أقم حيث أنت يا سيدي ... لا تبرح الأرض، ولا تعبر البحر، فإن من ورائه في مصر هولا هائلا، وشرا ماثلا، وبلاء نازلا، وعذابا أليما، وجحيما قد استقر فيها لا تدري أهبط عليها من أطباق الجو أم صعد إليها من أعماق الأرض؟ ولكنها أصبحت ذات نهار، أو أمست ذات ليل، فإذا هو قد اتخذ له في قرية من قراها وكرا، لا يعرف متى اتخذه، ولا كيف اتخذه، ولا من أين سعى إليه. ولكنه اتخذ في تلك القرية ذلك الوكر على كل حال، ثم لم يلبث أن باض فيه وفرخ، ثم لم يلبث أن أرسل رسله المنكرة طلائع له في القرية، وما حولها، ثم أمد الطلائع بطلائع مثلها، ثم اتصلت الأمداد، وجعلت تزحف في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، حتى غمرت مصر كلها بالنكر المنكر، والوباء المبير.
وقد كان المصريون يقدرون في سابق الأزمان، وسالف العصر والآوان، كما يقول أصحاب الأقاصيص، أن الآخرة هي التي تقذف بالأشرار في الجحيم، وتمتع الأخيار بالنعيم. فقد استبان لهم في هذه الأيام أن في الدنيا جحيما، ونعيما، ولكنهما لا يختاران أصحابهما، وإنما يتخطفانهم تخطفا، ويستبقان إليهم استباقا. فجحيم الدنيا هذا الذي تصلاه مصر، لا يتخير الأشرار وحدهم، وإنما يلقي شباكه آناء الليل والنهار، وهو واثق كل الثقة بأنها لن تعود إليه فارغة، ولا خفاقا، وإنما تعود إليه ملأى قد أثقلها الصيد، تصيب من تشاء أو من تستطيع أن تصيبه من الناس لا يعنيها، ولا يعني ملقيها أن يكون صيدها خيرا أو شريرا.
فأما نعيم الدنيا فأثر حذر متحفظ متحرج، لا ينتخب أصحابه بين أهل الخير وحدهم، ولا بين أهل الشر وحدهم. وليس هو من الخير والشر في شيء، وإنما هو نعيم مترف يحب القادرين على الترف، والمؤثرين له، والبالغين منه أقصى ما يستطيع الناس أن يبلغوا. وهو من أجل ذلك مقل لا يحب الإكثار، مترفع لا يحب أن يتسفل إلى الدهماء، ولا أن يمس العامة بجناح من رفقه ولينه. وهو لا ينتخب أصحابه من أهل المعرفة، ولا من أهل الجهل، وليس هو من المعرفة، والجهل في شيء، وإنما يجذبه المال إليه جذبا، ويعطفه الثراء عليه عطفا. فهو مولع بالمال الكثير، والثراء العريض، لا يحب الفقراء، ولا يميل إلى أوساط الناس، الذين يجدون في شيء من الجهد والمشقة ما ينفقون. وإنما هو يؤثر بالحب، والبر، والعطف، الذين لا يكيلون المال كيلا، وإنما يهيلونه هيلا، ثم لا ينتخب أصحابه بين الذين أتيح لهم ذكاء القلب، وصفاء الطبع، ونقاء الذوق، وليس هو من هذه الخصال كلها في شيء، وإنما أصفياؤه، وأخلاؤه أولئك الذين قد كثر عليهم المال حتى أثقلهم، وألح عليهم الثراء حتى أسأمهم، فهم في شغل بالمال، والثراء حين يصبحون، وحين يمسون، وحين يغدون، وحين يروحون، لا يفرغون من العناية بالمال إلا ليعنوا بالترف، ولا يفرغون من العناية بالترف إلا ليعنوا بالمال. يحلمون بالمال في أول الليل، ويحلمون بالترف في آخر الليل، وقد يحلمون بالترف حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، وقد يحلمون بالمال حين يرسل الفجر ضياءه في الآفاق. •••
هؤلاء هم أصحاب النعيم يقيمون في مصر الآن على كره منهم؛ لأن تدبير المال يضطرهم إلى أن يقيموا في مصر، ولأن الاستمتاع بالترف كما يحبون أن يستمعوا به قد لا يتاح لهم في غير مصر. ولو قد استطاعوا أن يفارقوا مصر لاتخذوا لأنفسهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، ويقطعون بها أجواز الفضاء ... ولكن كيف السبيل إلى فراق مصر، وقد أبيح لأجنحة الطائرات أن تحمل الطائرات إلى كل مكان إلا مصر. وقد أبيح لمحركات السفن أن تمخر البحار إلا إلى مصر. وقد حظر على الطائرات والسفن، إن ألمت بمصر، أن تحمل من أهلها أحدا. فقد قضي على المصريين جميعا، من قدر منهم، ومن عجز، من افتقر منهم، ومن استغنى، أن يقروا في بلادهم لا يبرحونها، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. أما أصحاب الجحيم ... وما أدراك ما أصحاب الجحيم، فهم الجائعون الضائعون، والبائسون اليائسون، والمأزومون المحرومون الذين لا يحفل بهم أحد، ولا يحفلون بأنفسهم، وإنما عرفت الدنيا وعرفوا معها؛ أنهم قد أرسلوا إلى الأرض ليتجرعوا فيها الشقاء غصصا، وليصادقوا فيها الآلام منذ يقبلون على الحياة إلى أن يخرجوا من الحياة.
كانوا يعذبون في نار هادئة مطمئنة تشويهم في أناة، وتنضجهم على مهل، يبرح بهم الجوع، ولكنه لا يقتلهم، ويلح عليهم الحرمان، ولكنه لا يفنيهم، وإنما يعلقهم بين الموت والحياة. فهم يغدون، ويروحون، وهم يقولون ويعملون، وهم ينامون ويستيقظون، ولكنهم في هذا كله لا يغنون عن أنفسهم شيئا، ولا يكسبون لأنفسهم خيرا، ولا يردون عن أنفسهم شرا، ولا يعصمون أنفسهم من مكروه.
واعجب إن شئت أن تعجب ... فقد يستحيل الجحيم إلى نعيم، كما يستحيل النعيم إلى جحيم. قد يلم الوباء فيلقي في هذه النار الهادئة المطمئنة من الوقود ما يذكيها، ويؤججها، وإذا لهبها يتلظى، وإذا هي تنتشر في الأرض، والجو فتحرق في غير حساب، وإذا الذين كانوا يشوون في تلك النار الهادئة، وينضجون على مهل، ويعلقون بين الموت والحياة، تتقطع الأسباب بينهم وبين الحياة في غير أناة ولا ريث، وتتصل الأسباب بينهم وبين الموت في غير تمهل ولا رفق. وإذا هم يعلقون في منزلة بين المنزلتين، وإنما يلقون إلى الموت إلقاء، ويتهافتون فيه تهافتا، فيخفف عليهم بذلك بعض ما كانوا يحملون من أثقال ذلك العيش البغيض.
نعم، قد يرفق الله بأصحاب الجحيم في هذه الدنيا، فيرسل إليهم الموت مسرعا أو يرسلهم إلى الموت مسرعين لتتلقاهم رحمته من وراء الموت، فتجزيهم من بؤسهم في الدنيا نعيما في الآخرة، ومن شقائهم في الدنيا سعادة في الآخرة، ومن جحيمهم الضيق المهلك في الدنيا جنات واسعة فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. نعم، وقد يحيل الله نعيم الدنيا إلى جحيم يمتحن به المترفين فيما ألفت قلوبهم من راحة آثمة، وفيما أحبت ضمائرهم من هدوء بغيض، فيشغلهم بالحياة عن الحياة، أو قل يشغلهم بالخوف على الحياة عن الحياة، أو قل يشغلهم بحب الحياة عن الحياة، فإذا هم مولهون مفزعون قد دخل الروع عليهم دورهم وقصورهم، فملأها ذعرا ورعبا، ثم اقتحم عليهم قلوبهم، وضمائرهم، فملأها جزعا، وهلعا، وإشفاقا ... فهم لا يفكرون في المال، ولا في الترف إذا استيقظوا، ولا يحلمون بالمال، ولا بالترف إذا ناموا، وإنما يفكرون في الوباء أيقاظا، ويحلمون بالوباء نياما. كل همهم أن يفلتوا من الوباء ما وجدوا إلى الإفلات منه سبيلا. فهم من هذا الخوف المتصل الملح في جحيم، وهم في جحيم آخر لعله أن يكون شرا من جحيم الخوف، هم يجدون في ضمائرهم، بل في أعمق الأعماق من ضمائرهم حسرة ضئيلة، ولكنها ملحة ممضة، مصدرها أصوات يأتيهم بها الجو من كل مكان، حتى تأخذهم من جميع أقطارهم، وحتى لا تصل إلى نفوسهم من الآذان التي تصل منها الأصوات إلى النفوس فحسب، وإنما تصل إلى نفوسهم من كل طريق ... تصل إلى نفوسهم من طريق العيون، والأنوف، وسائر الحواس. وكل هذه الأصوات تنبئهم بأنهم يعيشون في جو من الحسد، والبغض، والحقد، والحفيظة، والموجدة، لا ينفقون درهما، ولا دينارا إلا أحصاه عليهم من حولهم من الناس، ولا يستمتعون بلذة من اللذات إلا سجلها عليهم من حولهم من الناس، ولا يطعمون طعاما، ولا يشربون شرابا، ولا يتخذون ثوبا إلا تمنى الناس من حولهم لو أتيح لهم أن يشاركوهم في بعض ما يطعمون، ويشربون، ويلبسون.
جحيم من الفقر والجهل والمرض والموت للكثرة الكثيرة من المصريين، وجحيم من الخوف والذعر والبغض والحسد للقلة القليلة من المصريين، وحياة تشبه الأعراف بين هذين الجحيمين، يحياها فريق من المصريين لم يبلغ بهم الفقر أن يبتئسوا، ولم يبلغ بهم الثراء أن يترفوا، فهم مذبذبون بين أولئك وهؤلاء من أصحاب الجحيمين. هذه مصر التي سبقتك إليها منذ شهر، وبعض شهر ... فما تفكيرك في العودة إليها، وما حنينك إلى أرضها، وسمائها، ونهرها ... إن أرضها تنبت الموت في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، وإن نيلها يجري بالبؤس، والظمأ، والجوع، وإن سماءها تمطر الوباء إمطارا، وتصبه صبا. •••
أقم حيث أنت يا سيدي ... لا تبرح الأرض، ولا تعبر البحر، فإن من ورائه في مصر هولا هائلا، وشرا ماثلا، وبلاء نازلا، وعذابا أليما. إلا أن تكون من الذين لا يحبون الدعة حين تتاح لهم، ولا يحرصون على الأمن حين يساق إليهم، ولا يكرهون أن يلقوا بأنفسهم في النار لعلهم أن يستنقذوا منها بعض الذين يحترقون، وما أراك من هؤلاء. إنما أنت ما علمت محب للدعة، لا تعدل بها شيئا، كلف بالترف، لا تنسى نصيبك منه مهما تكن الظروف، كاره للمشقة مهما تخف، مشفق من العناء مهما يكن يسيرا، محب للمال على علاته لا تزهد في قليله، ولا تسأم من كثيره.
فما تفكيرك في العودة إلى مصر، وما حنينك إلى أرضها التي أصبحت دارا للجحيم ... لا تخدعك الأماني، ولا تضلك الآمال، ولا يستهوك قول الذين يقولون إن الوباء موكل بالبائسين من دون الناعمين، كلف بالفقراء من دون الأغنياء، فمن مأمنه يؤتى الحذر. ولم يستطع أحد إلى الآن أن يرسم للوباء ما ينبغي أن يسلك من طريق، ولا أن يحرم على الوباء هذه السبيل أو تلك. فأقم حيث أنت ... فليس لك في مصر إرب إن كانت لك حاجة إلى الأمن، والدعة، والسلامة. أم تراك مشتاقا إلى مجالسك تلك التي كنت تغشاها أيام الأمن حين كانت تنوب النوائب، وتلم الخطوب، فتتحدث عما كان، وتتنبأ بما سيكون، وتتندر بما قال هذا، وفعل ذاك، وتشفق مما كتبت هذه الصحيفة، وتسخر مما كتبت تلك الصحيفة، وتنعم بهذه الحياة الفارغة التي ينعم بها المترفون المتبطلون. هيهات هيهات ...
نامعلوم صفحہ