وقد دهشنا قبل سنوات عندما اكتشف قبر توتنخ آمون، ورأينا مقدارا عظيما من الذهب، ولكن هذا الفرعون لم يكن شاذا في وفرة الذهب فإن جميع الفراعنة منذ الأسرة الأولى بل جميع النبلاء كانوا يضعون الذهب في القبور لأنه الوسيلة إلى الخلود.
وهذه القداسة التي نسبت إلى الذهب أيام الفراعنة قد انحدرت إلى الأمم القديمة، بل بقيت منها أثارة حتى في القرون الوسطى حين اختلط البحث عن إكسير الحياة بالبحث عن إحالة المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة والذهب بالطبع في رأسها، وهذا الاختلاط يؤيد قدم العقيدة في قداسة الذهب وأنه معدن الآلهة والسبيل إلى الخلود. •••
وكيف وصل الذهب إلى هذه المنزلة؟
للجواب على هذا السؤال نقول إننا نجد في المتحف المصري ودعا مصنوعا من الذهب، وهو يعزى إلى الأسرة الأولى، وليس في العالم الآن صائغ يصوغ الذهب في هيئة الودع، ونعنى هذا الودع الذي ما زلنا نجده عند العرافين الذين يخبروننا عن طالعنا بضربه فوق الرمل.
هذا الودع كان له أثر كبير جدا في عقائد الإنسان البدائي في العصر الحجري، حتى لقد كان سببا في انتقال الثقافة الأولى بين البشر كما أوضح ذلك المستر ولفرد جاكسون في كتابه «الأصداف ودلالتها على الهجرة الثقافية».
فإن الإنسان في العصر الحجري كان من السذاجة بحيث كان يعتقد أن الأم هي العامل الوحيد للولادة، وكان يجهل الأبوة بمعناها البيولوجي؛ ولذلك نظر إلى الودعة نظرة خاصة لما بينها وبين عضو التناسل في المرأة من مشابهة ، فقدسها لهذا السبب وصار يتجشم المشاق لجلبها من البقاع النائية لكي يحملها وهو يتوهم أنها ما دامت هي الأصل في الحياة فإنها قادرة على أن تحفظه في صحة دائمة وتقيه من الأمراض وتطيل عمره حتى بعد الموت؛ وذلك لأن الموت عنده كان حياة أخرى تحتاج أيضا إلى ما يحفظها ويطيلها.
ولكن الودعة بطبيعتها صدفة هشة تنكسر لأقل مصادمة، وهي مع ذلك كانت تجلب من البقاع النائية؛ ولذلك فكر الإنسان البدائي في أن يصنع ودعا من الحجر، وظل الإيمان بالودعة مدة طويلة حتى بعد أن اهتدى المصريون إلى الزراعة وأسسوا الحضارة، وكانوا يصنعونها من الحجر والذهب.
ويرى إليوت سمث أن اكتشفاهم للذهب كان مصادفة حين كانوا يبعثون بعثاتهم إلى سواحل البحر الأحمر لجمع الودع، فإن هذا الودع لا يوجد في سواحلنا الشمالية وإنما يوجد كثيرا في البحر الأحمر، وهناك عثروا على مناجم الذهب فاستحسنوا لونه وخفته ومرونته ونصاعته، فصاروا يصنعون منه تماثيل صغيرة للودع بدلا من أن يصنعوها من الحجر، وشاع بعد ذلك استعمال الذهب لهذه الغاية، ثم بتوالي السنين أو القرون انتقلت ميزات الودعة إلى الذهب حتى أصبح المعدن نفسه يضفي على من يحمله أو يتحلى به صفات الصحة والخلود أو طول البقاء. •••
الودعة والبقرة والذهب: هذه الأشياء الثلاثة كانت تمثل في أذهان جدودنا الفراعنة معاني الصحة وطول العمر والخلود، ولا بد أن الودعة فقدت قيمتها عندما عمت الحضارة البدائية الأولى وشرع الناس يفكرون في وظيفة الرجل البيولوجية في التناسل، ولكن الذهب كان قد احتل من نفوسهم مكانا كبيرا يلابس عواطفهم فبقيت مكانته، أما البقرة فكانت حاضرة على الدوام في أذهانهم وهي أعم من الذهب؛ لأن هذه المعادن كانت حيازته تقتصر على الأغنياء وأما البقرة فكانت عامة في الريف يملكها الزارعون، وكانت رمزا للأمومة ترضع الناس لبنها فيقوم عند الطفل مقام اللبن الذي يرضعه من أمه؛ ومن هنا أصبحت البقرة - التي لا تزال تقدس في الهند - الربة هاتور.
ولكن الودعة والبقرة والذهب اختلطت لأنها جميعها تؤدي مهمة واحدة، وهذا القول هو الذي تثبته الشواهد التاريخية؛ ولذلك ترى الكلمة الهيروغليفية لهاتور تعني الذهب، وهي توصف بأنها «هاتور الذهبية».
نامعلوم صفحہ