أفتحسب أن قصة الطفل التي رويناها لك هي مزاح أو أقرب إلى المزاح؟ ما ظنك - إذن - لو نظرت فوجدت شطرا كبيرا من السياسة الدولية قائما على الأساس نفسه؟ خذ مثلا واحدا: الفرنسيون والجزائر.
1
فها هنا حلبة فيها سباع وشهداء، والمتفرجون هم الساسة من بلاد أخرى، فكأنما هؤلاء يتفرجون على المجزرة، فلا يقول القائل منهم: مساكين هؤلاء الشهداء الذين يفترسون افتراسا بغير عدل، بل يقول: مساكين هؤلاء السباع الذين لا يخلى بينهم وبين الفرائس لينعموا في طمأنينة ودعة كما ينعم سباع آخرون. إنه لا خلاف هنا على ضرورة العدل في حياة الناس، ولكن الخلاف قائم حول نقطة أخرى، هي: من تكون الجماعة التي يراعى العدل بين أفرادها؟
وننتقل من قيمة العدل إلى قيمة أخرى هي قيمة السلام والأمن وطمأنينة النفس، لأن القيمتين مرتبطتان بأوثق رباط، حتى لتستطيع أن تعدهما وجهين لشيء واحد.
إن حياة السلم خير من حياة الحرب، لا ينازع في ذلك إنسان واحد، وحتى لو وجدت إنسانا يقول لك عن الحرب إنها ضرورة لا مندوحة عنها، فهو لا يريد بهذا أن يجعل الحرب أولى من السلام، بل إنه ليعلم أن السلام أولى، ولكنه بعيد المنال. بل إن رغبة الإنسان في حياة مطمئنة لتسبق - منطقيا - رغبته في إقامة العدل؛ لأن الأولى أصل والثانية فرع، فما أقامت الجماعة ميزان العدل بين أفرادها إلا لأنها تريد لهم أن يعيشوا في دعة وبال مستريح. لقد كان زعيم اللصوص الذي ذكرنا لك قصته، على حق حين قال إنه لا حياة له بين أفراد عصابته بغير عدل يقيمه بينهم. فالتعاون السلمي بين أفراد العصبة من جهة، وبينهم وبينه من جهة أخرى هو الهدف. وأحسب أن تومس هوبز
Thomas Hobbes - الفيلسوف الإنجليزي في القرن السابع عشر - قد أصاب جانبا من الحق ، حين قال: إن الأصل في قيام مجتمع وعليه سلطان يحكمه، هو أن الأفراد في حالتهم الهمجية لم ينعموا بحياة مطمئنة، إذ كانوا في حرب دائمة يفتك فيها بعضهم ببعض وينهب فيها بعضهم بعضا، ثم أرادوا السلام فتهادنوا على مجتمع يقيم بينهم ميزان العدل.
لا، إنه لا خلاف على ضرورة السلام، لكن الخلاف كل الخلاف هو أين تقع حدوده، فالأمة الواحدة تقنع بالسلام داخل حدودها، وصاحب النظرة الواسعة لا يطمئن له بال إلا إذا شمل السلام حياة البشر أجمعين، وفي كلتا الحالين لا غناء لنا عن هذه الواحدة من القيم الإنسانية، ضاق مجال تطبيقها أم اتسع.
وأخيرا نختم القول بحديث قصير عن قيمة ثالثة لعلها أعز القيم الإنسانية كلها، وأعني بها «الحرية»، فلا أحسب أن الدنيا بأسرها، وفي شتى عصور تاريخها، قد شهدت إنسانا واحدا يخالفك في ضرورة هذه القيمة لحياة الإنسان. ومرة أخرى نقول إنه إذا كان ثمة من خلاف، فهو خلاف على مدى اتساع نطاق التطبيق أو ضيقه، لا على ضرورة الحرية نفسها لحياتنا، سواء ظفر بها فرد واحد أو ظفر بها الملايين؛ ذلك أنك قد تجد جماعات تقصر الحرية على فئة قليلة منها، بل ربما قصرتها على فرد واحد، لكن هذا الفرد أو تلك الفئة عندئذ يكونون على اعتقاد بأن ذلك أدعى إلى صيانة الضعيف من سطوة القوي، وهذه في ذاتها قيمة إنسانية تستحق الصيانة والرعاية، فالحرية قبل أن تكون لفظا يقال بالألسنة والشفاه، هي تهيئة الظروف المواتية لكل فرد أن يعبر عن طبيعته وعن كيانه وعن وجوده في نوع العمل الذي يؤديه، وهو لا يكون في هذا بمأمن إلا إذا كفلته رعاية قوية.
وهكذا تقلب البصر في مسرح الحياة الإنسانية، فتراها مرتكزة آخر أمرها على مجموعة من القيم أو المعاني، لا تكون أبدا موضع اختلاف للرأي من حيث الأساس، وإن اختلف الرأي عليها في الشرح والتطبيق. ولو نفذت ببصرك إلى أعماق النفوس، لألفيتها على عقيدة راسخة بأنه لا بقاء بغير مجموعة القيم التي أدركتها بالفطرة السليمة حينا ، أو بثت فيها بالتربية القويمة حينا آخر. فإن اعوج السلوك الظاهر عن إملاء تلك المعاني الشريفة، لم يحتج الأمر إلى تغيير في فطرة الإنسان، بل احتاج إلى تربية جديدة تنسق بين الظاهر والباطن، فيسلك الإنسان عندئذ سلوكا سويا، يجمع الإنسانية كلها بمثل ما يجمع اليوم أفراد الأسرة الواحدة.
الأمانة التي حملها الإنسان
نامعلوم صفحہ