مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي، ونعم الوكيل.
الحمد لله الأول بلا بداية، والآخر بلا حد ولا نهاية، ولا مدة ولا غاية، الظاهر بالدلالات علي وجوده، الباطن الذي لا يغيب شيء عن علمه " الذي علم بالقلم ،علم الإنسان ما لم يعلم ".
أحمده علي ما أولي وأنعم، وأعان وكرم، والصلاة والسلام علي محمد صلي الله عليه وسلم.
صفحہ 4
أما بعد: فإني لما رأيت العلم قد قل طالبه، وتقاصر أكثر الناس عن الرغبة فيه، وكلت الهمم عن الوصول إلي مقامات السلف الماضيين، وعجزت عن درك مقاصد السابقين- استعملت خاطري في تصنيف مختصر أجمع فيه معالم الشريعة وأنظم فيه شتات الفقه، وأبين أصله وفروعه، وأجعل مسائله مشروحة مجموعة، متجاورة متتابعة مشروعة.
فجمعت فيه بغاية الإيجاز الذي لا يكون معه ملال، واختصار لا يزري به إقلال ولا إخلال، وسميته كتاب منهج الطالبين، بلاغ الراغبين.
وجعلته مجزأ عشرين جزءا. يحتوي علي ضروب من علوم الشريعة، وفنون من العلم مجموعة، وجعلته معلما بالأقوال، ومفصلا بالفصول، لمطالعة المسائل، تقريبا عن الإطالة والملالة.
فالجزء الأول:
في العلم وصنوفه، والحث علي تعليمه، ودرسه.
وفي ذكر العلماء ودرجاتهم- وفي العقل والفتيان ولزوم الحجة، وتعليم القرآن، واختلاف العلماء في خلق القرآن.
وفي المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ منه، وفي تفسير شيء منه.
وفي التوحيد ومعرفة الله تعالي، وأسمائه وتفسيرها، ونفي الشبه عنه، والرؤية، والكلام، والوعد والوعيد، والمشيئة والإرداة، وخلق الأفعال، والاستطاعة ووجوب التكليف، والعلم، والهدي والضلال، والصراط والميزان، والاستواء، والموت والقبر والبعث والحساب، والجنة والنار، وفيما يسع جهله، ومالا يسع جهله، وفي الإيمان والإسلام والكفر والنفاق، وذكر الملائكة والجن وإبليس لعنه الله وفي ذكر العلماء وأسمائهم، وفي رفع مذهب أهل الاستقامة.
الجزء الثاني:
في الولاية والبراءة، وصنوف ذلك ومعانيه.
وفي صغائر الذنوب وكبائره.
وفي التوبة وفضلها، وتهذيب النفس وتقويمها، وأعمال القلب، وما تستقم به العبادة، وإخلاص العمل.
وفي ذنوب الأنبياء، والملائكة عليهم السلام.
وفي فضائل نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، أصحابه، وأمته، وفضائل الذكر.
صفحہ 5
وفي الجنة والنار والدنيا والآخرة، وذكر الطيب، وستر البدن، وأدب الأكل والشرب والجماع، وما يستحب من القول وجواز التقية، والعتب، والعذر، والحب، والبغض، وحسن الجوار والمعاشرة، وصلة الأرحام، والاستئذان في البيوت، والسلام ورده، وما يجوز للرجال والنساء من بعضهم لبعض، وحق الوالد علي الولد.
وفي الفرائض والسنن، وفي النيات وألفاظها، وفي الشك المعارض للعبد في حلاله، وفي مسائل في البحر، وما جاء في الجبابرة وعمالهم، ومن ابتلي بهم.
الجزء الثالث:
في المياه، والطهارات، والنجاسات، وفي الحيض، والاستحاضة، والنفاس والغسل من الجنابة.
وفي صلاة الحائض، وصومها.
وفي الوضوء والتيمم، وغسل الميت، والصلاة عليه، وذكر القبر، والتعزية في الموتى.
وفي شيء من الأسفار.
الجزء الرابع:
في الصلاة، ووجوبها، وجميع صنوفها، وضروبها، وما يجب علي العبد فيها.
الجزء الخامس:
في الزكاة، وصنوفها، ومن تجب له.
وفي الجزية، والصوافي والأموال المنسوبة إلي أولاد نبهان من عمان وحكم المسلمين فيها.
الجزء السادس:
في الصوم، وزكاة الفطر.
وفي الإيمان وكفارتها، وفي النذور وكفارتها.
وفي الاعتكاف، وتحريم الحلال، وتحليل الحرام، ومن جعل نفسه هديا أو نحيرة.
وفي صنوف الكفارات، وفي الذبائح، والصيود، وما يحل منها.
وفي الأشربه، وما يحل منها، وما يحرم، وتصنيف جميع ذلك.
الجزء السابع:
في الحج، ومن يجب عليه، ومن لا يجب عليه، وفي الضحايا وصفتها، وما أشبه ذلك.
الجزء الثامن:
في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعقوبة بالحبس، والتعزيز.
وفي الإمامة وشروطها، ومن يجوز أن يكون إماما، وفي أحداث عساكر الأئمة، وما يجب علي الأئمة ورعاياها، ومن يجوز عزله، وخلعه.
وفي الجهاد، ومحاربة أهل الشرك والباغين.
وفي الغنائم وأحكامها، وقسمها، وفي الأساري، والمرتدين، ومخيمي الطرق علي الناس.
وفي الولادة، وما يجوز لهم، ومن يجوز ن يولي.
صفحہ 6
وفي الحدود، وأحكامها، ومن تجب عليه، ومن لا تجب عليه.
الجزء التاسع:
في الدعاوى، والأحكام، وإنقاذ الحكم علي الحاضر، والغائب، وما أشبه ذلك.
الجزء العاشر:
في الشهادات، وألفاظها، ومن تجوز شهادته، ومن لا تجوز.
وفي ألفاظ الصكوك، وفي الإيمان، والنصب وألفاظ ذلك.
وفي الوكالات وأحكامها، وما يثبت في ذلك وما لا يثبت.
الجزء الحادي عشر:
في الديون، والحوالة والضمان، والكفالة والخلاص من ذلك.
وفي الدماء، وأروشها، والديات فيها.
وفي القتل، وما يجب علي العاقلة منها، وفي القسامة، وما أشبه ذلك.
الجزء الثاني عشر:
في القسم، والشفع، وفي العمل، وفي الأصول والعمال، وفي الصنائع، والأجازات، ومن يلزمه الضمان، ومن لا يلزمه.
وفي أجرة الدواب، والعبيد، والمنازل، والسفن وأحكام ذلك.
الجزء الثالث عشر:
في الأنهار، والآبار، والطرق، والسواقي، والمنازل، وقياس النخل.
وفي المبانات، والمقاسلة، ومعاني ذلك.
وفي تحليل الأموال، وتحريمها، والعرف، والعادة بين الناس.
وفي الغصوب، والخلاص منه والخلاص من السرقة، والضمان، والتبعات، والاستحلال من ذلك.
وفي الضمان الذي لا يعرف ربه، وما يجوز به الانتفاع من الأموال، والمنازل.
وفي الراكبين في السفن، وما يجوز لهم فيها من الانتفاع، وما أشبه ذلك.
وفي المساجد، وفضلها، ومن تلزمه عمارتها والقيام بها، وبأموالها، وبنائها.
وفي الرسوم، وأحكامها، والإحداث فيها، والانتفاع منها.
وفي الفلوات، والصحاري، والأدوية، وما ينبت، والجبال.
وفي مال الفقراء، والسبل، والغائبن والوقوف، والمقابر.
الجزء الرابع عشر:
في البيوع وصنوفها: وما يحل منها وما لا يحل.
وفي الأحكام فيها وفي العيوب، وما يحرم منها.
وفي الصرف، والقرض، والسلف، والمضاربة والرهن.
الجزء الخامس عشر:
في النكاح، وجوازه، ومن يجوز تزويجه من النساء، ومن لا يجوز، وما تحرم به الزوجة علي زوجها.
وفي الأولياء، والوكالة في التزويج، وفيمن الأولي له من النساء.
صفحہ 7
وفي تزويج المتعة.
وفي الرضاع.
وفي الصدقات، وما جاء فيها، وأحكام ذلك.
الجزء السادس عشر:
في معاشرة الأزواج، وما يجب في ذلك: من نفقة وكسوة، ومعاشرة، وما يجب للمطلقات، وللمميتات، والبائنات، ونفقة الزوجة: الصبية والرتقاء، والمجنونة.
وفي سفر الرجل برأي زوجته، وغير رأيها.
وفي القسمة بين النساء.
وفي الوطء، وما يحل منه.
وفي المفاوضة بين الزوجين.
وفي الطلاق، والخلع، والبرآن، والإيلاء، والظهار، وتحريم لزوجات، وتخييرهن.
وفي عدة النساء المطلقات، والبائعات، والمميتات.
وفي المواعدة في العدة في التزويج، وفي رد الزوجات.
الجزء السابع عشر:
في الأولاد، وتربيتهم ومن أحق بهم، ووجوب نفقتهم، ونزعة أموالهم وتصرف الوالد في مال ولده.
وفي لحوق الوالد وفي أدب الصبيان، وفي اللقيط، وفي أمر اليتامى، والقيام بهم، وبأموالهم، وفي أحداثهم، والإحداث فيهم، وإيناس رشدهم ودفع أموالهم.
وفي الأعمى، والمجنون، والأصم، والغائب، والمفقود، والخناث، وأحكام ذلك.
وفي نكاح العبيد، وطلاقهم وخلعهم، واستبراء الإماء، وفي عتق العبيد، ونفقاتهم، وجناباتهم وإقرارهم.
وفي أم الولد، المدبر، والمكاتب، وفي ولاء العبيد، وأحكام ذلك.
الجزء الثامن عشر:
في الإقرار، والعطية، والعمران والرقبا، والسكني، والعارية، والأمانة والهدية، والصدقة، واللقطة، والضالة.
وفي صرف المضار، وفي الحدود والموت بين الأرضيين.
وفي الرحى، والتنور.
وفي جنايات العبيد، والصبيان، وأحداث الدواب، وأحكام الميزان وما أشبه ذلك.
الجزء التاسع عشر:
في الوصايا وأحكامها، وفروعها، وأقساطها، وما كان من معانيها.
الجزء العشرون:
في المواريث، وقسمها بين أهلها، وشرح ما يتعلق علي فنونها، وأحكام ذلك.
صفحہ 8
ووسمت هذا الكتاب بالأقوال مكان الأبواب، لئلا يشتبه بغيره من الكتب، لأني وجدت كثيرا من الكتب قد ذهب أولها وآخرها، ولم تعرف أنها أي كتاب هي ؟!!، ولا من أي تصنيف، فجعلت علامة لا يشبهها شيء من تصانيف أهل (عمان).
ولا مزيد علي ما صنفه السلف الماضون، ولا يدرك غايتهم المتأخرون، ولكن لابد في كل زمان من بجديد ما طال به العهد، ودرس منه البعض، تنبيها للغافل، وتعليما لتجاهل، وتقريبا للمطالعة، وتخفيفا لمن أراد جمع أصول الشريعة.
لأن كتب أهل (عمان) السالفة- منها المختصرات التي هي دون الوصول إلي المراد، ومنها المطولات التي يشق جمعها علي أهل الطلب والارتياد.
وهذا كتاب يكتفي به عن المختصرات، والمطولات لأنه جامع لأكثر المعاني بألفاظ مختصرة، فجمعت فيه بعون الله حسن نوفيقه- ما يسره الله لي من آثار أصحابنا (رحمهم الله)، وما رأيته موافقا للحق من آثار غيرهم.
وأرجو أن يكون مفيدا لمن أقبل إليه، هاديا لمن اعتمد عليه، تعصبا لإحياء آثار أهل هذه النحلة الزهراء والدعوة الغراء، وهم أهل الاستقامة من أمة محمد صلي الله عليه وسلم أرجو أن يكون لي ذخرا عند الله في المال، وهو المحمود علي كل حال .
فمن وقف علي ما كتبته، وألفته، ورسمته، وصنفته- فليمهد لي العذر في تقصيري، ويسد الخلل من خطئي في تسطيري، وليأخذ ما وافق الحق، وليصلح منه ما خالف آثار أهل العدل والصدق.
فإني أعترف علي نفسي بالقصور عن الوصول إلي المراتب الشريفة، والهمم العالية المنيفة، إلا أني معتمد علي فضل الله، وتيسيره، وعونه وإرشاده، وتسديده وله علينا بما أولادنا من ضروب النعمة.
فرحم الله أمرا لزم العلم وأهله وقبل الحق، وأخذ به، ورغب في تعليم العلم ودرسه وجعل هذا الكتاب شعاره، ودثاره.
و"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم" وصلي الله علي رسوله محمد النبي وآله وسلم تسليما.
***
القول الأول
صفحہ 9
(في العلم وصنوفه وضروبه، والحث عليه) بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
العلم من طريق اللغة: هو المعرفة والفهم، ومن المجاز: هو علم ما أثره الأولون، وحفظه عنهم الآخرون، ويقال: فلان عالم في فن كذا، إذا كان عارفا وحافظا له ، وهو العلم المكتوب بالتعليم، والنقل والدرس.
وأما العلم الحقيقي: فالذي هو غير مكتسب، ولا يتغير ولا يتبدل- هو علم الله، جل وعلا وهو عالم الغيب والشهادة، وهو علام الغيوب، وهو العليم الخبير، عالم بجميع الكائنات.
والعلم عند أهل الكلام، وما يعقله الناس: هو نقيض الجهل، وكل من وصف بعلم شيء، فقد نفي عنه الجهل به.
والعلم بنفسه: هو تمييز حقيقة الأشياء علي ما هي عليه، ووضع الأمور علي أماكنها من غير تغاير ولا تناقض.
وقيل: العلم، درك المعلوم علي ما هو به، وقيل: هو إدراك الحق.
وسمي العلم علما، لأنه علامة يهتدي بها العالم إلي ما قد جهل به الناس، وهو بمنزلة العلم المنصوب علي الطريق.
والعلم والعلامة والمعلم : اشتقاقهن من لفظ واحد.
والعالم من الخلق(1) غير العلم، وعلم الله- تعالي- لا يقال: إنه غيره: لأن علم الخلق حادث فيهم عقيب جهل، والله- تعالي- جل عن الحوادث، وهو العالم بذاته، كما لا يقال: إن له قدره هي غيره، وهو القدر بذاته- جل وعلا.
فصل:
والعلم: أصناف كثيرة ، وضروب مختلفة، وكلها شريفة، ولكل علم منها فضيلة، والإحاطة بها، وبجميعها محال.
قال النبي صلي الله عليه وسلم: "العلم أكثر من أن يحصي، فخذوا من كل شيء وأحسنه"(2)
ومن ظن أن للعلم غاية فقد بخسه حقه، ووضعه في غير منزلته التي وصفه الله بها، قال تعالي: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ".
قال بعض الفقهاء: لو كنا نتعلم العلم لنبلغ غايته لكنا بدأنا العلم النقيصة، ولكنا نطلبه لننقص كل يوم يوم من الجهل، ونزداد كل يوم من العلم.
صفحہ 10
والعلم ثلاث درجات: فمن بلغ الدرجة الأولي استكثر ما علمه؛ فإذا بلغ الثانية: استقل ما علمه، والدرجة الثالثة - لم يبلغها أحد.
وقال بعض الحكماء: العلم علمان: علم ديني، وعلم ديناوي؛ فالعلم الديني هو قسط العلماء الذين أرادوا به الآخرة، والنجاة من سخط الله تعالي، والعلم الديناوي(1)، وهو ما أريد به اكتساب الأموال في الدنيا.
فالعلم الديني، ينقسم على قسمين: ظاهر عام، وخاص باطن حق.
فالعلم الظاهر: كالعلم في الحلال والحرام، والفرائض والسنن والأحكام، وحفظ الكتب والأخبار والحديث، وأمثال ذلك قد اشترك فيه الخاص والعام.
والعلم الخاص الباطن الخفي: هو علم الأنبياء، والصديقين، والأولياء المخصوصين، قد خص به قوم، وهو في كل أمة مثل: تأويل الكتب، وإسرار الأنبياء والرسل، وما كان بينهم وبين أوليائهم المخصوصين، دونه عوام الناس.
ثم ينقسم العلم الخاص: قسمين بين الأنبياء وخواصهم... وقسم خص الله به الأنبياء، وهو بينهم وبين الله عز وجل قال الله تعالي: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول" فأعلمنا الله جل وعلا؛ أنه إذا ارتضي رسولا من خلقه أطلعه على ما شاء من علمه.
صفحہ 11
ثم ينقسم العلم قسمين: علم بين الله وأنبيائه ورسله، وعلم تفرد به؛ فلم يطلع عليه أحدا من خلقه؛ كما قال الله تعالي: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل: إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إ لا هو ""، وقال الله تعالي: " يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام "، ومثله: " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث " الآية. ومثله كثير في القرآن، مما يدل [على] أن الله جل وعلا تفرد بعلمه دون خلقه.
ثم قسم الله العلم بين خلقه أقساما، ورتبهم مراتب؛ فقال: " وفوق كل ذي علم عليم "وقال: " يؤتي الحكمة من يشاء "، قال: " وزاده بسطة في العلم والجسم ".
وأما العلم الدنياوي فينقسم على قسمين: علم روحاني، وعلم جسماني؛ فالعلم الروحاني، مثل علم النجوم، والحساب، والطب، وما أشبه ذلك.
والعلم الجسماني فهو علم الصناعات، كالبناء، والنجار، والحداد، والجزار، والصايغ، وأمثالهم، ومثل عمل البحر، وغير ذلك من الصناعات.
وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه (1) قال: "العلم علمان: علم بالقلب، وهو العلم النافع، وعلم باللسان، وهو حجة الله على أبن آدم".
ومن المعلوم النافعة أن يعرف المخلوق خالقه، وأنه الله الذي أحياه ورزقه، فإنه لا يعرفه قلب إلا خشع، ولا بدن إلا خضع.
ثم شرح الله صدره، ورفع ذكره، وجعله حكيما عليما، وكرمه في الدنيا والآخرة، تكريما.
وقيل: إن العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان.
ويقال: إن العلوم أربعة:
علم الأديان؛ وهو معرفة الحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، وما يجب على العبد فعله أو تركه.
وعلم الطب؛ لأن بالصحة للبدن يكمل وصف العبادة، وتأدية الفرائض واللوازم.
صفحہ 12
وعلم اللسان؛ وهو تقديم المنطق الذي يستقيم به الخطاب عند تلاوة القرآن، ومذاكرة العلم، وتمييز المعاني، وهو علم جليل شريف.
وعلم الإنسان؛ وهو أن يعرف الإنسان نسبه، ومن أي أصل هو؛ فإذا عرف نسبه، وأصل حاله؛ أنه من تراب، ثم من نطفه، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يكون جنينا في بطن أمه، مجاورا فيه لما يجتمع فيه من فضول الطعام والشراب.
ثم يخرج من هناك إلى حجر أمه؛ حيث لا يجلب لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا؛ فيجري الله له لبنا من بين فرث ودم، ويجعل الله له الرحمة والرأفة، والمحبة في قلب والدته.
ثم تغذيه حتى يصير حلقا سويا، عاقلا مميزا؛ فإما مؤمن نور الله قلبه بالإيمان؛ كأنه قد ألف الأنبياء، والمرسلين، والملائكة المقربين في حضرة رب العالمين.
وإما كافر قد شغله الكفر، والعصيان، وعوقه عن الوصول إلى حضرة الرحمن، وأنقطع به إلى مجالسة الشيطان في درجات المنافقين، نعوذ بالله، ثم نعوذ بالله من همزات الشياطين، ثم أعوذ بالله أن يحضرون.
ثم إن هذا الإنسان؛ إذا نظر يعين بصيرته، واستعمل ما في فكرته لم يجد بينه وبين آدم أبا، ولا جدا حيا، كلهم أموات قادمون على ما قد قدموا من أعمالهم؛ فإما إلى راحة ونعيم، وإما إلى عذاب مقيم. وإذا اعتبر أمور من مضي منهم لم يجد لأحد منهم كراما إلا بالتقوى، وما بقي من أمورهم ضلال، وهباء؛ فهذا من علم الإنسان.
ولجميع هذه العلوم أبواب ومسائل، لا تحيط بها معرفة عارف، ولا وصف واصف، والله يهدي من يشاء من عباده إلى طريق رضاه، ولا هادي لمن أضله الله.
فصل:
وقيل؛ إن كل أحد يفوق أهل زمانه من العلماء في فن من فنون العلم؛ كما قيل في الحديث: إن "أبا بكر الصديق" (رضي الله عنه) أعلم الصحابة بالله، وأتقاهم له.
و "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) أعرفهم بالسياسة، ومصالح الخلافة.
و "عثمان بن عفان" يفوقهم في الخط، وفنون الكتابة.
و "على بن أبي طالب" أحكمهم في القضاء، والبلاغة، وفنون العلم.
صفحہ 13
وأفرضهم في علم المواريث "زيد بن ثابت"، وأعلمهم بالحلال والحرام "معاذ بن جبل"، وأصدقهم لهجة "أبو ذر الغفاري"، وأقرأهم للقرآن "أبي بن كعب"، و "عبد الله بن عباس" أعلمهم بتأويل القرآن.
وأمين هذه الأمة "أبو عبيدة بن الجراح" وصاحب سر رسول الله صلي الله عليه وسلم "حذيفة بن اليماني".
وعليكم يهدي ابن أم عبد - يعني عبد الله بن مسعود- ، و "عمار بن ياسر" لا يضل، و "الزبير بن العوام" حواري هذه الأمة.
وكثير من الصحابة غير المذكورين مخصوص كل واحد منهم بفضيلة، وكذلك التابعون لهم.
والعلماء من بعدهم، كل واحد منهم صرف همته إلى فن من فنون العلم: فمنهم من برع في علم الفقه، والفتوى في الأحكام، ومعرفة الحلال، والحرام.
ولهذا الفن- أيضا - فنون كثيرة، وضروب مختلفة، وهذا يفوق في فن منه، وهذا يفوق في فن آخر منه، ومنهم من يفوق في علم النحو، والعربية، والصرف، وشبه هذا، ومنهم من يفوق في تعبير الرؤيا، ومنهم من يفوق في علم الفلك، ومنهم في علم الطب، ومنهم في علم التفسير، وتاريخ الأمم، وأحاديث الماضين، وقصصهم، وأخبارهم، ومنهم في حفظ القراءات، وتجويد القرآن، وتلاوته وحفظه.
وأجل هذه العلوم وأنفعها، عاجلا وآجلا - معرفة الله تعالي، ومعرفة حدوده، والعمل بما أمر الله، والانتهاء عما زجر عنه.
وهذه العلوم كلها ثمرتها العمل، والعمل على قدر نية العبد، وإرادته؛ فمن أراد به وجه الله، وطلب به رضاه؛ فهو موفق سعيد، ومن أراد به غير الله؛ فهو حجة عليه، وذلك كله بتوفيق الله، وتأييده وإرشاده وتسديده " والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
وقيل: إن القرآن أصل العلوم كلها، وجامعها ومستنبطة منه؛ لما روي أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "إن القرآن فيه علم الأولين والآخرين، وفيه علم من كان قبلكم، وما يكون بعدكم؛ فمن عرب عنه شئ فليتنور القرآن من أوله إلى آخره؛ فإنه يجد فيه ما يشفيه".
صفحہ 14
وروي عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال: "تعلموا القرآن والحج، فإنه من دينكم".
والعلم أمام العمل، والعمل تابع، وهو أولي بالتقدم، لأنه الأصل والدليل، ولا تحصل معرفة العبد نفسه، ومعرفة معبوده، وما يجب عليه من آداب عبادته إلا بالعلم.
فأهم الأمور إذن؛ طلب العلم الحصول خيري الدنيا والآخرة، قال الله تعالي: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب".
فإذا عرف العبد ربه، وأنه مستحق للعبادة، وعرف كيف يؤدي العبادة التي يستوجب بها رضا سيده، ويسلم بها من سخطه - أقبل على العمل بما أمره به، والانتهاء عما زجره عنه.
وأما من لا يعرفه نفسه، ولا يعرف ربه، ولا ما أمره به، ولا ما نهاه عنه - فهو متحير في نية الضلالة؛ لا يهتدي لصلاحه سبيلا.
أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، والحمد لله على ما أولي، وهدي، وأنعم، وأعطي، ورحم، وآوي، وصلي الله على رسوله محمد النبي، وآله، وسلم تسليما.
القول الثاني
(في فضل العلم، وفضل طالبه، ولزوم تعليمه
وبيان ذلك)
قال الله تعالي: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" قيل معناه: هل من طالب علم فيمان عليه؟ وقال النبي صلي الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل حالم (1)" وقال: "اطلبوا العلم ولو بالصين (2)"، قال: "عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متي يختل إليه" أي يحتاج إليه، و (الخلة: الحاجة).
والمعني في ذلك - والله أعلم -: أن النبي صلي الله عليه وسلم؛ أمر المؤمنين أن يستعدوا لما يعينهم من العمل؛ قبل أن يعينهم إشفاقا منه عليهم؛ قبل أن يقعوا في ما لا يجوز لهم؛ فيهلكوا من حيث لا يشعرون.
صفحہ 15
وقال عمر رضي الله عنه: "نفقهوا قبل أن تسودوا" يقول: تعلموا في الصغر قبل أن تكونوا منظورين، فتستحيوا من التعليم عند الكبر، ويقيم جهالا لا تأخذون العلم [إلا] من الصغار فيزري ذلك بكم.
وقيل: آتي رجل إلى أبي ذر (رضي الله عنه)؛ وقال: لا أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه، فقال له: تعلم العلم؛ فإنك إن توسد العلم خير لك من أن توسد الجهل.
وجاء رجل إلى أبي الدرداء، فقال له كالرجل الأول: فقال له أبو الدرداء: تعلم العلم؛ فإنك إن تمت عالما، خير لك من أن تموت جاهلا، وقال: أغد عالما، أو متعلما، أو مستمعا، ولا تكن الرابع فتهلك.
وقال عبد الله- أرجو أنه ابن عباس-: والذي لا إله غيره؛ لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، تبلغنيه الإبل لرحلت إليه.
وأحوج الناس إلى تعليم العلم، وطلبه- العلماء: لأنهم أعلام يقتدي بهم، وقيل: لو كان الذي يعلم الدين في مشرق الأرض، والذي يتعلمه في مغرب الأرض - لكان عليه أن يخرج إليه، ويتعلم منه دينه الذي تعبده الله به، ولو حبا على بطنه.
وقيل: أوحي الله إلى داود عليه السلام؛ أن أتخذ نعلين من حديد، وعصا من حديد، وأطلب العلم؛ حتى ينكسر العصا، وينخرق النعلان.
فسر مكحول قوله عز وجل:"فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" يعني به طلب العلم. وروي عن النبي (صلي الله عليه وسلم) أنه قال: "اطلبوا العلم؛ فإن فيه حياة القلوب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ العبد منازل الأحرار، ويبلغ الأحرار منازل الملوك ومجالسهم والدرجات العلي في الدنيا والآخرة، وقال الله تعالي: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم".
صفحہ 16
وترغيبا في العلم روي أبو سعيد (رضي الله عنه) أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "من مشي في تعليم شئ من العلم؛ كتب الله [له] بكل خطوة من خطاه على ذلك عبادة ألف سنة قائما ليلها؛ صائما نهارها" وروي على عن النبي (صلي الله عليه وسلم) أنه قال: "ما تنفل عبد، ولا تخفف، ولا لبس ثوبا؛ ليغدو في طلب العلم - إلا غفر الله له حيث يخطو عتبة بيته.، وقال أبو الحسن (رحمه الله): نظر المؤمن في كتاب؛ ولو قبل موته بساعة - زيادة له في دينه، وقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم)" "سيأتي بعدي ناس من أقطار الأرض، يلتمسون العلم؛ فاستوصوا بهم خيرا".
وكان ابن مسعود (رحمه الله) إذا رأي الشباب يطلبون العلم - قال: مرحبا بكم ينابيع الحكمة، ومصابيح الظلمة، خلقان الثياب جدد القلوب حرس البيوت ريحان كل قبيلة، وكان يقول - أبن مسعود - منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا، أما طالب العلم فإنه يزداد للرحمن رضا، وتلا: " إنما يخشى الله من عباده العلماء "، وأما طالب الدنيا؛ فإنه يزداد طغيانا ثم قرأ: " كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" وخير أيام المرء أيام أفناها في طلب العلم، ودرسه.
صفحہ 17
وقيل: إن حفظ مسألة خير من عبادة ستين سنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا لما يطلب(1). ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة(2) وقال (صلي الله عليه وسلم): لطالب العلم شجرة في الجنة؛ أصلها من المسك، وأغصانها من اللؤلؤ، وعودها من الياقوت، وورقها من النور، وثمرها من الحور العين، تنبت كل يوم من الحور سبعين حورية. الواحدة منهن خير من الدنيا وما فيها. كل ذلك لطالب العلم، وقيل: قال النبي (صلي الله عليه وسلم): سألت جبريل (عليه السلام)، فقلت: أي الجهاد أفضل؟ قال: طلب العلم، قلت ثم من بعد؟ قال: زيارة العلماء.
صفحہ 18
وروي ابن عباس عن النبي (صلي الله عليه وسلم) أنه قال: "صحبة العلماء دين، ومجالستهم كرم، والنظر إليهم عبادة، والمشي معهم فخر، ومخالطتهم عز، والأكل معهم شفاء، تنزل عليهم ثلاثون رحمة، وعلى غيرهم رحمة واحدة، هم أولياء الله طوبي لمن خالطهم، خلقهم الله شفاء للناس؛ فمن حفظهم لم يندم؛ ومن خذلهم ندم" وشرف الله قلوب العلماء فسوي بين قلوبهم وبين اللوح المحفوظ، فقال: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"، وقال: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" وروي ابن عمر عن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "جلوس ساعة مع العلماء أحب إلى الله من عبادة ألف سنة لا يعصي الله تعالي فيها طرفة عين، والنظر إلى العالم أحب إلى الله من اعتكاف سنة في بيت الله الحرام، وزيارة العلماء أحب إلى الله من سبعين حجة مقبولة، ويكتب لمن جلس عند أهل العلم بكل حرف سمعه سبعين حجة وعمره، وترفع له درجة، وينزل الله عليه الرحمة، وتجب له الجنة يوم القيامة".
والناس عالم ومتعلم، فأما العالم فمستغن بعلمه؛ يزدادم كل يوم بصرا وعلما؛ فإذا فقه أبصر، وإذا أبصر عمي؛ وإذا عمل رجا، وهذه الدرجة القصوي، وأما المتعلم فهو في زيادة؛ فمثله كمثل السراج كلما كان ذهنه أصفي، وفتيلته أغلظ- كان أضوأ وأنور؛ وذلك إذا كان المعلم ناصحا شفيقا أثبت الله ذلك العلم في قلب المتعلم، ويزداد علما إلى علمه؛ وإذا كان المتعلم يتواضع لمن يتعلم منه استوجب من الله الإلهام في قلبه، وكان أقوي وأبصر وهذه الدرجة الوسطي.
وأما الجاهل فيزداد كل يوم جهلا إلى جهله، ولا يتواضع فيتعلم، ولا ينظر في أبواب الحكمة فيفهم، ومن أراد أن يستضئ بنور الحكمة؛ فليألف أهل الفهم والعقل، ومن استخف بحقها نزع الله منه بركة العمل بها.
صفحہ 19
وقيل: الإيمان عافية القلب؛ فإذا سكنت العافية القلب داوته، [و] إيمان القلب: هو أن يخاف الله خوفا لا يخاف مثله دونه، ويرجو الله رجاء لا يرجو مثله دونه.
وقال أبو علي (رحمه الله): العالم يسأل مسألة الجاهل، ويحفظ حفظ العاقل وقال أبو عبدالله: أول العلم الصمت، والثاني: الاستماع، والثالث: الحفظ، والرابع: نشره والعمل به، وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وقال: اطلبوا العلم قبل أن يرفع، ورفعه ذهاب أهله".
فصل:
وقيل: إن الله خلق العلم، وجعل له من خلقه من يحفظه، ويفتي به، ويذب عنه، ويحميه ولولا ذلك لبادت فنون العلم، وفني، ودرس ونسي، وقال النبي صلي الله عليه وسلم: "إن الأرض لا تخلو من قائم لله بعلم"، وقال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، وقال: "العلم حياة الإسلام وعماد الدين"، وقال: العلم يزيد الشريف شرفا، ويرفع المملوك حتى يدرك رتب الملوك"، والعلم خير من المال، المال محروس والعلم حارس، والمال ينقصه الإنفاق، والعلم يزداد على الإنفاق، قال عبد الله بن العباس: تذللت طالبا فعززت مطلوبا؛ وإذا أراد الله بالناس خيرا، جعل العلم في ملوكهم، والملك في علمائهم.
وقال ابن عباس (رضي الله عنه): وجدت عامة علم رسول صلي الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، وإني كنت لأقيل بباب أحدهم من الهواجر، ولو شئت لأذن لي؛ ولكني أبتغي طيبة نفسه، والخفة على قلبه.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما قرن شئ أحسن من حلم إلى علم، وقال: العلم زين للغني، وعون للفقير، وقال عروة بن الزبير لبنيه: تعلموا فإن تكونوا صغار قوم فعسي أن تكونوا كبار آخرين، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: تعلموا العلم؛ فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، والبحث عنه جهاد، ومذاكرته تسبيح، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.
صفحہ 20
العلم أنيس في الوحشة، وصديق في الغربة، ومحدث في الخلوة، وصاحب في السراء والضراء، وزين عند الأخلاء، وسلاح على الأعداء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير أئمة تقتص آثارهم، ويقتدي بأفعالهم وينتهي إلى رأيهم وقال صلي الله عليه وسلم: العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والرفق أخوه، والبر والده، والصبر أمير جنوده.
وينبغي لطالب العلم أن يجتهد في طلبه، ولا يدخله فتور ولا ملل، ولا يدخله حياء في محفل، ولا يرق وجهه عند السؤال، وقيل لبعض ملوك العجم: أيحسن للشيخ التكبير أن يتعلم؟ قال: ما حسنت الحياة فالعلم يحسن، وقيل: كتب رجل لأبنه يا بني: أطلب العلم؛ فإنه خير لك من أبيك وأمك؛ فإن استغنيت كان لك جمالا، وإن افتقرت كان لك ثروة ومالا.
وكتب رجل إلى أخيه، إنك قد أوتيت علما أنار الله به قلبك؛ فلا تطفئ نور علمك بالذنوب؛ فتكون في الظلمة يوم يسعي أهل العلم بما آتاهم الله فتكون من الخاسرين.
وقيل لرجل: ما بلغ بك حبك للعلم؟ فقال: إذا اغتممت أسلاني؛ وإذا غضبت كفاني؛ وإذا شكوت إليه دلني وأشكاني؛ وإذا دهمني أمر خلصني.
وقيل: كتب رجل إلى عبد الله بن عمر، أن أكتب لي بالعلم كله؛ فكتب إليه عبد الله بن عمر:
العلم كثير ولكن إن استطعت أن تلقي الله خميص البطن من أموال الناس سليم الظهر من دمائهم، كافا لسانك عن أعراضهم، لازما لجماعتهم - فأفعل. جمع له مجامع العلم، ومحاسن الأدب في أربع كلمات.
وقيل: للعالم خصال يعرف بها، ويمتاز بها من غيرهك يحلم عمن ظلمه، ويتواضع لمن دونه، ويسابق من هو فوقه، وإن رأي باب معروف انتهزه، ولا يفارقه الخوف، إن تكلم غنم، وإن سكت سلم، وإن عرضت له فتنة اعتصم بالله عز وجل.
وقيل: العلم ذكر يحبه ذكور الرجال، ويبغضه إنائهم، وقيل: العالم ذهب والمتعلم فضة، والجاهل نحاس لا خير فيه، وقيل: لا يحب العلم إلا من أحبه الله، ولا يبغضه إلا من أبغضه الله، وقيل: لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلا.
فصل:
صفحہ 21
ويروي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: باض العلم بمكة، وفرخ بالمدينة، وانتشر بالبصرة، ونهض إلى عمان.
وقيل: إن الذين نقلوا العلم من البصرة إلى عمان: "موسي بن أبي جابر الأزكوي"، وهو من بني ضبة من سامة بن لؤي بن غالب، و "بشير بن المنذر النزواني"، وهو من بني زياد أيضا من بني سامة بن لؤي بن غالبن و "محمد ابن العلا الفشحي"، وهو من كندة و "منير بن النير الجملاني" وهو من بني ريام من قضاعة بن مالك بن حمير. رحمهم الله، وغفر لهم، وجزاهم عنا وعن الإسلام وجميع المسلمين خيرا كثيرا، وفضائل العلم أكثر من أن تحصي.
فصل:
ونقيص العلم الجهل، يقال: جهلت هذا الأمر؛ إذا لم تعلمه، وتعرف حقيقته، والجاهل: هو الذي غلب عليه الجهل، والمتجاهل المتعمد للجهل القاصد له(1)، وبينهما فرق؛ والجهل مأخوذ من الأرضين المجاهل؛ وهي التي لا أعلام لها، ولا يهتدي لطرقها الواحد يجهله، والجهل مستقبح بإجماع.
وقيل: الجهل داء، والعلم دواه، والجهل عورة تستتر، والعلم زينة تظهر، والجهل أقبح ما في الإنسان، فالعلم أصلح ما فيه، ومن جهل شيئا فقد عاداه، وقيل: المرء عدو ما جهل.
وكذلك الأمم: لما جهلوا فضل أنبيائهم ونبوتهم عادوهم، وحاربوهم إلا من عرف فضلهم وصدق نبوتهم.
صفحہ 22
ومن علامة الجاهل: أنك تجده للعلم معاديا، وعليه رازيا، وعنه منصرفا، يظلم من خالطه، ويعتدي علي من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تدبير، وإن سكت سها، وإن عرضت له فتنة وقع فيها، وإن رأي فضيلة أعرض عنها، وقلما تكون محنة فاضل إلا من ناقص، وبلوى عالم إلا من جاهل، وقد نهي العلماء عن صحبة الجهال، وقال أبو الدرداء: علامة الجاهل العجب، والنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهي عن شئ ويأتيه، وقال عمر ابن عبد العزيز، يعرف الجاهل بكثرة الالتفات، وبسرعة الجواب، وليست حالة أوضع لقدر الإنسان، ولا أضر عليه ولا أجلب للشر إليه، ولا أقبح لذكره ، ولا أذم لأمره من الجهل، وهو الداعي للعار، والهاوي [بصاحبه] إلى النار، والمبعد [عن] السلامة، والمدني من الندامة، والسبب لكل مغرة، والجالب لكل مضرة، والذاهب بخيري الدنيا والآخرة؛ فالجاهل ميت وإن كان حيا، معدوم وإن كان شيئا، فقير وإن كان غنيا.
وقيل لبعض الحكماء: ما لكم لا تعاتبون الجهال؟ فقال: إن لا نكلف العمي أن يبصروا، ولا الصم أن يسمعوا؛ فهم كما ذكرهم الله تعالي: " صم بكم عمي فهم لا يرجعون".
وقيل: ينبغي للعاقل أن يخاطب الجاهل مخاطبة المتطيب للمريض، وقيل: لا يعرف الجاهل إلا العالم، ولا المعصية إلا المطيع.
وأصل طبع بني آدم الجهل، والعلم حادث فيهم كما قال الله تعالي: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا" ؛ فبالعلم يعرف الله وحده؛ وبه يطاع ويعبد، يلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء.
وروي الحسن عن النبي (صلي الله عليه وسلم) أنه قال: "من لم يتعلم العلم عذبه الله على الجهل؛ فلا شئ أفضل عند الله من العلم والفقه، والفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شئ دعامة ودعامة هذا الدين الفقه".
فصل:
صفحہ 23