من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
اصناف
إن قرأت هذا الكتاب فأغضبك فإني أعيذك أن تلعنني، وإلا كنت كمن رأى صورته في المرآة فكرهها فحطم المرآة بغيا وظلما؛ وإن أنت أحببته وضحكت معي إذ أضحك، وتألمت معي إذ أتألم فحسبي جزاء أني أدخلت السرور على قلبك ساعات، وأني بعثت في نفسك شيئا من الألم الذي تطهر به النفوس.
محمود الخفيف
هذا المنظار ...
ضقت بالكتب حتى لأخشى أن ينقلب هذا الضيق قطيعة ليس بعدها صلة، والحق أني حائر في تعليل هذا الضيق الشديد، وأنا الذي ظل الكتاب زمانا مبعث أنسي وبهجتي، فلا أمله إذا قعدت، ولا أدعه إذا خرجت، كأنما كان ضرورة كالهواء الذي أتنفس فلا تقوم حياتي إلا به، أو كأنه بعض ملابسي التي لا أستطيع أن أبرح المنزل إلا وهي على جسدي، بل كثيرا ما خيل إلى رفاقي أني أستغني عن كل شيء ولا أستغني عن الكتاب، وإن كنت لا أفتحه بينهم إلا دقائق معدودات ...
أيكون مرد هذا الضيق إلى ما يبعثه طول الألفة من سأم؟ أم يكون مرده إلى أن الكتب وقد صارت عندي درسا وملهاة قد شغلتني عن كثير من متع هذه الحياة، فأنا أصدف عنها كيلا أنسى نصيبي من الدنيا، فأحرم من زينة الله التي أخرج لعباده؟
ولكني لا أرتاح إلى هذا السبب ولا إلى ذاك، ففي نفسي مما يبغض الكتب إلي ما هو أعظم خطرا مما ذكرت ... ذلك أنه قد استحوذ على قلبي خيال لا أدري ما إذا كنت فيه مخطئا أم مصيبا، وهو أن الكتب على طول صحبتي لها لم تعلمني شيئا مما ينبغي لي أن أعلمه من شئون هذه الحياة، ولا يزال هذا الخيال آخذا بخناقي يوسوس إلي أني إن جعلت كل همي إلى كتبي، فسوف ينقطع ما بيني وبين هذا الوجود ...!
ولا تحمل أيها القارئ كلامي هذا على المبالغة أو على المزاح فلو شئت لجئتك بألف دليل على ما يثبت لي العذر فيما أقول، وحسبك أن الكتب قد بينت لي كثيرا من أصول الفضائل وقواعد الخلق، فلما أتيح لي أن أتبين ذلك في سلوك من أخالط من الناس وجدتني في حيرة مما تقول الكتب، وأنكرت أكثر هؤلاء الناس وأنكروني، ولا شك أنهم رموني من الغفلة والحمق بقدر ما رميتهم بالضلال والسفه ...
وحسبك أن كثيرا من خلاني الأدنين - عفا الله عنهم - قد سخروا مني أكثر من مرة، سخرية كانت تنال من نفسي بعض الأحيان حتى لأهم أن أثبت لهم حماقتهم بالغضب منهم والثورة عليهم؛ فهم - سامحهم الله - يتهمونني بالغفلة إذا جادلتهم في أمر، كما أرى ذلك أحيانا في أعينهم وأحيانا في ألفاظهم، ولقد يجمعون على هذا إذ يجادلونني حتى لأوشك أن أطمئن إلى صوابهم، ومعنى ذلك الشهادة على نفسي أني مغفل، ولكني حين أذكر ما قرأت في الكتب لا ألبث أن أراهم بما يبدون من آراء من أكبر الحمقى، ومن عظماء المغفلين، أو هكذا يخيل إلي!
ولقد يصارحني من يجد نفسه في مأمن من غضبي، إما لكبر سنه وإما لسمو مكانته عندي أن أبرز عيوبي - وهي والحمد لله كثيرة - أني رجل خيال، أو بعبارة أصح رجل كتب لا أدري شيئا مما تقوم عليه الحياة بين من يفهمون الحياة، ومعنى هذا كما ترى أني جاهل غر، وإن كانوا ليصطنعون الذوق في شتمي إن جاز اصطناع الذوق في السباب!
وأكثر من ذلك لقد كان مرد كثير من أخطائي - وهي والحمد لله كذلك كثيرة - إلى جهلي بطباع من تربطني بهم صلة العمل الذي أكسب منه قوتي، أو قل: إلى جهلي بمبادئهم، ولطالما سبب لي ذلك كثيرا من العنت والحيرة وأظهرني عندهم بمظهر المشاغب الذي يحب المعارضة والمماحكة في سبب وفي غير سبب، وما بي والله شيء من حب الشغب ولا كانت المماحكة من طبعي، وإنما هي الكتب - لعنها الله - تريني أنني على حق إذا تدبرت ما تقوله، وأنهم غارقون في الباطل إلى أذقانهم الجليلة؛ وأظل حائرا أأسير طوع الكتب فلا أفرغ من الخصام والحرب، أم أسير وفق مبادئهم وسلوكهم، فأغنم الهدوء والسلام وعلى الضمير والخلق والفضيلة ألف تحية وألف سلام؟
نامعلوم صفحہ