نقول بعد هذا التمهيد ، إن المعركة الفلسفية الأولى قد دارت رحاها حول نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة (وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلة ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطور في الأحياء دون أن تلتزم المذهب المادي الذي يرد كل شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضا، فقد تذهب إلى أن الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطور). أقول إن المعركة الأولى قد دارت رحاها بين نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة من ناحية، وبين المناصرين للعقيدة الدينية من ناحية أخرى، على اعتبار من هؤلاء أن ثمة تناقضا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية التطور وما جاء به المذهب المادي.
وكان الدكتور شلبي شميل، بكتابه «فلسفة النشوء والارتقاء» هو أول ناقل إلى اللغة العربية للمذهب المادي على صورته التي سادت ألمانيا في القرن التاسع عشر، على يدي «بختر»، كما نقل كذلك نظرية دارون في التطور. ولعله لم يفطن إلى الفرق بين أن تناصر النظرية الداروينية من جهة، وأن تنكر كل ما عدا المادة من جهة أخرى.
وليس يهمنا أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي، أو تلك النظرية الداروينية في التطور - فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره - لكن الذي يهمنا هو كيف قوبلت هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مفكرينا لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، وثقافة التراث من جهة أخرى. وإن الموقف بطرفيه ليتمثل في كتاب «الرد على الدهريين» لجمال الدين الأفغاني.
والدهريون الذين يرد عليهم الأفغاني، برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أخذت تتناثر أنباؤها، وقد كتب الأفغاني رده باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية الإمام محمد عبده، مستعينا في ذلك بأديب أفغاني. وإنما كتبها ليجيب بها عن سؤال جاءه من رجل فارسي يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس «يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر - نيشر» (= طبيعة) ... ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بلقب «نيشري» ... ولقد سألت أكثر من لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين وهل طريقهم تنافي الدين المطلق؟ ... ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شاف كاف، ولهذا ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينقع الغلة ويشفي العلة والسلام.»
ذلك هو موجز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالته «الرد على الدهريين» هي الجواب، وقد قسمها قسمين. أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم»، والثاني في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان، وهذا التقسيم كاف وحده للدلالة على أن الخطر المخوف من ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تؤثر به في ديانة المسلمين، لأن الحرص على نقاء هذه الديانة هو - فوق كونه من واجبات المؤمنين - ضروري لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلا لما اقتضاه الرد على مذهب فلسفي معين، أو الرد على نظرية بيولوجية بعينها، دفاعا عن الإسلام وبرهانا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان.
نعم، إنه ليس من الإنصاف في شيء أن ننقد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواء كان ذلك في جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا لا نظن أن الأفغاني كان مزودا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، إنما أخذ الموضوع أخذ «المثقف» العام، لا أخذ الدارس المتخصص. وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام خطابه الذي أرسله ردا على خطاب السائل الفارسي، إذ يقول: «... أرجو أن تكون (أي رسالة الرد على الدهريين) مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يتبين أن الأفغاني قد وجه الحديث في رسالته إلى فئتين من الناس، إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» - ومنهم صاحب الخطاب - والأخرى أصحاب «العقول الصافية» ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يراد «بالعقل الغريزي» عند الأفغاني (لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضدين، فالعقل منطق مكتسب والغريزة فطرة موروثة) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما نسميه اليوم «بالإدراك المشترك» الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلم متخصص، بل يكفيه أن يشارك الناس في جوهم الثقافي العام. وكذلك لا ندري على وجه الدقة مراده «بالعقول الصافية» سوى أن نرجح أنه يعنى بها عقولا صفت من «الغريزة» لتصبح «منطقا» صرفا. لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة على نوع الموضوع الذي تخصصت في دراسته، ولهذا لم يكن بين من خاطبهم الأفغاني برسالته أحد هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتين تعرض للرد عليهما، والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «إدراك مشترك عام» وبما عند قارئيه - على تفاوت درجاتهم - من ذلك الإدراك المشترك نفسه.
وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناول «الأديب» لا تناول «العالم». نصر مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المتخصصين، ولو فعلنا ذلك لما ثبتت رسالة الرد على الدهريين لحظة واحدة أمام النقد، حتى وإن قصرنا أنفسنا على علوم عصره، ودع عنك أن نضيف إليها ما قد وصل إليه العلم بعد ذلك، وإلا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه - وهي نفسها قوانين الاحتمال - قد أصبحت الآن قاعدة أساسية تنبني عليها العلوم الطبيعية، فضلا عن العلوم الإنسانية جميعا، وشرح ذلك يطول؛ وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب المذهب المادي بأن مذهبهم يؤدي إلى تسلسل الأطوار إلى غير ابتداء وهو تسلسل غير متناه، «وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، وهو من المحالات الأولية.» هكذا يقول الأفغاني، فماذا لو أنبأناه بحقيقة يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي إمكان «وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه»، ومثال ذلك أن أي خط مستقيم محدد بطرفين معلومين متناهيين يمكن أن يتألف من أجزاء، كل جزء منها فيه مقدار لا متناه من النقط، وبذلك يشتمل طول الخط المتناهي على مقادير غير متناهية، وشرح ذلك أيضا يطول؛ وهل ترى رجلا أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.» أو حين يزعم أن داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا صارت الكلاب تولد بلا أذناب. كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته.»
لا، لا ينبغي - بل لا يجوز أن يؤخذ رد الأفغاني كما تؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض، لأنه رد خطابي صادر عن موقف وجداني رافض، ليخاطب به جمهورا هو بدوره يقف موقفا وجدانيا رافضا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث، فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه موقف وطني قومي ينشد التمييز من الغرب الهاجم بعلمه وبقوته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، لكننا لو نظرنا إليه على أنه رد علمي على نظرية علمية، لما ترددنا في القول بأنه قد خسر المعركة، وترك النصر لخصومه.
لكن لماذا نقف في حيرة أمام هذين الطرفين، وهنالك مخرج ممكن يكسبنا مضمون الثقافة الغربية في هذا المجال، ويبقي لنا ما نحن حريصون على الإبقاء عليه من تراثنا؟ وذلك الموقف الوسط هو ما حاوله إسماعيل مظهر في كتابه «ملقى السبيل» إذ أوضح بقدر مستطاعه شيئين: أولهما أن ليس ثمة علاقة ضرورية بين المذهب المادي من جهة ونظرية التطور البيولوجي من جهة أخرى، والآخر هو أن قبول النظرية التطورية عند دارون لا يتنافى مع عقيدتنا في وجود الله وقدرته على الخلق، لأن سلسلة التطور إنما تبدأ من الخلية الحية، وإذن فما تزال ثغرة الانتقال قائمة بين المادة الموات وظواهر الحياة.
يقول مظهر: «إن نظرة واحدة في المذهب (الدارويني) كافية لأن تبعد عن العقول ما علق بها من أثر القول بدهرية الذين يعتنقون مذهب النشوء، ... فالمذهب بعيد عن البحث في أصل الحياة، ولا شأن له بالبحث في التولد الذاتي، ولا في القول بأن الحياة قوة مادية أو غير مادية ... ذلك لأن المذهب مقصور على البحث في نشوء بعض العضويات من بعض، بعيد عن البحث في الأصل الذي تستمد منه حياتها. من هنا تزاح أكبر عقبة تقف في سبيل القول بأن المذهب بعيد عن مخاصمة الشرائع المنزلة، كذلك لا يمكن لمنصف أن يحمل مذهب داروين في النشوء، تبعة ما سبق إليه بعض الباحثين فيه، وتوسعهم في مدلولاته إلى حد القول بالمادية وإنكار الألوهية» (ص54).
نامعلوم صفحہ