من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
اصناف
على أني لا أشك في أن كثيرا من القراء غضبوا مثلما غضبت، وسيغضبون كلما وقعت أعينهم على ذلك المنظر البغيض، منظر جنائزنا «البلدية» في أجمل وأعظم أحياء القاهرة العظيمة مهبط السائحين في الشتاء من أنحاء الغرب والشرق!
وللقارئ أن يخطر باله صورة لجنازة من هاتيك الجنائز ... فهناك في الطليعة أنماط من الناس منهم من يرتدون هلاهيل من القماش كانت من قبل جببا وقفاطين، ويضعون فوق رءوسهم ما يشبه العمائم، أو ما يصح أن يكون أبلغ صورة هزيلة للعمامة، وكأنما يقول الواحد منهم: «متى أضع العمامة تعرفوني.» فهو كما أتخيل بل كما أكاد أعتقد يتخذ هذه الهيئة عن عمد؛ ليكون جديرا بأن يظهر في الطليعة! وإني لأرى أبدا هذا الصنف من الخلائق على أشكال متقاربة في صورها.
ويندس بين هؤلاء «الفقهاء» الحمقى من «الجدعان» من أهل الحي الذي خرج منه الميت، وهم يخطرون جميعا في جلابيبهم «البلدية»، وإنما تتميز رءوسهم بأشكال من الطواقي و«اللاسات» وما شئت من أنواع «الكلبوش» وألوانه ...
وينطلق هؤلاء وهؤلاء في نشاط عجيب، وقد تأبط كل منهم ذراع جاره، ويطلقون حناجرهم بأفظع الأصوات وأنكرها، يستجمعون لها كل قواتهم، ويمضون في ترديد عبارة حفظوها، أو يتغنون بورد من الأوراد، لا يفترون ولا تكل حناجرهم أبدا، كل أولئك وهم يتمايلون ويتسابقون في النعيق على صورة أجدر أن تكون فرحا في موت هذا الذي يحملونه من أن تكون حزنا عليه، وإلا فكيف يكون هذا الزعيق، وهذا التهريج حزنا في أي وضع من الأوضاع؟!
ولو أن مفتنا في التهريج أراد أن يحشد «كرنفالا» من المهرجين، لما تعلق خياله بأبلغ وأروع من ذلك الكرنڨال الجنائزي.
وتأتي بعد ذلك الآلة الحدباء يحف بها من رهبة الموت وجلاله ما لا يتفق مع هذا التهريج المنكر أمامها ... ومن ورائها ذيل أسود طويل بغيض، لعله أشد نكرا من الطليعة؛ ويتألف من هؤالاء النسوة الماشيات أو الراكبات عربات «الكارو» ومنهن من تدور طرحتها حول عنقها كالحبل، ومنهن المصفقة كفا بكف، والمشيرة بمنديلها إشارات عجيبة مزعجة معا، والمولولة المترنحة ذات اليمين وذات الشمال؛ وأفظع من هؤلاء الصابغات وجوههن «بالنيلة» في شكل لا يمكن أن يتخيل معه أنهن ينتمين إلى بنات حواء ... ولا أريد أن أزعج خاطرك - أيها القارئ - بوصف أصواتهن التي تجيء مع ذلك الزعيق في المقدمة نشازا على نشاز، وشناعة على شناعة ...
وبعد، فهل في هذا شيء يتفق مع الدين أو يجوز في عرف معقول أو يليق بسمعة أمة؟ ... ولشد ما يوجع نفسي أن أذكر - وا أسفاه - أني رأيت مثل هذا المنظر مرتين في أسبوع واحد أمام دار الآثار مرة، وأمام دار البريد الكبرى مرة؛ فسألت نفسي والألم والخزي يحزان في صدري: ماذا عسى أن يقول نزلاء مصر عن حياتنا الاجتماعية إذا رجعوا إلى قومهم؟ وهل هم يرون «الأنتيكة» في مصر داخل «الأنتيكخانه» حقا؟ أم أنهم يرون ما هو أبلغ في معناه منها في شوارع العاصمة الكبيرة؟!
يا وزراة الشئون الاجتماعية ... هذا والله في صميم الشئون الاجتماعية ... «شيعي» هذا المنظر إلى حيث لا يعود، فهذا لعمري وعمرك خير من نشر ألف صحيفة من صحف الدعاية عن مصر والمصريين.
بين «دغف» وصعلوك ومغفل ...!
أبدا يظل الترام لمنظاري موضع فرجة لا تنفد، وذلك أنه من ناحية ملتقى ضيق يحشر فيه كل ساعة أنماط من الناس من هذا المضطرب الواسع الذي ندعوه المجتمع، ثم هو من ناحية أخرى المركب الوحيد الذي أتخذه في ذهابي إلى مقر عملي وفي أوبتي من هناك، فما كان لي وقد ضممت الفخر من أطرافه كما يقول مهيار وجمعت بين الحسنيين: وظيفة التدريس وحرفة الأدب، أن تكون لي سيارة، وبحسبي أن أركب كل شهر أو شهرين مع صديق في سيارته أو أن أزحم الناس لأتخذ لي موضعا بشق النفس في سيارة عامة هي والترام شيء واحد!
نامعلوم صفحہ