من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
اصناف
وكان قد مضى على بدء العمل أكثر من ساعة، ولكن أغلب المكاتب كان لا يزال خاليا من الأوراق، وبعضها كانت خالية حتى من أصحابها، ونظرت إلى الباب فإذا فريق من الصبية يدخلون وفي أيديهم أصناف «الصينيات»، فهذا يحمل «الفول»، وذلك يقبل «بالطعمية»، وثالث لا يحمل غير القهوة.
وأخذ أصحاب الديوان في تناول طعام فطورهم أو في شرب القهوة، اللهم خلا ثلاثة أو أربعة، راح أحدهم يقرأ في جريدة الصباح وراح الآخر ينظر إلى السقف كأنما كان يفكر في حل معضلة، ولعله كان ينتظر أن يفرغ صاحبه من جريدته ليتناولها بعده، وأخذ الثالث يفتح قمطرات مكتبه ويغلقها ولا يخرج منها شيئا، أما الرابع فقد تناول بعد «الدوسيهات» وصار ينظر فيها واحدا بعد الآخر، ثم فتح أحدها أمامه، وأخذ يصفر بشفتيه لحنا جميلا.
وكنت قد جلست على مقعد خال بجانبي، وليس ما يمنع - وإن لم يكن في يدي عمل - أن أكون أحدهم، ولعلهم ظنوا - إن كان فيهم من عني بأن يظن - أني أنتظر أحد الغائبين بناء على موعد سالف؛ وكان علي في الواقع أن أنتظر، ولكني كنت أنتظر الحاضرين حتى يفرغوا من طعامهم وشرابهم، أو قراءة صحفهم لأستطيع أن أعرف من بينهم من يوجد لديه حل مسألتي.
ودنوت من أحدهم فسألته فسرعان ما أحالني على موظف سماه في «قلم» من الأقلام، ورأيت في وجوه إخوانه كأنهم رأوا في فريسة جديدة لعبثهم، وتبينت فيها ضحكات مكتومة، فقد أحالني على موظف غائب وعلمت أنها حيلتهم في صرف كل قادم أو في «زحلقته» على اصطلاحهم.
صاحب الديوان أيضا
مضيت إلى الديوان للمرة الثانية، وأنا أمني النفس أن أحظى هذه المرة بما لم أحظ به في المرة السالفة من حل لمسألتي؛ ولقد حرصت على أن يكون حضوري إلى الديوان في ساعة بحيث لا يدع مجيئي مجالا للشك في بدء العمل به؛ فكنت هناك في نحو الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام.
ورأيت في إحدى الردهات من توسمت فيه أنه صاحب ديوان، فاتجهت إليه مبتسما محييا، ورجوت منه أن يدلني أين أذهب للسؤال عن كيت وكيت، فأجاب دون أن يقف، وأنا أسرع الخطو لألحق به، كأنما كان في سبيله لتلافي خطر من الأخطار الداهمة: «عند حسني أفندي في الشطب هناك على شمالك وراء السلم.»
وذهبت إلى «الشطب»، فإذا هو قاعة كبيرة، فيها نحو عشرين من أصحاب الديوان، ورأيتهم جميعا لأول نظرة، والحق يقال، منكبين على أوراقهم، فقصدت أقربهم إلى الباب، فحييت وقلت: «حضرتك حسني أفندي؟» فلم يزد على أن أشار بإصبعه إلى من أردت دون أن تنفرج شفتاه ولو برد التحية، ولعله كان في شغل بعملية حسابية معضلة، أو بتدبير حل لمشكلة من مشاكل عمله الخطير.
ونظرت إلى حسني أفندي وأنا أخطو إليه، أحاول أن أتبين شيئا عن خلقه من مظهره، فخانتني فراستي إما لقصر المدة؛ وإما لأني رأيت منظره يدل على ألف معنى فلا يدل من أجل ذلك على معنى! ووقفت أمام مكتبه فحييت في هدوء مبتسما متظرفا أحرص الحرص كله على أن أكون خفيفا ظريفا على نفسه ما وسعني الظرف ... ولكن ظرفي أو قل تظرفي ذهب عبثا ، فإنه لم يرفع رأسه من بين أوراقه ليراه، ولمحت دلائل الغضب على محياه فتهيبت! ولكني استعنت ثانية بابتسامة عريضة أطرح بها ثقلي، وألبس ما استطعت من الظرف، وكررت التحية فرفع رأسه هذه المرة ونظر إلي قائلا: «أهلا وسهلا يا فندم.» ثم عاد إلى أوراقه كأني ما جئت إلا لأتبادل وإياه عبارة التحية على هذه الصورة الجميلة، ثم أنصرف!
وانتظرت برهة، وهو ينقل عينيه من هذا الدفتر إلى ذاك، ويكتب هنا كلمة وهنا سطرين، دون أن يخطر على باله أن هناك أحدا يريد التحدث إليه، ولعله قد تعود ذلك فما يأبه لمن يقف أمام مكتبه، ولو ظل هناك إلى موعد الانصراف.
نامعلوم صفحہ