لكن وليم جيمس بما وهبه الله من خفة روح وطلاوة حديث وسلاسة، ظل في دنيا المثقفين غربا وشرقا هو اللسان المعبر عن المذهب البرجماتي، أو قل عن الفكر الأمريكي كله، أمدا طويلا. (7) جون ديوي
ولد جون ديوي
John Dewey
سنة 1859م وهي السنة نفسها التي أصدر فيها «دارون» كتابه أصل الأنواع
Origin of Species
الذي تستطيع أن تعده فاصلا بين عصرين ثقافيين، عصر ثقافي قبله يتصور العالم سكونيا ثابتا، وعصر ثقافي بعده - يمتد حتى يومنا الراهن - يجعل حقيقة العالم تغيرا وتطورا وحركة. وأحسب أن لو وضحت لنا هذه الحقيقة الكبرى، فقد وضحت بالتالي المبادئ الأساسية التي تقوم عليها كل ثقافتنا القائمة، وهي الثقافة التي تمثلت - كما أسلفت - في فلسفة جون ديوي. ولن يضيع وقتنا سدى إذا ما وقفنا وقفة قصيرة لنلقي بعض الضوء على هذا الذي نقوله.
فالكثرة الغالبة من الفلاسفة فيما قبل القرن التاسع عشر، كانت تنظر إلى الكون على أنه شيء أزلي أبدي ثابت على سنن بعينها، وما كان على الفيلسوف إلا أن يحاول استخلاص الإطار الثابت الذي تجري الأحداث على مقتضاه، فلئن رأيت بعينك الأشياء الجزئية متحولة متغيرة، فذلك خداع ووهم، وعمل العقل أن يزيح هذه الغشاوة الخادعة، ليغوص إلى ما وراءها من حق لا يطرأ عليه تغير ولا تحول. ولكم سمعنا أولئك الفلاسفة يقولون إنهم ينشدون (الحق) وراء هذه الظلال العابرة، ثم هم بعد ذلك يختلفون فيما بينهم عن كنه ذلك (الحق) الثابت ماذا عساه أن يكون. وقد كان من نتائج هذه النظرية السكونية أن تصور الناس أن لا سبيل إلى تغيير وتبديل في أوضاع هي (بطبيعتها) هكذا، فالحيوان حيوان والشجر شجر والإنسان إنسان، لا بل إن هذا الإنسان بدوره فيه - بحكم طبيعته الثابتة - أعلى وأدنى، إلى آخر النتائج البعيدة المدى التي ترتبت على تلك النظرة، وهي نتائج إن يكن العلم الحديث قد أزال بعضها، فما زلنا نستمسك ببعضها الآخر؛ إذ ما زلنا في عالم القيم - الأخلاقية والجمالية - نحسب أن ثمة مثلا عليا متفقا عليها، محال أن تتغير إلا عند من طمس الله فيهم البصر والبصيرة. فهكذا نقول حتى اليوم؛ نقول إن الفضائل الفلانية لا ينكر فضلها إلا زنديق أو جاهل أو مخدوع، فكأنما رضي الإنسان لنفسه تحت ضغط العلم وقوته أن يسلم له الزمام في مجال الظواهر الطبيعية، بل في كثير من الظواهر الاجتماعية ذاتها، أما القيم الأخلاقية والسياسية والجمالية، فقد تشبث بالحرص عليها، لا يدعها تخضع للنظرة العلمية الجديدة، ليظل الأخلاقي على معناه القديم وليظل الجميل جميلا أبد الآبدين.
وجاء جون ديوي ثالث ثلاثة ضخام حملوا الفلسفة البرجماتية (العملية والعلمية) على كواهلهم - والآخران هما (بيرس) و(وليم جيمس) - لكن هؤلاء الثلاثة جميعا، وإن اتفقوا في الأصول، فقد كان لكل منهم لون يميزه. واللون الذي يميز ديوي من دونهم، هو محاولته استخدام منهج العلوم عند التفكير في القيم، فينبغي أن تكون الصورة المثلى التي نصور بها فضيلة من الفضائل - مثلا - بمثابة (فرض علمي) يخضع للتجربة العملية، فإن ثبت صدقه على الواقع كان بها، وإلا وجب أن نصوغه صياغة أخرى بحيث يحقق للإنسان حياة يبتغيها. وليست العبرة هنا بكل فرد على حدة، بل بمجموع الأمة أو الإنسانية كلها، تماما كالفروض، لا تتحقق لفرد بعينه وكفى، بل لا بد لها أن تتحقق لمجموعة العلماء المشتغلين بالفرع الذي جاءت تلك الفروض لتفسير ظواهر تقع في مجاله.
ولنبدأ قصة فيلسوفنا من بدايتها؛ فنقول إنه قد ولد ونشأ في أسرة زراعية ريفية في ولاية بأقصى الشمال الشرقي من الولايات المتحدة، ثم كتب له وهو في الجامعة أن يدرس فلسفة هيجل
Hegel
نامعلوم صفحہ