يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل، وأن تقوم المحبة بين الناس مكان القانون. لا فض فوك. لقد أكرمك الله بتمثالين والموت. ••• - مصر وطنك، والإسكندرية ليس كمثلها شيء.
عزف الهواء في الخارج. والظلام يهبط خلسة. قامت فأشعلت من النجفة ثلاثة مصابيح في أسفلها مثل عنقود العنب. عادت إلى مجلسها وهي تقول: كنت سيدة، سيدة بكل معنى الكلمة. - ما زلت سيدة يا عزيزتي. - هل تشرب كأيام زمان؟ - كأس واحدة عند العشاء، طعامي خفيف جدا، وذاك سر حيويتي رغم تقدم العمر. - آه يا مسيو عامر، تقول إن الإسكندرية ليس كمثلها شيء؟ كلا، لم تعد كما كانت على أيامنا، الزبالة ترى الآن في طرقاتها.
قلت بإشفاق: عزيزتي، كان لا بد أن تعود إلى أهلها.
قالت بحدة: ولكننا نحن الذين خلقناها. - عزيزتي ماريانا، ألا تشربين كأيام زمان؟ - كلا، ولا كأس واحدة، عندي ضغط من الكلى. - ما أجمل أن نوضع في متحف جنبا إلى جنب، ولكن عديني بألا تموتي قبلي. - مسيو عامر، قتلت الثورة الأولى زوجي الأول، أما الثورة الثانية فجردتني من مالي وأهلي، لماذا؟ - إنك مستورة والحمد لله، ونحن أهلك، والعالم يشهد أمثال هذه الحوادث كل شروق شمس. - يا له من عالم! - ألا نغير المحطة الإفرنجية؟ - عدا ليلة أم كلثوم، فلا محطة غيرها! - أمرك يا عزيزتي. - خبرني لماذا يعذب الناس بعضهم البعض، ولماذا يتقدم بنا العمر؟
ضحكت دون أن أنبس.
أجلت البصر في الجدران المنقوش عليها تاريخها. هاك صورة الكابتن بقبعته العالية وشاربه الغزير في البدلة العسكرية، زوجها الأول، ولعله حبيبها الأول والأخير، الذي قتل في ثورة 1919. في الجدار المقابل وفوق المكتبة صورة أمها العجوز، كانت مدرسة. على مرمى البصر في الصالة فيما وراء البارفان صورة الزوج الثاني ملك البطارخ وصاحب قصر الإبراهيمية، أفلس ذات يوم فانتحر. - متى فتحت البنسيون؟ - قل متى اضطررت لفتحه من فضلك!
ثم أجابت: عام 1925.
عام محنة وكدر. ••• - ها أنا شبه سجين في بيتي، وعرائض التأييد تزف إلى الملك. - زيف وكذب يا دولة الزعيم. - حسبت الثورة قد طهرت النفوس من ضعفها. - الجوهر سليم والحمد لله ... سأسمع دولتكم مقالة الغد. •••
راحت تدلك بشرة وجهها بليمونة وهي تقول: كنت سيدة يا مسيو عامر، أحب الحياة الحلوة والنور والفخامة والأبهة والملابس والصالونات، وكنت أهل على المدعوين كالشمس. - رأيت ذلك بعيني. - لكنك لم تر إلا صاحبة البنسيون. - كانت تهل أيضا كالشمس. - وكان النزلاء من السادة، ولكن لم يعزني ذلك عن تدهوري. - ما زلت سيدة بكل معنى الكلمة.
هزت رأسها ثم سألت: والأصدقاء القدامى ماذا حل بهم؟ - حل بهم المكتوب عليهم. - لماذا لم تتزوج يا مسيو عامر؟ - سوء الحظ، ليتنا أنجبنا ذرية. - أوه .. كان كلا الزوجين عاقرا!
نامعلوم صفحہ