل عام».
وهذا الاحتفال نقسه منقوش جملة مرات في قبور الفراعنة؛ فإن الملك تحتمس الثالث يرمي الجهات الأربع في واحد من هذه النقوش وفي نقش آخر نرى طهراقه وزوجته الملكة ترمي الجهات الأربع بالقوس، وهذا الاحتفال رمز للقوة والغلبة. •••
إن هذه الأمثلة جميعها تدل على أن ثقافة المتوحشين في أفريقيا الزنجية ترجع إلى أصل مصري، وإذا كان الزنوج لم يرتقوا فلأن البيئة المحيطة بهم قد حالت دون ذلك؛ فإن مصر قطعت أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وهي بوتقة للعقائد الدينية، عرفت فيها دفن الموتى ومعنى الخلود والعالم الثاني والإثابة على الحسنة والعقاب على السيئة وكثير من الحكم السامية قد عزيت إلى آلتها وكهنتها، وقد ألهمت العالم كثيرا من عقائد فتغنى الإغريق بالرب آمون، وقد رأيت بنفسي معبد ربتنا القديمة أسيس في مدينة بومباي التي طمرها بركان فيزوف، وقد عبد القرطاجنيون قرص الشمس المصري، وبنيت الأهرام في السودان، وعرفت أيضا الربة هاتور. ومصر هي التي أشاعت نظام الرهبانية بل هناك ما يرجح أن ملابس الكهنة في أيامنا هي نفسها ملابس الكهنة أيام جدودنا الفراعنة. •••
لقد كان اختراع الحضارة - كما يقول إليوت سمث - أعظم انقلاب حدث في تاريخ البشر، ولم تكن الحضارة الأولى مجموعة ملفقة من المكتشفات وإنما كانت جسما حيا له قلبان هما الزراعة وإطالة العمر، وكل ما نعرفه عن التواريخ للأمم القديمة كان يدور حول هذين الأمرين، فمنهما نشأت الأديان والحكومات والملوكية والأسرة والقضاء وعلوم الهندسة والهيئة والكيمياء والطب، كما كانا أيضا الأصل في طائفة كبيرة من الصناعات مثل الفخار والبناء والتعدين والنجارة وصنع السفن ونسج الأقمشة وتخمير البيرة.
لقد قال بلونارك المؤرخ الإغريقي، وهو بالطبع يروي هنا أسطورة كانت شائعة في عصره: «لما جاء أوزوريس إلى مملكته وجد المصريين يعيشون حياة كتلك التي يعيشها الدواب، فعمد إليهم يعلمهم فنون الزراعة وسن لهم القوانين وعلمهم عبادة الآلهة، ثم خرج بعد ذلك وجاب أنحاء العالم ينشر المدنية».
وهذه الأسطورة لم تكن روايتها عبثا ولم تخترع أيام الإغريق، وإنما هي قصة مصرية قديمة تدل على تاريخ يغيب في الأزمنة البعيدة.
وليس أوزوريس هذا سوى أحد الفراعنة أو الأمراء الأولين الذين استحالوا آلهة بعد وفاتهم، كما هو الشأن إلى الآن بين الكهنة والأمراء الزنوج الذين ورثوا التقاليد المصرية القديمة.
وكان المصريون يعيشون كالدواب لأنهم كانوا يجهلون الزراعة ويجهلون كل ما نما منها كالحكومة والقضاء والصناعات العديدة، وعزو إفشاء الحضارة في العالم إلى أوزوريس لا يعني أكثر من القول بأن المصريين هم الذين أفشوها.
نامعلوم صفحہ