Kant » الذي عني طول حياته بدراسته، ثم راح آخر الأمر يعدل من نتائجه بحيث يجعلها أكثر ملاءمة لروح عصرنا. وشرح ذلك أن «كانت» في كتابه «نقد العقل الخالص» كان قد اضطلع بتحليل العمليات «العقلية» الصرفة، التي لا بد للعقل أن يقوم بها لكي يتاح له أن يبلغ الحقائق العلمية؛ ففي مستطاع الإنسان أن يصوغ المعادلات الرياضية التي لا شك في يقينها، وكذلك في مستطاعه أن يصوغ قوانين العلوم الطبيعية - كقانون الجاذبية مثلا - وهي أيضا قوانين لا شك في يقينها من وجهة نظره، التي هي نفسها وجهة نظر علماء الطبيعة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
رأي للفيلسوف ديفد هيوم
وكان تاريخ الفلسفة قد شهد فيلسوفا إنجليزيا - هو ديفد هيوم
David Hume - شهده وهو يتصدى لليقين المزعوم لقوانين العلم، ليخرج بنتيجة عجيبة، ألا وهي أن الحقائق العلمية ما دامت مستندة إلى مشاهدات الحواس، فيستحيل منطقيا أن توصف باليقين؛ لأن ما تشاهده الحواس قد كان يمكن عقلا أن يكون على صورة أخرى غير التي هو عليها بالفعل. فلئن كان الحجر الملقى يميل نحو السقوط إلى الأرض بفعل الجاذبية كما تدل المشاهدات، فليس عند العقل الخالص ما يمنع أن كانت تكون حال الأشياء على غير هذا الوضع، بحيث نلقي بالحجر فيميل نحو الصعود إلى أعلى بدل الهبوط إلى أسفل، أي أن كل ما في وسعنا إثباته هو أننا قد شاهدنا الأمور على هذا النحو المعين لا على نحو سواه، وإذن فلا يقين ولا حتم يقضي بضرورة أن تجري الطبيعة هذا المجرى في كل آن .
الفيلسوف كانت ينقض رأي هيوم
ولو صدق هذا الذي زعمه هيوم لاهتز بناء العلم كما كان أهل العلم يتصورونه، فكان لا بد لفيلسوف آخر أن يأخذ هذا الزعم مأخذ الجد، ليكشف عما قد يكون مدسوسا فيه من مواضع الخطأ. وكان هذا الفيلسوف هو عمانوئيل كانت، الذي قال إن هيوم قد أيقظه من سباته الفكري. نعم، لو كانت الحواس بمشاهدتها هي وحدها أبواب العلم الطبيعي، لوجب أن ننتهي إلى النتائج التي انتهى إليها هيوم، لكن الأمر ليس كذلك، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تسلك إلينا هذا الطريق أو ذاك، إذ تهجم الأحاسيس على العين والأذن والجلد وغيرها، فتصل إلينا خليطا. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لما كانت معرفة، لكن هنالك وراء الحواس «عقلا» لا بد أن يكون قد جهز بمقولات - أو قوالب - تنصب فيها مادة الإحساسات فتكون بذلك علما سويا، كما تنساق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم فإذا هي معان لا مجرد أحرف مفككة متناثرة. ويخلص «كانت» من هذا إلى أنه لا بد للمعرفة العلمية من جانبين: إحساسات تجيء إلى حواسنا من خارج، ومقولات عقلية تنظم تلك الإحساسات، وهي مفروزة في نظرتنا من داخل، ولولا الأولى لظلت المقولات فارغة من المضمون، ولولا الثانية لأصبحت الإحساسات كومة مهوشة عمياء بغير معنى معقول.
كاسيرر يتمم رأي كانت
وجاء صاحبنا أرنست كاسيرر لا لينقض «كانت» بل ليضيف إليه ويتممه؛ فليس الإنسان عقلا صرفا كما صوره «كانت»، وإلا لذهبت جوانب كثيرة من ثقافته هباء مع الريح. فانظر إلى ثقافة الإنسان على طول التاريخ وفي كل مجتمع، تجدها نسيجا من أشياء كثيرة لا غنى له عن واحد منها؛ فهو أن يكون بحاجة إلى الجانب العلمي العقلي الذي اقتصر كانت على تحليله وتوكيده، إلا أنه كذلك بحاجة إلى «الفن» وإلى «الأساطير» وإلى «اللغة» وإلى «التاريخ» وإلى «الدين» وإلى غير ذلك كله من جوانب يستحيل عليه أن يحيا بغيرها، فهل شهدت شعبا واحدا - همجيا كان أو متحضرا - عاش بغير فن؟ عاش بغير دين ؟ عاش بغير أسطورة؟ عاش بغير لغة؟ عاش بغير تاريخ يرويه؟ وليست هذه «علوما» تنصب في مقولات العقل الخالص، وإذن فلا مناص من التسليم بأن فطرة الإنسان أوسع من مجرد العقل الخالص، وأنه لا تفضيل في تلك الفطرة بين جانب وجانب، لأنها كلها مطلوبة لحياته وضرورية لحضارته، وتلك الجوانب الكثيرة هي التي يطلق عليها كاسيرر اسم «الصور الرمزية» أو قل إنها القوالب التي تصاغ فيها هذه المواد كلها، والتي يتخذ منها الإنسان رموزا يهتدي بها في هذا المسلك أو ذاك من مسالك حياته.
كاسيرر فيلسوف واسع الاطلاع غزير العلم
وكانت المهمة الكبرى التي اضطلع بأدائها كاسيرر هي أن يحلل هذه الصور تحليلا يستقصي فيها كل شيء حتى الجذور، ولبث في الفترة الممتدة بين عامي 1923م و1929م يعد المجلدات الثلاثة التي أصبحت آخر الأمر هي كتابه العظيم «الصور الرمزية» الذي أفاض في تفصيلات الشواهد التي ساقها فيه إفاضة لم يكن يستطيعها إلا رجل في مثل سعة اطلاعه وغزارة علمه، لأنه إذا زعم لك زعما عن هذا الجانب أو ذاك من فطرة الإنسان الأصيلة، ساح بك سياحة طويلة في كل ما قد شهده التاريخ من حضارات وثقافات، فكأنما الآداب كلها والأساطير كلها والديانات كلها والعلوم كلها، والتاريخ كله ملك يمينه ورهن إشارته.
نامعلوم صفحہ