فقلت: إن الحياة الحقة لا تجود بنفسها إلا للأكفاء.
ثم تناولت يدها وأنا أقول: لنشرب كأسين ولنكف عن التفكير. •••
غبت عما حولي. صهرني الغضب. مذ علمت بتهجم حسني علام على زهرة صهرني الغضب. كان يجلس معي في المدخل عامر وجدي والمدام، ولكني لم أسمع من حديثهما إلا وشا. وعلمت أيضا بمشاجرة سرحان وحسني فتمنيت لو أنها استمرت حتى الموت، الموت لكليهما. تمنيت أيضا أن أؤدب حسني ولكن لم يداخلني شك في قدرته على سحقي فكرهته حتى الجنون. وغادرت المدام المكان فنبهتني إلى ما حولي. نظرت إلى عامر وجدي فرأيته يرنو إلي باهتمام ومحبة فتخففت من انفعالات القتال المحتدمة في صدري، وتلقيت فكرة عجيبة بأن الرجل العجوز كان صديقا حميما لأبي أو لجدي. وراح يسألني عن أحلامي فقلت باقتضاب: يخيل إلي أنه لا مستقبل لي.
فابتسم ابتسامة مجرب لكل شيء، وكأنما مر به سخطي مرات بشتى الصور، ثم قال: الشباب عدو الرضا، هذا كل ما هنالك. - لقد استغرقني الماضي فبت أعتقد أنه لا يوجد مستقبل.
قال بجدية وقد زايل الابتسام وجهه: ثمة صدمة، عثرة، سوء حظ، ولكنك تستحق الحياة بكل جدارة.
كرهت أن أناقش معه همومي، حتى المشروع منها، فتساءلت متهربا: ماذا عن أحلامك أنت يا أستاذ؟
ضحك طويلا ثم قال: نوم الشيوخ يقل للدرجة التي تنعدم فيها الأحلام، غير أني أتمنى ميتة رفيقة. - إذن فالموت أنواع؟ - ما أسعد الرجل الذي نام عقب سهرة طيبة ثم لم يصح إلى الأبد.
فسألته مأخوذا بلذة محادثته: أتعتقد أنك ستبعث ذات يوم؟
ضحك مرة أخرى وقال: أجل، إذا جمعت برامجك في كتاب! •••
يعجبني جو الإسكندرية .. لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة .. ولكن في غضباته الموسمية .. عندما تتراكم السحب وتنعقد جبال الغيوم .. ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب .. ثم تتهادى دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة الخطيب. عند ذاك يتمايل غصن أو ينحسر ذيل .. وتتتابع الدفقات ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون .. ويدوي عزيفها في الآفاق .. ويجلجل الهدير ويعلو الزبد حتى حافة الطريق .. ويجعجع الرعد حاملا نشوات فائرة من عالم مجهول .. وتندلع شرارات البرق فتخطف الأبصار وتكهرب القلوب .. وينهل المطر في هوس فيضم الأرض والسماء في عناق ندي .. عند ذاك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها كأنما يعاد الخلق من جديد.
نامعلوم صفحہ